إنه حسن أن ينظر إلى فعل أبي لبابة، وحين أشار بيده إلى حلقه، وأمر عليه أصابعه، يري بني قريظة إنما يراد بهم القتل، على أنه ليس خيانة، كما قد يبدو أو قيل! ولأن حصارا سبق، ومآله مفض إلى قتل، وحين لا تفلح وسائل الإذعان الأخرى! ولرب تهديد بالقتل كان أرشد؛ لحملهم على الرجوع، وقبول الحق، والتوبة من إثمهم!

إن التلويح باستخدام القوة عرف عسكري ماض، وهذا ما يبدو أنه كان متكأ أبي لبابة يوم بني قريظة، وعلى الأقل تأولا، ولتأثمه، لأنه ولئن كان عرفا عسكريا، لكنه لم يأخذ به الإذن من القائد النبي ﷺ، وهذا عرف عسكري أيضا. وبه أدخل نفسه في فقه موازنات، ربما لم يحالفه التوفيق فيه، ومنه كان تأثمه رضي الله تعالى عنه.

إن قاعدة إحسان الظن بالأخ المسلم مقدمة! وهذا الذي يتبدى لنا من فعل أبي لبابة يوم بني قريظة! ولئن كان متأولا، وكما وقع ذلك من غيره، كحاطب بن أبي بلتعة، وعلى كل حال فهذه مسائل، ينظر إليها من باب التماس الأعذار لفاعليها، وحملها على تأولهم، أصابوا أم لم يحالفهم حكم ربهم سبحانه، ولأن الأصل في الأخ المسلم هو براءة الذمة!

إن صحبا كأبي لبابة، وإذ كان الأصل فيهم علو همتهم، وبعدها عن مواطن التهم والريبة في دينهم، إلا أننا أمام بشر، قد يصيبون، وكحكم السماء، كسعد بن معاذ، أو لم يكونوا كمرتبته دينا فتأولوا، ولكن العمد عنهم بعيد، كما سماء عن أرض! واذ حسن وضع أمور كهذه في نصابها هذا، ولا نتعداها، ولأننا أمام قوم نزل بينهم القرآن، وكان فيهم نبينا العدنان ﷺ!

إنه حسن النظر إلى فعل أبي لبابة يوم بني قريظة، ومن حيث قال: والله لا أنظر في وجه رسول الله ﷺ، حتى أحدث لله توبة نصوحا، يعلمها الله من نفسي: وكيما لا نقف متحسرين أو مبهورين، وأمام تأول، قد يلهينا عن مثل هزة أحدثت فيه توبة تقشعر منها القلوب والأبدان! ولرب ذنب أحدث توبة كهذه، كان سببا في سمو صاحبه، وإلى الملأ الأعلى؛ ليعود عبدا ربانيا، وهذا شاهده! ولأن المسلم ليس سلبيا يقف أمام الحدث متباكيا، وإنما كان المسلم إيجابيا، ومن إيجابيته تحويله العمل السلبي إلى آخر إيجابي، وكمثل توبة من ذنب، يرقي بها آفاق الخير والهدى والصلاح والتقوي.

إنه وحين رجع أبو لبابة إلى المدينة يوم بني قريظة فربط يديه إلى جذع من جذوع المسجد، وقريبا من عشرين ليلة! فإن هذا ما يلفت النظر، خيرا من الوقوف والتباكي حول قول صدر منه تأولا، كان من ثمرته فعله هذا، وكأنما ضاقت به الأرض وبما رحبت! وهذا الذي نتأساه، وحين اقتراف ذنب ماذا نحن فاعلون؟! أو كأنما مرت ذبابة فقلنا بها هكذا! وكأن لم يكن شيئ! أم كأبي لبابة يربط نفسه في عمود مسجد حتى ينزل فيه قرآن؟!!!

أما فرغ أبو لبابة من حلفائه؟ فذكر له ما فعل. فقال: لقد أصابته بعدي فتنة، ولو جاءني لاستغفرت له، وإذ قد فعل هذا فلن أحركه من مكانه، حتى يقضي الله فيه ما يشاء[].[ البداية والنهاية، ابن كثير:ج ٤ / ١٣٧]. هذا ما يغيب عن بال الكثرة الكاثرة، وحين يسترهم ربهم بستره، فيسارعون يعلنون هم وقيعتهم! وحري ستر عبد على نفسه، ويتوب توبة نصوحا، بينه وبين ربه تعالى، ليجده تعالى غفورا رحيما، وأما إذا رفع الأمر للسلطان، فينتظر حكم السماء! غفور رحيما

وهذا بيان لأهمية إحاطة العبد نفسه بإخوان الهدى، يعينونه ويذكرونه، ولا يخلون إلى وسواس الشياطين، فإن الوحدة ذئب كاسر، وإن الفراغ ظلام حالك.

وفيه حلمه ﷺ برعيته، وإذ لو جاءه أبو لبابة لاكتفي حينها باستغفاره ﷺ له، وقمن أن يستجيب الله له! وقضي الأمر!

وهذا بيان تقدير  نبي لربه تعالى، وقاف على أمره، متشوف لحكمه ومغفرته ورحمته، وهذا هو مطلق سن الظن بربنا سبحانه وتعالى، وهذا نبينا وإذ هو نازل على شرعه، لا يتقدم عنه، ولا يتأخر شيئا، مما يمكن عده شيئا!

كان اقتراح كعب بن أسد بمتابعة نبينا لأنه الحق مثار دهشة ليهود وحين رفضوا اقتراحه غير مائلين عن التوراة ميلة واحدة! وهاهم يعلمون كم بدلوها.

حين حاصر نبينا بني قريظة خمسة وعشرين يوما أدلى كعب بن أسد بتصريح ينبئ بحق أولي وحين كان أول اقتراح له هو متابعة نبينا ﷺ ولعلمهم أنه الحق!

أما فرغ أبو لبابة من حلفائه؟» فذكر له ما فعل. فقال: «لقد أصابته بعدي فتنة، ولو جاءني لاستغفرت له، وإذ قد فعل هذا فلن أحركه من مكانه، حتى يقضي الله فيه ما يشاء. إن العبودية وحين تتمتع بذلكم نصيبها من الإخلاص والصدق فإننا تكون سلطة توجيهها امرا أو نهيا إنما هو الله تعالى  ورغم ان سننا أمرنا من رسولنا ﷺ إلا لأننا الٱن في مجال آخر هو إعلان العبودية لله تعالى وحده ومن ثم يكون أمنا سلطانه وحكمه وأمره ونهيه كل ذلك في صورة واحدة من أمامنا

حين أشار كعب بن أسد على يهود اتباع نبينا ﷺ قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا، ولا نستبدل به غيره: وهكذا حين يبدلون كلام الله وباسم الله وما أكثرهم في الموجود!

قالت يهود: لا نفارق حكم التوراة أبدا، ولا نستبدل به غيره! وهم الذين غطوا حكم التوراة بأيديهم في حكم الزنا وغيره!

حين قال كعب بن أسد: نتابع هذا الرجل ونصدقه، فو الله لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل، وأنه للذي تجدونه في كتابكم، فتُأمنون به على دمائكم، وأموالكم، وأبنائكم، ونسائكم! قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا، ولا نستبدل به غيره! وهذا حكم التوراة سالف البيان! وهكذا حين يبدلون كلام! وهكذا حين يحرفون الكلم عن مواضعه! وهكذا حين تستأمن أمة على كتاب ربها فيفعلون به الأفاعيل!

إن اقتراح كعب بن أسد متابعة نبينا ﷺ لانخرجه إلا على كونه كان مستندا على أن هذا ما جاءت به التوراة لا على أنه قول بشر! ولأن البشر يخطؤن أكثر مما يصيبون وحين لا يرتكنون إلى منهج الله تعالى ولأنهم كثيرا ما يقولون: هذا خلال وهذا حرام في إطلاق أعنة أهوائهم وكثيرة ما يلفونها بشبيه علم لتنطلي ولكنها لاتنطلي! ومن من راسب في حقول الدعوات ولما حاد ولما حرف الكلم عن مواضعه.

خير كعب بن أسد يعود نزولا على الإسلام أو قتل نسائهم وأولادهم ومنازلة نبينا ﷺ! وهذا أيضا محض جرأة على حدوده تعالى وإذ من اعطاه سلطة قتل حرمها ربها إلا بالحق؟! وهكذا أيضا حين تحريف الكلم عن مواضعه فيرتكب باسمه ما يشيب منه الولدان!

إن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق مناف لفطرة قوم خلقوا بها ولو بقية من حق! برهان إجماع يهود على رفضها وحين كانت خيارا أشار كعب بن أسد به!

أشار كعب بن أسد على يهود كخيار ثالث أن يفجأوا نبينا ﷺ يوم سبتهم! وهكذا لأن يوم سبتهم هو بدعهم وكما ابتدعوه إنشاء فهاهم يبتدعون مخالفته وهذا برهان فساد البطانة وحين تستأمن على دينه تعالى فيقولون ما منه تقشعر جلود الذين آمنوا!

كان ملخص عرض كعب بن أسد على يهود:

١- متابعة محمد ﷺ.

 2- قتل نسائهم وأبنائهم!

3- منازلة محمد ص فجأة يوم سبتهم!

وقد رفض الملأ الأعلى من يهود هذه الخيارات الثلاث أجمعها!

حين رفضت يعود اقتراحات كعب بن أسد. راحوا إلى أبي لبابة والذي لم يمهلهم وحين توعدهم بالذبح! ولحملهم على اتباع نبينا ﷺ ، وإن كان مأخذ الإعلان عن خطة العسكرية كانت السرية أهم مبادئها مازال لصيقا به وهو ما جعله نادما ليربط نفسه في عمود المسجد عشرين يوما!

حين طلب بنو قريظة أبا لبابة وسيطا بينهم وبين نبينا ﷺ وموافقته ﷺ على ذلك برهان إعطاء فرصة للمفاوضات بين أطراف النزاع ولعلهم يتوصلون إلى حل مرض للأطراف جميعها!

إن موافقة نبينا ﷺ على منح فرصة للمفاوضات بينه وبين بني قريظة وليكون درسا يسجله التاريخ أن نبينا ﷺ لم يدع فرصة لحقن الدماء إلا وسلكها برهان سلمية ديننا وعنوان حرصه على ألا تراق قطرة دم واحدة إلا وحين لم يكن خيار دونها!

حين أرسل رسول الله ﷺ أبا لبابة الى بني قريظة، فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه فرق لهم: وهكذا صنيع يمكن أن يكون هاديا للتأثير في مجريات للمفاوضات إعلاما مساندا للوصول إلى مكاسب لكل طرف وعلى قدر إعلامه ههنا!!

إن خروج النساء والأطفال يبكون يوم قدوم أبي لبابة وسيطا مفوضات بينهم ونبينا ﷺ برهان محاولة للتأثير الإعلامي المصاحب لهكذا مفاوضات هادئة وكان من هدوئها اختيار رجل يكون موافقا عليه من كلا طرفي النزاع ومن ثم محاولة للتأثير فيه للوصول إلى نقطة اتفاق بينهما.

وقالوا يا أبا لبابة: أترى أن ننزل على حكم محمد؟

قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح.

لست أرى في هذا خيانة أبدا! ولئن  أسماها ابو لبابة خيانة!!

ولان الرجل لم يخن ثابتا من ثوابت دينه!

الاهم إنه لم يأخذ الإذن بروح بسر عسكري وليس بسر إذا أن إفضاء الخصومة إلى حرب هذا عرف معروف سلفا وحين لم تفلح محاولات الوساطة والتحكيم والمفاوضات. وبحيث لم يبدو أمامنا إلا أنه لم يستشر في ذلك القائد الأعلى للقوات المسلحة.

يا أبا لبابة: أترى أن ننزل على حكم محمد؟ هذا سؤال بني قريظة.

قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح. وهذا جواب أبي لبابة:

١- نعم انزلوا على حكم محمد ﷺ! وهل في ذلك خيانة أم أنه مطلق وخصوص الأمانة؟!

٢-وأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح. وهذا ما يؤول إليه أمر التنازع عادة وحين لم تفلح محاولات الصلح.

وبه فتبرأ ساحة أبي لبابة. اللهم إفشاؤه لسر عسكري دون الرجوع إلى مركز القيادة والسيطرة. بتأويل رآه أول أمره حسنا!  برهان ربطه نفسه في عمود المسجد إلا أن تنزل فيه توبة!

حين رأى ابو لبابة من نفسه إثما قال: لا أبرح مكاني حتى يتوب الله على ما صنعت، وعاهد الله أن لا أطأ بني قريظة أبدا، ولا أرى في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا.

١-لا أبرح مكاني حتى يتوب الله على ما صنعت. وهذا صدق توبة بحد ذاته وأنه تعالى قال: وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات.

٢- وهذا إشعار عبد نفسه حسن ظنه بربه وأنه تعالى سوف يتوب عليه درسا لغيره أن يحسن ظنه بربه.

٣- إعلان تخليه عن الوساطة بين طرفي النزاع، نبينا ﷺ وبني قريظة. خشية تأثير فيه اكثر مما جرى ولعاطفة بشرية من بكاء الأطفال والنساء نجحت يهود في الكيد له بها.

٤-ولا أرى في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا.

هذا برهان صدق التوبة وأن منها مفارقة مكان المعصية خشية التأثير البيئي وأن خلاص بالناس أولى!