هذا القرآن الذي بين أيدينا عظيم كريم مبارك؛ ذلك لأننا نملك به كنوزا، عظيمة القيمة، حميدة السيرة، حسنة الأثر، قد كانت كافية أن نستغني به عما سواه مما في أيدي الناس، وقد فتنوا بغير القرآن زادا، وقد انقادوا إلى سواه معاشا، وعقاب حالٌّ لسببه معادا، وما كان ذلكم إلا لأن الله تعالى ربنا الرحمن سبحانه قد أسماه مباركا، كما قال تعالى ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾[ص:29]. ويكأنه نزل مباركا؛ كيما يدَّبَّروه؛ ويكأنه جاءنا مباركا؛ كيما يعقلوه، ويعرفوا كيف كان يمكنهم إعماله في واقع أفعالهم، مع كونه كذلكم في مقولهم وحركاتهم وسكناتهم، ناطقة بهديه ألسنتهم، ومتفاعلة معه خلجات أفئدتهم وقلوبهم، وإذ كان من شأن تدبره أنه ليس يكون كذلك إلا" ليتدبَّروا حُجَج الله التي فيه, وما شرع فيه من شرائعه, فيتعظوا ويعملوا به. وليعتبر أولو العقول والحِجَا ما في هذا الكتاب من الآيات, فيرتدعوا عما هم عليه مقيمين من الضلالة, وينتهوا إلى ما دلهم عليه من الرشاد وسبيل الصواب"[1].
ولما كان هذا القرآن مباركا، فقد كان متحصلا منه أن يكون مباركا في نفسه، بلا دليل آخر منضافا إلى كونه كذلكم، وتلكم هي بركته، وذلكم هو إعجازه المبين، أن يكون مباركا وحسبنا.
ولكننا لأننا لا نكتفي إلا بعرض آخر موسعا؛ ليقف بنا على إثبات أنه كذلكم، فلم يكلفنا الكتاب الكريم جهدا، ولو قليلا، أن نبحث عن أين كان استدلال لكون ذلك الكتاب مباركا! كما سلف ذكره من قوله تعالى ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾.
ودلك على أنه مبارك كونه قرآنا أولا؛ لنص الذكر الحكيم على ذلك، ولأنه لم ينزل ربنا الرحمن سبحانه إلا شيئا مباركا! وكان القرآن أوله، وكان الذكر المبين أجمله وأحسنه وأعظمه، وليس ذلكم بدعا من قول أتيته، وليس يعد ذلك افتئاتا من ذات نفسي ابتدعته؛ وذلكم لأني قد احتسبت أن الله تعالى كريم رحمن، ومن ثم فلقد كان اليقين الحسن به تعالى ألا ينزل كتابا لنا إلا مباركا؛ إذ كيف ينزل الكريم إلا كريما؟! وإلا لقد كان لنا هاديا ﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۚ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾[الأنعام:161]. وإلا وكان نورا لنا ومبينا، كما قال تعالى﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ۚ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ*يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة:15،16].
ودلك على أنه مبارك أيضا كونه هدى؛ ذلك لأن الله تعالى قال﴿ ذَٰلِكَ ٱلْكِتَٰبُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾[البقرة:2]، وقال تعالى ﴿وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [النمل: 76 – 76]، وقال تعالى: ﴿تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ* هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ﴾ [لقمان: 2 – 3].
ذلكم وأن القرآن هدى! بدلالةٍ تحمل كل شارات الهدى؛ إذ إنه هدى في نفسه، وليس مجرد سبب له وحسب! وهذه من لطائف هذا الكتاب، وتلك من فرائد عظائمه وعطائه ومنحه وهباته، أن كان هدى - في نفسه - ليغترف منه سائر العباد, وليهتدي به كل عاد وغاد! وأنه ليس يدله إلا على هدى، وهذه واحدة أخرى منضافة إلى بركة هذا الكتاب المجيد القرآن العظيم، وإلا فكيف ﴿ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾[المائدة:16]. إلا وقد كان هو الهدى نفسه؟! وإلا فكيف يبين وأنه هو البيان كله؟! ولما كان الهدى هو " ما تحصل به الهداية من الضلالة والشبه، وما به الهداية إلى سلوك الطرق النافعة "[2]. فقد كان مألوفا أن يزكى بأنه هدى، ليمكن تحصل باغ إلى الخير منه رشده وخيره، ولإمكان مريد إلى الهدى أن يغترف منه هداه وبره.
بيد أن معنى لطيفا حسنت الإشارة إليه، وجمل العطف عليه؛ وذلك لأنه ولكونه قد جاء وصفه كونه هدى، وليس سببا له وحسب، فدل على أنه هدى لكل أسبابه، ودل على أنه كاف لسائر أبوابه، وليس يتبقى من بعد ذلك قول لقائل، أن يتحصل نفعا في سواه، وليس سندا موجودا لآحادهم زعما تحصيل خير فيما عداه، أو أن صلاح أمر الناس على غيره ممكن لا في المعاش، ولا في المعاد. بل إن خسارا لاحقا بمن تنكب وأَعْرَضَ عن هداه، وبل إن بوارا ماحقا لمن تَقاعَسَ عنه وأَهْمَل نوره وضياءه وسناه.
وبطبيعة الحال فإنه ليست هنالك نفرة بين الوحيين، بل تآلف وتكاتف، وتضامن وانسجام، وتكامل وتعاضد؛ وذلك لأن الله تعالى قال ﴿ ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾[النحل: 125].ولأن "الحكمة هي ما أنزله عليه من الكتاب والسنة ( والموعظة الحسنة ) أي : بما فيه من الزواجر والوقائع بالناس"[3]. ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال "ألا إنِّي أوتيتُ الكتابَ ومثلَهُ معهُ ، لا يُوشِكُ رجُلٌ شبعانٌ على أريكتِهِ يقولُ عليكُم بِهذَا القُرآنِ فما وجدتُم فيهِ مِن حَلالٍ فأحلُّوه وما وَجدتُم فيهِ مِن حرامٍ فحرِّمُوه ، ألا لا يحلُّ لكُم لحمُ الحِمارِ الأهليِّ ، ولا كلِّ ذي نابٍ من السَّبُعٍ ، ولا لُقَطةِ معاهَدٍ ، إلَّا أن يستَغني عَنها صاحبُها ، ومَن نزل بقومٍ فعليهِم أن يُقْرُوه ، فإن لَم يُقْرُوه فله أن يُعْقِبَهُمْ بمثلِ قِرَاه"[4].
هذا ولقد كان القرآن العظيم هدى للمتقين؛ ولأنهم هم المنتفعون بهديه وأحكامه، ولأنهم هم العاملون لما اقتضاه من تحليل حلاله، ولما أحكمه من تحريم حرامه، ولما ألزمه من أمره ونهيه، ولما سنه من فعله وزجره.
وليس يقال إن القرآن العظيم هدى للمتقين وحسبه في ذلك أنه قد أدى وظيفة إنما أنزل ليس إلا لها! فإن ذلكم قول ليس صوابا، وإن ذلكم مذهب كان في حس المؤمنين معابا سرابا! وذلكم لأنه إنما كان القرآن العظيم هدى للناس أيضا؛ جنبا إلى جنب كونه هدى للمتقين! وإنما كان ذلك كذلك تشوفا منه تعالى إلى هداهم، ولئلا يحرم أحد من نوره، ولئلا يزعم أحد أنه قد حيل بينه وبين هداه، وهذه كلية قمنة بالبيان، وهذه قاعدة جديرة بالتذكر وعدم النسيان؛ وذلكم لأن الله تعالى قال ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَان ﴾ [البقرة:185]، وقال تعالى أيضا ﴿هَٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾[الجاثية:20].
ووقفة تأملية بين كلمة (هدى) أول البقرة، وكلمة (هدى)في آية الصيام من سورة البقرة أيضا. ذلك أن كلمة(هدى) الأولى جاءت خالية عن معمولها، وإنما تركت فضاء واسعا؛ كيما تتحمل هي الأخرى بذلكم بيان أنه هدى لكل شيء يمكن أن يطرأ على ذهن، أو أن يجول بخاطر ذي لب راجح، أو أن يخايل كل ذي رأي صائب، وأنه يمكن أن يكون مبينا لكل جانب من جوانب حياة الناس المختلفة المتباينة على اختلاف الناس ألسنة وألوانا، وهذه من ألطاف البيان المبين عن الذكر المبين أيضا! وهو من مقتضى شمول الكتاب، وهو من خصائص قرآن ربنا الله تعالى الوهاب؛ وذلكم لأنه تعالى قال﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 89]، وقال تعالى أيضا ﴿ وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ۚ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾[الأنعام:38].
ومنه فإن دلالة كلمة(هدى) في هذا السياق واقعة على الأشياء، شاملة لكافة الأنحاء والأرجاء، وبعبارة أخرى فإنها جاءت مشيرة إلى كل خير يمكن أن يدل القرآن الحكيم عليه، وأنها كذلكم وردت مبينة لكل شر يمكن أن يقع نهي الذكر المجيد عنه، وذلكم كله جنبا إلى جنب إلى كون القرآن العظيم هو﴿ ذَٰلِكَ ٱلْكِتَٰبُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾.
وأما كلمة (هدى) في آية الصيام فقد جاءت متآلفة متضامة مع معمولها، وهو كلمة(للناس) دلالة على ما لهذا القرآن العظيم من قوة وسلطان في إمكانه هداية الناس أجمعين، وأنه يحمل بين أنوار هداه زادا لكل أحد أن يكون مهتديا بأمره تعالى، شرطا واحدا فقط هو أن يكون متوافرا على استعداد لذلكم الهدى، وتلقيه ومحبته والرضا به والتسليم له! وذلكم يبين شأنه أكثر حين نطلع أن منهجا معينا من مناهج البشر تكون له فئة مستهدفة لإعماله، ومن ثم يخرج منه سائر غير المخاطبين ممن لم تشملهم هذه الفئة المستهدفة! ومن ثم فليس يدخل تحت مظلة هذه الفئة من لم يكن بها مقصودا أبدا، ومن ثم فإن القرآن العظيم بذلكم وصف بأنه هدي مع معمولها كان فائقا كأعمق ما يكون عمق؛ لسبر غوائر المسائل، ولقد كان بعيدا سحيقا كأبعد ما يكون امتداد، حين كان متضمنا لحل أعضل المشاكل! وما كان ذلك كذلك إلا لأنه " هدى لجميع مصالح الدارين، فهو مرشد للعباد في المسائل الأصولية والفروعية, ومبين للحق من الباطل, والصحيح من الضعيف, ومبين لهم كيف يسلكون الطرق النافعة لهم, في دنياهم وأخراهم"[5].
وإنما كان القرآن هدى "لأنه في نفسه هدى لجميع الخلق. فالأشقياء لم يرفعوا به رأسا، ولم يقبلوا هدى الله، فقامت عليهم به الحجة، ولم ينتفعوا به لشقائهم، وأما المتقون الذين أتوا بالسبب الأكبر، لحصول الهداية، وهو التقوى التي حقيقتها: اتخاذ ما يقي سخط الله وعذابه، بامتثال أوامره، واجتناب النواهي، فاهتدوا به، وانتفعوا غاية الانتفاع"[6]. "مع أنه هداية لهم ولغيرهم ، لأنهم هم المنتفعون به دون سواهم"[7].
واقتران الهدى بالبشرى دليل فيض الرحمن، وإنه لموجب رضا الديان، وما كان ذاك كذلك إلا لأن بشراك بالقرآن حين كان منه هداك لواقعة بحصول مرغوبك، واندفاع مرهوبك، أو ترقبهما معا، وذلكم هو الاستبشار، وذلكم هو فيض ربنا الرحمن الغفار - سبحانه - . كما في قوله تعالى ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: 89].
ودلك على أنه مبارك كونه رحمة؛ وذلك لأن الله تعالى قال﴿ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾[الأعراف: 52]، وقوله تعالى ﴿ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآَيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾[الأعراف: 203]، وقوله تعالى ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ﴾[الإسراء: 82]، وقوله تعالى﴿ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ*هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ ﴾[لقمان: 2-3].
والرحمة كصفة للقرآن الكريم إن هي إلا قاطعة لمادة القلق عما هو آتٍ، إن في عاجل المرء في دنياه، وإن في آجله في أخراه، ومن تمامها نظر المرء بعين قلبه، ونفاذ بصيرته، في مآل نعيمه، فيعلم أنه دائم غير منقطع، فإن لم يتحقق له ذلك، أحيل نعيمُه شقاءً!
ودلك على أنه مبارك كونه واجب الاتباع، وذلك من قوله تعالى ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾[الأنعام: 155]. ومنه فإن امراءً ليس بإمكانه أن ينال بركة هذا الكتاب المبارك إلا حين كان معه في إلف مألوف، فليس يتعبد إلا على هداه، وليس يعيش إلا على نوره وسناه، وهذه كلية قمنة بالدرس أيضا، وهي قاعدة جديرة الوقوف أمامها مليا مليا! وليس يكون ذلك حقيقا إلا حين يراعيه أهله، وإلا يوم أن يقوموا بحقه من تحليل حلاله، وتحريم حرامه، على وجهه التعبدي لله تعالى ربنا الرحمن سبحانه، وهذا هو الحق، وما دونه هو الباطل، وذلك أيضا لأن خير ذلكم إلى العباد، ولأن بركته ليعم الله تعالى بها العباد والبلاد.
ويوم يكون الكتاب حاكما لتصرفات القوم، فإنه يمكن القول إنه قد حان وقت حصادهم لما فيه من خير، ولأنه قد أزف حينُ طهارتهم مما لحق بهم من زيغ، وأن القرآن الحكيم قد أضحى هو المحرك الأساس لهم، حين نومهم ويقظتهم، وحين ليلهم ونهارهم، وحين نكاحهم وطلاقهم، وحين حياتهم ومماتهم، وحين كلامهم وصمتهم، وحين جلوسهم وقعودهم وتربعهم، وحين قولهم وفعلهم، وحين علانيتهم وجهرهم، وحين سرهم وخفائهم، وحين طعامهم وشرابهم، وحين كل أمر من أمرهم، وهو من مقتضى قوله تعالى ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162، 163].
وإن ذلكم لهو فصل الفصول، وإن ذلكم لهو أيضا أصل الأصول، ليكون مآله إلى أننا مصدقون بالقرآن منهجا، ومتيقنون به سبيلا، مبدؤه إلى هدانا، ومنتهاه إلى مبتغانا، دنيانا وأخرانا، وبدونه ليس يحل قول: إننا على الجادة! وبدونه ليس يكون من الحق قولُ: إن امرأً به كان مصدقا!
وذلك لأن أصل مادة التصديق آتية من الاعتراف بالشيء ومن ثم تحقيقه؛ لأن «صَدَّقَهُ، وصدَّقَ به، تَصْديقاً وتَصْدَاقاً: اعترف بصدق قوله، وحقَّقه. وفي التنزيل العزيز: ﴿ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ﴾ [سبأ: 20]. ولأن مادة الصدق تعني الإقرار بما صدق به؛ ولأنهم قالوا" وَيُقَال صدق على الْأَمر أقره"[8]. ومنه « وصادقه ولم يكاذبه، وتصادقا ولم يتكاذبا. وصدقه فيما قال، وقوله مصدق. ورجل صدوق من قوم صدق. ورجل صديق. وعنده مصداق ذلك وهو ما يصدقه من الدليل » [9]. ومنه فإن التصديق مقتض لفعل ما وقع عليه الصدق، بحيث كان به مصدقا، ومنه أيضا كان إغفال الأمر، وادعاء بأنه يصدقه كذب، وذلك تأسيسا على قولهم« وصدقوهم القتال: أقدموا عليهم، عادلوا بها ضدها حين قالوا كذب عنه إذا أحجم » [10].
وأخلص إلى أنه يمكن الاستنباط والبناء على ما اقتضته لغة العرب ولسانها على ما أنف ذكره أن الدلالات لهذه المعاني وفق ما قررته المعاجم اللغوية السابقة لكلمة التصديق أنها تتضمن الاعتراف بصدق الشيء. والإقرار عليه. وتحقيقه في واقع الناس، وفي ضمائرهم، وفي الكون، وفي الحياة، وفي سائر أنحائنا، وجميع أرجائنا، بحيث يكون من حقٍ أن يكون متوائما مع قولنا إننا لمصدقون بقوله تعالى ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾[المائدة:48]. وذلك لأن مقتضى كونه مهيمنا ليس يتأتى إلا حين يكون هو المهيمن أي "الشاهد على خلقه بما يكون منهم من قول أو فعل أو اعتقاد، والمهيمن من أسماء الله الحسنى، وجاء القرآن مهيمنا على لكتاب سماوي آخر: أي مبينا لما فيه من تحريف، ناسخا لبعض شرائعه"[11]. والدَّلالة على كونه صدقا لاريب فيه!
وسائر ما سلف من الوجوه فيه معنًى من معاني الرحمة، فإن تفصيل الحلال والحرام رحمةُ إرشاد، وجعله فصولًا مشتملة على أنواع العلوم والمواعظ رحمةُ تنويع وتثنيه، وإنزاله مفصلًا منجما رحمةُ تيسير، وتفصيله على علم رحمة مراعاة المناسبة إذا كان بمعنى فصلناه على علم بما يصلح العباد، وإن كان بمعنى فصلناه على علم أنهم لا يأتون بمثله ففيه رحمةُ تطمينٍ بصدق المُرسل به، فلا يُتركون نهبًا للشبهات.
ودلك على أنه مبارك كونه شفاء؛ ليُبرِئ سقما، قد حط رحاله في جسد مؤمن به، وليدفع أخلاطا مؤدية إلى الاعتلال، كانت قد أخرجت صاحبها من حدود الاعتدال، قال الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 57]. وقال تعالى﴿ قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد ﴾ [ فصلت : 44 ].
ودلك على أنه مبارك أنه تبيان لكل شيء؛ لأمور المعاش، ولأمور المعاد معا، مما لايدانيه في ذلكم كتاب بشري، ومما لايقاربه في ذلكم منهج إنساني، كان من أمره قصوره، وكان من شأنه عواره، إذ لا ينهض ولو أنملة لإصحاح، وإذ لاينبو إلا عن سوء إفصاح، وذلك لأنه تعالى قد حسم أمره في قوله تعالى ﴿أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَة﴾[الأنعام: 155 – 157]؛ والظاهر أن البينة هي القرآن وهو الحجة الواضحة الدالة النيرة حيث نزل عليهم بلسانهم وألزم العالم أحكامه وشريعته وإن الهدى والنور من صفات القرآن"[12].
ولأن هذا القرآن الذي بين أيدينا إنما نزل بألسنة قوم هم به أعلم لمعانيه، ولأنهم هم به أفهم لمقتضاه ومراميه، وهم بهذا ليختلفون عمن سواهم، ومنه فقد كانوا به ألزم، وعليه فقد كان عليهم حجة أقوم، وشأنه ما أنف، عملا وإلزاما للعالم أجمعه بأحكامه وشرائعه، ومن حيث قد وصل ببلاغه البلغاء، ومن حيث قد أبان عن سلطانه الفقهاء، ومن حيث قد أبلج بيانه العلماء.
وهذا بيان ساطع، وذلك برهان قاطع، على أن هذا القرآن ما كان لينزله الله تعالى ربنا الرحمن إلا رحمة بكشف الريب، وإلا حسما لمادة التردي، وإلا قطعا لدابر التردد في طلب الحق، والأخذ بأسبابه.
[1][جامع البيان، ابن جرير الطبري: ٢٣/182].
[2][تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي:1/40].
[3][تفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم) مع أحكام الالباني: ج2/411].
[4][صحيح أبي داود، الألباني، الصفحة أو الرقم: 4604].
[5][تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبدالرحمن بن ناصر السعدي:1/40].
[6][تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي:1/40].
[7][التفسير الوسيط، سيد طنطاوي:1/41].
[8][المعجم الوسيط:510].
[9][أساس البلاغة: 522 ].
[10][لسان العرب، ابن منظور: ج ١٠/١٩٥].
[11][تفسير و معنى كلمة ومهيمنا - فهرس القرآن الكريم].
[12][ تفسير البحر المحيط، أبي حيان الأندلسي: ج ٤/٢٥٨].