إن للإيمان وبشاشته لأثرا محمودا في سيرة الإنسان عموما، وفي مجال دينه وعقيدته خصوصا.

وتعرضٌ لهذا الجانب ضرورة ألفيتها، ولما وجدت لها من ثمار ندية، في بيان  إيمان قوم مؤمنين، لتحسبهم من بعد رضائهم بأقدار الله تعالى فيهم، وكأنهم المصابيح في الدجى، أو كأنهم الهادون في الظلمات! وقد كان منه ذلكم.

ولقد ضرب الصحابة رضي الله تعالى عنهم أروع مثال وأحسنه في تمكن الإيمان من قلوبهم، حتى أثمرت في الواقع لهم بشاشة، جعلتهم يحسنون إدارة  البلاء في الله تعالى ربهم الحق سبحانه، وما كان لأحد منهم أن يفعل ذلك، إلا لأن بشاشة إيمانهم هي التي أفرزت لهم ذلكم  الصبر والتحمل والفداء.

فها هو بلال بن رباح رضي الله تعالى عنه يمثل قدوة تحتذى صبرا على البلاء واحتسابا، لما قد وقع به وأصابه من ضراء، هي أقل ما يكون في حساب المخلصين، حيث كان" أول من أظهر إسلامه سبعة رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد، فأما رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدراع الحديد، وصهروهم في الشمس، فما منهم إنسان إلا وقد واتاهم على ما أرادوا،، إلا بلال فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأعطوه الولدان، وأخذوا يطوفون به شعاب مكة وهو يقول : أحد أحد"(1).

وقال محمد بن إسحاق "حدثني هشام بن عروة عن أبيه قال كان ابن نوفل يمر ببلال وهو يعذب على الإسلام، وهو يقول أحد أحد"(2).

ومن ذلك ما حدث للزبير بن العوام رضي الله عنه من تعذيب عمه له، كما أخرج الحاكم عن أبي الأسود عن عروة قال: وعن أبي الأسود قال أسلم الزبير بن العوام وهو ابن ثمان سنين، وهاجر وهو ابن ثمان عشرة سنة، وكان عم الزبير يعلق الزبير في حصير، ويدخن عليه بالنار، وهو يقول ارجع إلى الكفر، فيقول الزبير: لا أكفر أبدا!. رواه الطبراني ورجاله ثقات إلا أنه مرسل(3).

 ومنه بلاؤه رضي الله تعالى عنه يوم الأحزاب، فقد أخرج الإمام البخاري رحمه الله تعالى عن عبد الله بن الزبير ، قال : كنت يوم الأحزاب جعلت أنا وعمر بن أبي سلمة في النساء ، فنظرت فإذا أنا بالزبير ، على فرسه ، يختلف إلى بني قريظة مرتين أو ثلاثا ، فلما رجعت قلت : يا أبت رأيتك تختلف ؟ قال : أوهل رأيتني يا بني ؟ قلت : نعم ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : من يأت بني قريظة فيأتيني بخبرهم . فانطلقت ، فلما رجعت جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه فقال : فداك أبي وأمي)(4). ودلك صنيعه ذاك أنه يمكن ألا يعود! لكنها التضحية، ولكنه البذل!

ودلنا التاريخ عن فتى مكة المدلل، أو هكذا أطلق عليه، وهو الصحابي الجليل مصعب ابن عمير رضي الله تعالى عنه، وكيف تحول من كذلكم وصف إلى وصف آخر، كما أَخْرَجَ ابْنُ سَعَدٍ عَنْ مُحَمَّدٍ الْعَبْدَرِيّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ مُصْعَبُ بْن عُمَيْرِ فَتَى مَكَّةَ شَبَابًا وَجَمَالاً وَكَانَ أَبَوَاهُ يُحِبَّانَهُ وَكَانَتْ أُمُّهُ مَلِيئَةً – أَيْ غَنِيَّة كَثِيرةَ الْمَالِ- تَكْسُوهُ أَحْسَنُ مَا يَكُونُ مِنَ الثِّيَابِ، وَأَرَّقَهُ، وَكَانَ أَعْطَرُ أَهْلِ مَكَّةَ، يَلْبِسُ الْحَضْرَمِيُّ مِنَ النِّعَالِ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُهُ وَيَقُولُ: «مَا رَأَيْتُ بِمَكَّةَ أَحْسَنَ لُمَّةً، وَلا أَرَقَ حُلَّةً، وَلا أَنْعَمَ نِعْمَةً مِنْ مُصْعَب بْن عُمَيْرٍ»(5).

وأخرج ابن حجر رحمه الله تعالى عن محمد بن كعب هو القرظي : حدثني من ، سمع علي بن أبي طالب ، يحدث قال : خرجت في غداة شاتية من بيتي جائعا حرضا قد أوبقني البرد ، فأخذت إهابا معطونا به ، قد كان عندنا فجبته ثم أدخلته في عنقي ، ثم حزمته على صدري أستدفئ به ، والله ، وما في بيتي شيء آكل منه ، ولو كان في بيت النبي صلى الله عليه وسلم لبلغني ، فخرجت في نواحي المدينة ، فاطلعت إلى اليهود في الحائط من ثغرة جداره ، فقال : ما لك يا أعرابي ؟ هل لك في كل دلو بتمرة ؟ فقلت : نعم ، فافتح الحائط ، ففتح لي ، فدخلت أنزع دلوا فيعطيني تمرة حتى ملأت كفي ، قلت : حسبي منك الآن فأكلتهن ، ثم كرعت في الماء ، ثم جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجلست إليه في المسجد , وهو في عصابة من أصحابه ، فاطلع علينا مصعب بن عمير في بردة له مرقوعة ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ما كان فيه من النعيم , ورأى حاله التي هو عليها فذرفت عيناه فبكى ، ثم قال : كيف إذا غدا أحدكم في حلة وراح في أخرى وسترت بيوتكم كما تستر الكعبة ؟ قلنا . نحن يومئذ خير ، نكفى المئونة ، ونتفرغ للعبادة . قال : أنتم اليوم خير منكم يومئذ"(6).

وهذا هو(عمار بن ياسر أبو اليقظان العنسيُّ وهو بطن من مراد- وعنس هذا بالنون-، أسلم هو وأبوه وأمه وأسلم قديماً ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، في دار الأرقم بن أبي الأرقم بعد بضعة وثلاثين رجلاً، أسلم هو وصحيب في يوم واحد، وكان ياسر حليفاً لبني مخزوم، فكانوا يخرجون عماراً وأباه وأمه إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء يعذبونهم بحر الرمضاء، فمر بهم النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة. فمات ياسر في العذاب، وأغلظت امرأته سمية القول لأبي جهل، فطعنها في قلبها بحربة في يديه فماتت، وهي أول شهيد في الإسلام، وشددوا العذاب على عمار، بالحر تارة، وبوضع الصخر على صدره أخرى، وبالتغريق أخرى، فقالوا: لا نتركك حتى تسب محمداً، وتقول في اللات والعزى خيراً، ففعل، فتركوه، فأتى النبي، صلى الله عليه وسلم، يبكي. فقال: ما وراءك؟ قال: شر يا رسول الله، كان الأمر كذا وكذا. قال: فكيف تجد قلبك؟ قال: أجده مطمئناً بالإيمان. فقال: يا عمار إن عادوا فعد، فأنزل الله تعالى: {إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ} النحل: 106؛ فشهد المشاهد كلها مع رسول الله، وقتل بصفين مع علي، وقد جاوز التسعين، قيل بثلاث، وقيل بأربع سنين)(7).

وقد شهد له الرسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ملئ عمار إيمانا إلى المشاش وهو ممن حرم على النار(8). والمُشاشُ: هي رُؤوسُ العِظامِ.

هذا ؛ ولئن ذكر لنا التاريخ عن أم عمار فإنه قد خلد لنا ذكرا من غيرها، نساء فضليات أبلين بلاء حسنا في سبيل الله تعالى ربهم الحق نصرة لدينه وصبرا على البلاء فيه سبحانه، فهذه هي  الصحابية الجليلة''الزِّنِّيرة'' رضي الله تعالى عنها، وقد أورد أبو نعيم عنها خبرا فيما رواه "عن محمد بن إسحاق ، قال : حدثني هشام بن عروة بن الزبير ، عن أبيه ، قال : أعتق أبو بكر معه على الإسلام قبل أن يهاجر إلى المدينة ست رقاب بلال سابعهم ، منهم زنيرة ، فأصيبت ببصرها حين أعتقها ، فقالت قريش : ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى ، فقالت : كذبوا وبيت الله ما تضر اللات والعزى وما تنفعان ، فرد الله إليها بصرها"(9).

وهي قوة إيمان الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وعنها لا تسل، وهو وضوح عقيدتهم في الله تعالى ربهم الحق، إذ كانوا جميعا وكأنما قد تعلموا على مائدة واحدة، ويتشربون دينهم من معين واحد، هو معين نبيهم محمد رسول الله ﷺ.

وقال ابن القيم - رحمه الله - عن كلام هرقل : "فاستدل بما يحصل لأتباعه مِن ذوق الإيمان الذي إذا خالطت بشاشته القلوب لم يسخطه ذلك القلب أبدًا، على أنه دعوة نبوة ورسالة، لا دعوة  ملك ورياسة"(10).

وقال رحمه الله تعالى: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: "إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك وانشراحاً فاتهمه! فإن الرب تعالى شكور؛ يعني: أنه لابد أن يثيب العامل على عمله في الدنيا من حلاوة يجدها في قلبه وقوة انشراح وقرة عين فحيث لم يجد ذلك فعمله مدخول"(11).  

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي مِن بلدي سياحة"(12).

 (1)[ مسند أحمد، الصفحة أو الرقم: 5/319]. وقال المحدث أحمد شاكر: إسناده صحيح. 

(2)[تاريخ دمشق، ابن عساكر:(10/441)].

(3)[مجمع الزوائد - الهيثمي - ج ٩ - الصفحة ١٥١ ].  

(4)[صحيح البخاري،  كتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم،  باب مناقب الزبير بن العوام،  حديث رقم، 3548].

(5)[طبقات ابن سعد:ج3/ 82].

(6)[ المطالب العالية للحافظ بن حجر كِتَابُ الرَّقَائِقِ بَابُ عَيْشِ السَّلَفِ، حديث رقم: 3230].

(7)[ كتاب: الكامل في التاريخ، ابن الأثير:37].

(8)[مصنّف بن أبي شيبة، كِتَابُ الْفَضَائِلِ، مَا ذُكِرَ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: 31635 ].

(9)[معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني، حديث رقم: 7024].

(10)[ مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، أبي عبد الله محمد بن أبي بكر/ابن قيم الجوزية: ج3/67].

(11)[مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، أبي عبد الله محمد بن أبي بكر/ابن قيم الجوزية:2/68].

(12)[الوابل الصيب من الكلم الطيب، ابن القيم - صفحة 43].