قوله تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ۚ قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)[البقر:142].
المعنى : نعى الناس مشركهم ومنافقوهم ويهود تحول المسلمين من الاتجاه في القبلة من بيت المقدس إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة ليرد الله تعالى عليهم أن أمر القبلة اتجاها في حد ذاته أمر يخص الله تعالى اختيارا، وليس لأحد فيه. ومن جانب اّخر فإن الأصل هو سلامة التلقي عن الله، والانقياد له في كل شأن، وليس فقط في شأن القبلة وحسب. فتحقيق الدينونة لله تعالى على كل حال شامل لكل مناهج الحياة ونواحيها لتحقيق أمر العبودية لله تعالى وحده بلاشريك.
الوقفات :
- الإعجاز القراّني في ذكر الله تعالى عنهم ابتداء أنهم سيقولون وقد قالوا! وكان يمكنهم لو كان فيهم مسكة من عقل ألا يقولوا إمعانا في التحدي والنيل من المسلمين في قراّنهم في مقتل! أما وقد قالوا فإن ذلك من موجبات إقامة الحجة عليهم كون أن القراّن من لدن حكيم خبير، وبه قامت عليهم الحجة. فلا مناص إلا الانقياد، وعدم التذرع بأية ذريعة يزعمونها بوحي شياطينهم. وشاهد ذلك : قوله تعالى (سَيَقُولُ )!.
2- الإعجاز في مجيئ الفعل المضارع س( يقول ) دلالة على حتمية وجود هذا الصنف من المتمردين على منهج الله تعالى في كل زمان.
3- موافقة الصيغ القراّنية لمدلولات اللغة العربية. وهو ما يتسق مع كونه قراّنا عربيا مبينا غير ذي عوج. إذ جاء الأسلوب في ( سيقول ) للاستقبال وأريد به هنا دلالة الماضي وهو ما كانت عليه قريش ذلكم الحين.
4- كل معترض على أي أمر من أوامر الله تعالى أو خارج عن نهيه سفيه. مهما تزيا بزي، أو تلسن بلسان، أو لبس التيجان، أو ركب الصولجان. فالميزان عند الله تعالى أنه ( سفيه ) ولاغرو!
5- جواز الحجر عليهم كما قد جاز الحجر على أي سفيه! ريثما يتوبون أو لعلهم يرجعون!
6- مجيئ اللفظ (السُّفَهَاءُ) بصيغة الجمع دال على كثرة وجود المتمردين والناكصين في كل زمان ومكان! يعضد ذلكم قوله تعالى(وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)[يوسف:103]. وقوله تعالى(وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ)[يوسف:106].
7- ومجيئ اللفظ (السُّفَهَاءُ) معرفا دل على كونهم مكشوفين للعصبة المؤمنة مهما تخفوا أو مهما تستروا به من شارات أوتحملوا من شهادات !
وهو ما يوجب الخوف والوجل أن يقع الانسان في درك السفهاء أو أن ينزلق في مهاوي الأشقياء.
8- جواز التشنيع على أهل المعاصي تعريضا ممن عرفوا بالمجاهرة والاستهتارتعريضا وتلميحا لا تصريحا وتجريحا. إشارة من بعيد إلى قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم(ما بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إلى السَّمَاءِ في صَلَاتِهِمْ، فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ في ذلكَ، حتَّى قالَ: لَيَنْتَهُنَّ عن ذلكَ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ.[صحيح البخاري: 750] وذلكم تحذيرا لهم وزجرا . رجاء رجوعهم، وأمل انزجارهم. كما وأنه زجر لغيرهم من أن ينحى نحوهم، أو أن يتبع سبيلهم.
9- ولايقل التشنيع عليهم زجرا لهم عن كونه كذلكم زجرا لغيرهم عن أن يكون تنقية للصف الإسلامي من هكذا فئام يهدمون البنيان هدما، وينقضونه نقضا. إن هموا تركوا لشأنهم، ولم يُكشفْ للمؤمنين عوارهم !
10- كونهم من الناس نعي عليهم كذلكم! إذ الأصل في الناس بما وهبوا من عقل، وبما منَّ عليهم من اختيارأن يكونوا متبعين لربهم موقنين بحقه عليهم كونه مليكهم ومصدر التلقي الأوحد لفلاحهم .
11- ولايعني كونهم من الناس ألا تنفك عنهم صفتهم أو يزول عنهم نعتهم ! حال كونهم ركبوا رؤوسهم فامتطوا سبيل الشياطين! ألم تر أن الله تعالى قال فيهم وأمثالهم (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا)[الفرقان:44]؟!
12- فالإنسانية كرامة! فقط حين يتلبس صاحبها بلباس التقوى (وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ)[الأعراف:26]. فالتلبس بالتقوى خيريعود على من تلبس بها حتى صارت وكأنها رداؤه وحتى أضحت ولكأنها إزاره! وحدها هي التقوى! ومزايلتها إثم وخطيئة وإهانة ورذيلة.
13 - وحينئذ يوصفون بأعلى الصفات من إحسان وبر وتقوى وفلاح ومن محبة ورضا ومن فوز ونصر وتمكين ومن صدق وإيمان . كبستان من الزهورتفوح روائحه، كما تتنسم رحائقه , يحار الداخل فيه أن يقطف من هذه أو من تلك! فلا يكاد يذر واحدة إلا على الأقل شمها أو تنسم عبيرها. وتنفس عبقها. ذلك أن الله تعالى قال (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات:13]. أما إذا انفكت التقوى فلا ولاكرامة.
والعاقل يختار بين الإكرام وسبيل النجاة وأرفع الدرجات، وبين الخذلان وأسفل الدركات، وتخلي ربنا الرحمن عنه. وما أتعس مَنْ تخلَّى ربنا الرحمن عنه !
14- وفيه من التسليم لله تعالى وبأمره ما يكون دليلا على استسلام العبد له تعالى. فإن الانقياد لله تعالى والتسليم له في شرعه كله وأمره كله ونهيه كله من معاني الرضا به تعالى ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله تعالى وآله وسلم نبيا ورسولا. ذلك لأنه تعالى قال:( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[النساء:65].
15 – وفيه سوء طوية السفهاء ومن سوء أدبهم مع الله تعالى ربهم الحق ما جعلهم يردون أمره تعالى عليه سبحانه! ونسي المساكين أن ما أمر الله تعالى به عبيده ليس إلا لخيرهم وليس إلا لنفعهم. ولا نفع له ألبتة من ذلكم من شيئ سبحانه. ذلك لأنه تعالى قال(ا عِبَادِي إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ، فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ. [صحيح مسلم: 2577] .
16 – وفيه إثبات الملك له تعالى وحده. كما وأن فيه إثباتا لجنس الجهة مشرقها ومغربها وشمالها وجنوبها وما قد تفرع عن ذلكم من جهات أُخَرُ.
17 – وتخصيص المشرق والمغرب ذكرا لتعلق كل منهما بركن الإسلام الثاني وهو الصلاة. ومنه أفيد إشارة إليها وحثا عليها لمناسبة ذكر جهتي التعلق بها.
18 - وفيه تنويه بشأن الرسول محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لتوجيه الخطاب إليه .كما أن فيه ائتمانا له صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كونه سوف يبلغ أمر ربه كما قد أوحي إليه به. وأفيد أيضا أمانة الوكيل في أداء ما ائتمنه عليه موكله.
19- وفيه إثبات صفة الهدى لله تعالى ربنا الرحمن. ومن ثم إثبات اسمه(الهادي) سبحانه. غير أن مجيئها هنا قصد رباني حميد. ذلك لأن الهدى شأنه عظيم عظم من هدى به – سبحانه- وكان قمن أن يأتي النص عليه للدلالة على أنه تعالى لايختار لعبيده إلا ما به يصلح شأنهم كله. ذلك لأنه تعالى أيضا قال(يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)[البقرة:185].
20– وفيه إثبات المشيئة لله تعالى ربنا الرحمن سبحانه. وهي مشيئة إيجابية شرعية تستجيش ما في دواخل النفوس من هدى، وما قد فطرت عليه القلوب من إيمان واستسلام لله تعالى. وكان يجب ألا ينظر إليها إلا من خلال ذلكم معنى لولا أن قوما قد تذرعوا بها فخلوها من معانيها الطيبة كونها لا يجب إلا أن تكون سببا لشحذ الهمم وتوجيه الطاقات الخلابة للإيمان والتقوي والهدى وإسلاس القياد لله تعالى. حتى راحوا أقصى اليمين فقالوا (جبر واختيار).وحتى راح آخرون أقصى اليسار فقالوا لاثمة مشيئة لله تعالى الواحد القهار!
وأهل السنة وسط بين هؤلاء وهؤلاء فأثبتوا لله تعالى مشيئة لا كمشيئة العباد، لنص آيتنا محل البيان(يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ). كما أثبتوا للعبد مشيئة إكراما له منه تعالى، فلا يصير كالبهيمة يساق بغير اختيار. ذلك أن إسناد المشيئة للعبد هو ما يتوافق مع قوله تعالى(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)[الإسراء:70].
وذلكم إيجازوتفصيله ليس موضعه الآن.
21 – وفيه إثبات القيومية الربانية والسلطان القويم لله تعالى ربنا الحق سبحانه. ذلك لأنه قال(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ)[القصص:68].
22 – والهدي لايكون إلا إلى خير. وعكسه الضلال ولا يكون إلا إلى شر. وتلك من دلائل العربية العالية. ذلك أنَّا عندما نسمع أن فلانا هدى فلا يتناهى إلى سمعنا إلا ذلكم خير هدى إليه. ولا يتبادر إلى ذهن أحدنا أن شراً قد هدي إليه، فتأمل! ومن وجه آخر لما نسمع أن فلانا ضل أو أضل فلا يروح الذهن أبدا إلا إلى كونه ضل فلا اهتدى. وتأمل أيضا!
23 – وصراط الله تعالى مستقيم أبدا. غير أن نعته بأنه مستقيم زيادة نعت لخيرنا وبناء ليقين فوق اليقين أن صراطه تعالى ليس يكون إلا مستقيما. علاوة على أن طريق غيره يمكن أن يكون مستقيما يوم أن كان على مراده تعالى وحسب، كما يمكن أن يكون على عوج يوم أن يكون على هوى الشيطان وتلبيس إبليس.