﴿ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾

المعنى: تحقيق أن موسى عليه السلام قد جاءكم - معشر يهود - بالبيِّنات أنه لا إله إلا الله وأنه رسول الله: من الطوفان والجراد والقمَّل والضفادع والدم والعصا، وفلق البحر وتظليلهم بالغمام، والمن والسلوى، وضرب الحجر، علَّ ذلك يحرِّك قلوبكم فتؤمنوا ولا تعصوا، إلا أنكم - بمجرد ذَهابه إلى جبل الطور- كفرتُم باتخاذكم العجل معبودًا من دونه تعالى.

الوقفات:

1- أهمية الحجج والبراهين والاستدلالات القطعية في الدعوة إلى الله تعالى، ومنه تعدُّدها لتكون أمكنَ في الاستدلال وأوقع في الإفهام، وأقطع لحجة المخالف.

2- التأثير على المدعو بمخاطبته استشرافًا لقَبوله وتفاؤلًا بانقياده.

3- تضمين الداعية أساليبَ التوكيد في أسلوب الدعوة كون ذلكم أدعى لقوة الحجة وسلامة المنهج؛ لتثمر قبولها وتؤتي أُكلها، وأفيده من ورود اللام الواقعة في (ولقد)، وحرف التحقيق (قد)، ودلالة الفعلين الماضيين (جاءكم) و(اتخذتم).

4- ذكر اسم الرسول المبلغ عن الله رغم كونه معروفًا لديهم، أدعى لتقبُّلهم له وأمعنُ في الحجة عليهم، كونه منهم وينطق بألسنتهم، فلم يأت بأساطير يدَّعونها؛ كما قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الفرقان: 5]

5- تضافر الحجج والبراهين أقطع لاحتجاج المدعو، وأدعى لاستسلامه، فلم تبقَ له حجة يركَن إليها، أو مزاعم يؤول إليها، وذلكم لقوله تعالى: ﴿ بِالبَيِّنَاتِ ﴾؛ اذ ليست بيِّنة واحدة أو اثنتين.

6- ظهور الخطأ وقلة العلم لدى من يتَّخذ معبودًا غير الله مهما زعَموا من علمٍ أو توهَّموا من سلطانه، بدليل اتخاذهم عجلًا - لا يملِك لهم ضرًّا ولا نفعًا - إلهًا من دون الله تعالى.

7- استعداد القلوب المريضة لتلقِّي الشبهات؛ إذ بمجرد ذهاب نبي الله موسى عليه السلام لملاقاة الله تعالى، وإذ بهم يتخذون العجل إلهًا من دونه تعالى.

8- ومخاطبتهم بالكفر تبكيتًا للكفر وللكافرين معًا، ولعلهم أن يستيقظوا من غفلتهم، ويفيقوا من سكرتهم؛ نيلًا لرضا الرحمن، وتحقيقًا للسعادة والعيش في أمان؛ ذلك لأن الله تعالى قال: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82].

9- وقيامهم بالكفر جمعًا موجبٌ للشفقة داعٍ للحسرة على قوم قال الله فيهم: ﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 146، 147]. في سياق مهيبٍ قبيل ذكر اتخاذهم (عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَار)؛ كما قال تعالى: ﴿ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 148].

وهو دليل ضَعف قلوبهم وخواء أفئدتهم، وتهافت مزاعمهم؛ إذ إن عجلًا هذه صفاته كونه: عجلًا جسدًا له خوار، لا يكلِّمهم ولا يهديهم سبيلًا، وكلها نعوت داعية إلى خيبة مَن اتخذوه إلهًا من دونه تعالى من بعدها، وإلى تطامن سَفههم؛ إذ العقل السليم والفطرة السوية إنما تعبد من يهديها سواء السبيل لا خبط عشواء كما يفعلون.

10- أهمية القائد وأثره في حفظ عقيدة الأمة؛ اذ في وجود سيدنا موسى عليه السلام لم تشر الآيات إلى انحرافهم العقدي، في الوقت الذي سارعوا فيه إلى الارتداد بمجرد ذهابه عنهم، وأفيده من قوله تعالى: ﴿ من بعده ﴾، وانظر إلى ردة وقعت بعيد وفاة رسولنا محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وذلك لِما له من هيبة وهبَه الله تعالى إياها، ولِما له من حجة بالغة يمحو بها آثارَ انحرافاتهم، ولِما حباه تعالى به من قوة في الإجابة عن تساؤلاتهم، بيد أن الله تعالى كان قد قيَّض لها أبا بكر فمحاها، فحفظ الله به قواعد الدين وحماها.

11- والنعي على - يهود - في عدم الإيمان برسالة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ لديهم رصيد تمرُّد على أنبيائهم من قبلُ.

وشاهده خطابهم في قوله تعالى: (جاءكم)، كونه من الله تعالى إليهم زمن الرسول محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.

12- وتعريف العجل شارةٌ عليهم وزيادة نكير على فِعلهم، ولا زالوا يعرفون بصنيعهم الذي لم تعرِفه أمةٌ مثلهم بأنهم (عبدة العجل) في نعت معيب.

13- وتعريف العجل يوحي بأنه كان معروفًا لديهم.

14- وتقديم المفعول به (العجل) على شبه الجملة (من بعده) للاهتمام؛ إذ هو محل النكير عليهم.

15- وورود حرف العطف (ثم) يوحي بزيادة سبب النكير عليهم؛ إذ مرَّت فترة على اتخاذهم إياه معبودًا لهم من دون الله، والأصل أن مرور هذه الفترة - ولو كانت قصيرة - مؤذن بالروية والتفكير والتأثر بالبيِّنات لإعمالها أثرها في الإذعان والقبول.

16- ودلالة واو الحال في قوله تعالى: (وأنتم)؛ لبيان حالهم والتشنيع على حالهم السيئة باتخاذهم العجلَ معبودًا لهم من دون الله تعالى.

17- وجملة (وأنتم ظالمون) جملة حال؛ بيانًا لحالهم التي هم عليها، ووصمًا لنعوتهم التي هم قائمون بها، وذلكم أدعى لتبكيتهم لِما هم عليه من كفر بالله وشرك به تعالى.

ومجيئها حالًا جملة اسمية أدعى للصوق حالهم بهم، واستمراره استمرار مُكثهم على ضلالهم، وهي صورة كئيبة تشي بالإقلاع وتوجب الانصياع لمنهج الله تعالى رب العالمين.

18- وورود المسند إليه (أنتم) ضمير فصل بتسديد الخطاب إليهم اختصاصًا لهم بالخطاب ونكيرًا عليهم بالعدوان.

19- وذكر الحال جملة حالية بركنيها المسند والمسند إليه - وليس مفردًا - نذيرُ تمكُّن الظلم منهم وتأصُّله فيهم.

20- والكفر بالله تعالى ظلم؛ كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82]، وأي ظلم أعظم من إعطاء حق الله وهو إفراده تعالى بالعبادة لغيره؟!

21- عموم هذه الآية لكل شارد عن الهدى واشتمالها لكل ناكص عن سواء السبيل، وتلك من فوائد ذكر القصص؛ إيقاظًا للغافلين وتنويهًا بالمعتبرين بسِيَر السالفين وتاريخ الغابرين.

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/135067/#ixzz5sRCnyzyS