المعنى:  فلما جاء موسى النارَ ناداه الله وأخبره أن هذا مكانٌ قدَّسه الله وباركه فجعله موضعًا لتكليم موسى وإرساله، وأن الله بارك مَن في النار ومَن حولها مِنَ الملائكة، وتنزيهًا لله رب الخلائق عما لا يليق به. يا موسى إنه أنا الله المستحق للعبادة وحدي، العزيز الغالب في انتقامي من أعدائي، الحكيم في تدبير خلقي.[التفسير الميسر].

هذه هي الآية الثامنة من سورة النمل. وقد جاءت بعد ذكر نبأ نبي الله موسى عليه السلام. مما يضفي عليها سكينة وجوا هادئا رغم ذكر النار وما اتصفت به من لهيب وما نعتت به من حميم. ذلك لأنها جاءت أيضا ردف قوله تعالى (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى ٱلْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ)[النمل:6].طمأنة لعبده ورسوله محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. وهذا يدفعنا إلى القول دفعا لاريب فيه أن القرآن أمن يورث أمنا، وأن ذكرسيرالأنبياء تسلية تورث تسلية هي الأخرى لأرباب العلل وذوي الابتلاءات. وأن ذكر النار رغم حميمها أورث سكينة لتلقي أمر الله تعالى يوم أن يسلبها سبحانه خاصية الإحراق. كما في(قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ)[الأنبياء:69].وهذا كله جميع مؤتلف يوقفنا عند إعجاز الكتاب المجيد بما حوى من آي وبما تسربل من عطاء.

 وطبع الناربطابع الإيناس رحمة من الله ونعمة. ذلك لأن الله تعالى خالقها أراد لها أن تؤنس! وذلكم بخلق أسباب هي سنته تعالى الجارية في كل شأن. كيما نتعلم نحن أخذا بها لكيلا لايغلب على أحدنا انتظار السماء أن تمطره ذهبا أو فضة بينما هو متكيئ على أريكته فلا يذوق طعما لحلاوة عمل أو أثر بذل! ومنه ألقى الله تعالى السكينة في روع عبده ونبيه موسى عليه السلام. ذلك لأنه قال(إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً ).ليأنس من بعده كل مكلوم من قومه يوم أن واجهوه وهو يدعوهم إلى الله تعالى.  

ولعل أنسا كان سببه تيكم وحشة من طريق أو شدة  من برد كانتا سببا لإيجاب ذلكم أنس بالنار! خاصة إذا علمنا أنه كان بصحبة أهله معه ليلته تلك، وما يمكن أن تكون عليه المرأة من رقة طبع لا كالرجال تجاه عوامل الطقس المختلفة بردا كان أو حرا. ومنه أفيد اهتمام الإنسان برفقته؛ خاصة إذا كانوا من ذويه. من أمه وأبيه وزوجه وأخيه. فذلكم من خلق الإيثار، وتيكم شامة الأخيار.

ومن أنس ورود التعبير بالمجيئ دون الإتيان. وهو لفظ يوحي بظلال الهدوء والطمأنينة اللذين أودعا في قلب كليم الله تعالى موسى عليه السلام. وذلك في مقابلة لفظ الإتيان وما يحمله من شدة وما يصطبغ به من قوة. لكن لأنه تعالى أراد الإعجاز فثم هو!. لتسلب النار طبيعتها من إيلام إن في شكلها، وإن في لونها، وإن في لهيبها، وإن فيما تلقيه من نعوت الرجفة والوجل والإيلام في نفوس الذين يرونها بهذا الكيف وذلك الاختصاص. وهو ما يقف بنا مرة أخرى أمام لوحة من الدعة والركون والهدوء والسكينة يوم أن يريد الله تعالى لعبد من عبيده سكينة كرما منه تعالى وفضلا.

لكنه من سبيل الإعجاز أيضا إعداد النار في وهجها وتهيئتها وفي ذلكم الوقت خصوصا لأن الله تعالى سبق في علمه أن عبدا من عبيده سيمر ليلقاها مؤتنسا بها!

ومنه أفيد استقامة لعبد على الطريق كموجب لداعية الصلاح ومن ثم سببا لنيل الفلاح.

والتعبير بفاء العاقبة مما أوحي الله تعالى في (فَلَمَّا) مؤذن حقا بشيوع الاطمئنان الذي أراده الله تعالى أن يشيع مؤانسة لعبده وطمأنة لنبيه. ومنه نفيد ثقة العبيد في ربهم الرحمن سبحانه يوم أن يقوموا بأمره. لأنه تعالى معهم ناصرا ومعينا. ومنه أيضا يرتكن أصحاب الدعوات حينها إلى ركن شديد وما أشده، وعلى ناصر معين وما أنصره لعبيده. ذلك لأنهم قاموا بأمره دعاة إلى دينه نابذين الشرك والشركاء. مما أضفى عليهم لباس العزة والكرامة معا. كما وأن فاء العاقبة مؤذنة أيضا بإقدام منقطع النظير حين يتلقى عبد أمر ربه ومولاه سبحانه. فلاثمة تلكؤ في الاستقبال ولاثمة مماحكة في التنفيذ. ذلك لأنه(قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)[الشعراء:62].فطمأنينة العبد إلى معية ربه تسوقه سوقا إلى الهدى، كما وأنها معينة له على مجابهة الباطل ولوكان وحده.

وجملة (جاءها)مختصرة أيما اختصار. ذلك لأنها تضمنت الفعل وفاعله المستتر ومفعوله ضميرا متصلا مما أكسبها حلاوة وكساها طلاوة لائقة بتعبيرات الكتاب المجيد. ذلك الذي نعته منزله بقوله(الْقُرْآَنَ) بصيغة المصدر الحاملة لكل معنى حميد والواهبة لكل وصف جميل. كما أنها تفي بمقصودها حين جاءت بهذا الاختصار لنفيد منه اختصارا غير مخل لما نقول أو بيانا غير ممل لما ننثر. كما أن التعبير عن النار بدلالة الضمير فيه تنويه بذكرها لإعجاز أودعه الله تعالى فيها. وذلك لما جيئت، وذلك لما آنست وذلك لما كانت بردا وسلاما كما كانت على نبي الله تعالى إبراهيم عليه السلام.

والتعبير بالجملة الشرطية في قوله تعالى(فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ) ممعن في قوة الأداء وبلاغة البيان معا. ذلكم لما فيه من ترتب الجزاء – جواب الشرط - على شرطه - فعل الشرط -. وليس لقائل أن يقول بغير أنه بيان بليغ لمدلولات النصوص في كلام الله تعالى ربنا الرحمن. فدلالة مجيئه عليه السلام بهذه الهمة وذلكم النشاط الذين نلمحهما من السياق كان  من أثره أيضا تلكم الإجابة أنه (نودي) في سرعة خاطفة تؤكد مدلول الشرط وتؤكد اهتمام الله تعالى بعبده ونبيه، وفيه من إكرام الله تعالى لعباده الحنفاء إيناس فوق الإيناس! لنفيد نحن مواجهة الباطل بنفس الهمة وذات النشاط غير عابئين؛ لأن الله تعالى يقينا سيجعل كل كلم يصابه عبد ليس إلا كوعكة جرح مسلوب الإيلام بإذنه سبحانه! ألم تر كيف أن الشهيد أكرم ألا يشعر بإيلام حال الشهادة إلا كما ورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ مَسِّ الْقَتْلِ، إِلَّا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مَسِّ الْقَرْصَةِ )[الترمذي:1668]. وصححه، وصححه الألباني في  صحيح الترمذي.  

 واجتماع ما للمجيئ من رضا وأناة مع ما للشرط من قوة يكسب النص عطاء آخر فوق عطاء ليبدو في زي مركب من تضافر المعاني. ما بين قوة في أداء وهدوء في بيان. ليلقي بظلاله الوارفة على النص كله ليكسبه جمالا فوق الجمال وإعجازا لا كمثله إعجاز! ذلك لأنه (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِير)[هود:1].

ومجيئ الفعل(نُودِيَ) مبنيا للمجهول فيه تنويه بشان المنادِي وفيه تعظيم لقوله معه. مع ما يحمله ذلكم التوصيف من دالة محبة الكلام مع عبده ونبيه ومع  ما يشي به من التكريم والتشريف للمنادِى والاهتمام بالمنادَي وهو ما حفلت به الآية أيما احتفاء! ذلك أن الله تعالى عظيم وله سائر معاني العظمة. وهو ما لاءم ختم الآية بلفظ التسبيح له تعالى إمعانا في التنزيه والتعظيم معا أيضا. ذلك مع ما يضفيه لفظ النداء نفسه من شامة الإكرام للمنادِي والمنادَى معا. ونفيد نداء في كلامنا لأن فيه تملحا بمن ننادي فيسارع إلى القبول ويقدم على الإذعان راضيا مرضيا.

ومثله في الإعجاز مجيئ جملة(أَن بُورِكَ) هكذا على المصدر المؤول المركب من أن المصدرية والفعل الماضي المبني للمجهول. وذلك لاعتبار عامل الزمن وكونه دالا على ما يمكن ان يتسم به النص من ديمومة البركة! وهونص يظهر ما لسيدنا موسى عليه السلام من قيمة وما يمثله في مسيرة الدعوات من صبر على ما جوبه به من بني إسرائيل حتى وجد الله تعالى معه ليهديه! وهذه من دالات التوفيق ومن دلالات المعية من الله تعالى لعبده كيما يأوى إلى ركن شديد. وكل ذلكم مما ورد بناءً للكلام على إتقان أبان ماله من جرس، وأفصح عما له من إيقاع، وأفرد ماله من بيان يأخذ بتلابيب القلوب إذعانا لمنزله ورضا بقائله ربا مهيمنا عزيزا حكيما سبحانه.

ونداؤه تعالى لعبده ونبيه موسى عليه السلام بلا طلب منه قيمة مضافة. حتى ائتلف نداؤه مع كلامه فصار منعوتا ب(كليم الله).كما في(وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا)[النساء:164].

ومدلول النداء إشارة به دون ركنيه من أداة ومنادى صراحة يضفي على جو الآية لطفا كما أنه يكسوها بلباس الإكرام ورداء التشريف وآلة التسلية لنبيه موسى ونبيه محمد عليهما الصلاة والسلام ومن جاء بعدهما من الدعاة إلى الله تعالى.    

وإن قيل: ما معنىً أسدته وما إعجازا أبانته؟!قلت: إن النص ممهور بكل معاني البركة.! وهو مايفيدنا تشوفا في بركة يحلها الله تعالى ما أراد فيما خلق. وهو بلاشك أيضا ممهور بفأل حسن نتشوفه من عطاء النص ومدلوله معا. لنفيد نحن معاشر البشر تشوفا لفأل حسن حين قولنا واستشرافا لمعنى حسن جميل حال دعوتنا أن قوما سيجيبون وأن فريقا لسوف يطيع. وهو ما يعطينا أملا دافقا حين ندعوألا نتوانى عن دعوة وألا نتكاسل في بلاغ.

ولأن الله تعالى كان كليما لنبيه موسى عليه السلام في ذلكم موضع فكان مباركا لأجل ذلك. وهو سبب كاف وحده أن تنساب عليه بركات من السماء إذ تهلل الوجود لذلكم تكليم يوم أن يشرف عبد كموسى عليه السلام أن يكلمه ربه.

ومنه أفيد أن مكانا يقطنه الداعون إلى الله تعالى وحده بلاشريك مبارك. مبارك  إكراما بمن فيه، وإكراما لمن فيه كذلكم. وانسياب بركة ما حوله عطاء منه تعالى بركة تتلوها أختها من بركات السماء لتعطي معاني الإخلاد والراحة والسكينة حين تلَقي أمر الله تعالى.

كما وأن فيه تنويها بشأن الملائكة الكرام عليهم السلام ذلك لأنهم جنده تعالى. وذلك لأنهم(يُسَبِّحُونَ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ)[الأنبياء :20].وأنهم(يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[النحل :50].وأنهم( يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى ٱلْأَرْضِ)[الشورى:5].

والتعبير بالاسم الموصول بيان أهمية ل(مَن فِي ٱلنَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا). والتعبير بالموصول الاسمي الخاص (مَن)فيه زيادة بيان لتيكم أهمية. وفيه دلالة على الإغمار بالبركة ل(مَن فِي ٱلنَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا).لأنه تصوير يشي بإحلال البركة فيه كله بحيث لايبقى لقائل قول أن جزءا واحدا وإن دق من أي منهما إلا وناله شرف إحلالها أو دالة إغمارها! وذلك على قول من قال إن (مَن فِي ٱلنَّارِ) هو كليمه تعالى موسى عليه السلام وأن(وَمَنْ حَوْلَهَا) هم الملائكة الكرام. وذلكم نفيا للتجسيم على قول من قال إن (مَن فِي ٱلنَّارِ) هو الله تعالى.

ولست أطيل النظر فيمن كان(مَن فِي ٱلنَّارِ). ذلك لأن  للآية الكريمة سياقا قد يؤثر في ظلاله خوض كهذا! وهو واقع حتما! فإن كان هو الله تعالى فإنه مبارك، وإن كان هو الكليم فهو مبارك، وإن كانت هم الملائكة فإنهم مباركون، وإن كان كلا فالكل مبارك والحمد لله. 

وختم الآية الكريمة بتسبيح الله تعالى داع لنا أن نسبحه أيضا آناء الليل وأطراف النهار. وإن قيل :وما حيثية ذلك؟! قلت : نص الآية نفسه سبيل لذلكم سبب وطريق لذلكم تعليل. ذلك لأن الله تعالى حين أودع الطمأنينة نبيه موسى عليه السلام، وحين سلَى بذلك عبده ورسوله محمداً صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وحين بارك من في النار ومن حولها، وحين كان ذلك زادا للدعاة المصلحين من بعدهما. كل ذلك قمن لأن يسبح، وجميع ذلك تعليل لأن ينزه سبحانه تبركا بذكره وإعظاما لسلطانه!.

ومن دواعي التسبيح وأسباب التنزيه ورود ذكره تعالى إلها وربا في أن واحد في نص واحد في مكان واحد! ليعطي كل معنى يمكن أن يُعطَى من تنزيه ويهب كل ما يمكن أن يُعطَى من مفردات التسبيح!. ذلك لأنه تعالى أيضا رب العالمين - كل العالمين – ما دق وما جل، وما ظهر وما خفي، وما حضر وما غاب، وما أسر وما أعلن. وأقول(وَسُبْحَانَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ).