المعنى:  قل -أيها الرسول- لمشركي قومك: أخبروني إن كان هذا القرآن من عند الله وكفرتم به، وشهد شاهد من بني إسرائيل كعبد الله بن سلام على مثل هذا القرآن، وهو ما في التوراة من التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فصدَّق وعمل بما جاء في القرآن، وجحدتم ذلك استكبارًا، فهل هذا إلا أعظم الظلم وأشد الكفر؟ إن الله لا يوفِّق إلى الإسلام وإصابة الحق القوم الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بالله.[التفسير الميسر]

وهذه هي الآية العاشرة من سورة الأحقاف. وقد جاءت شاهدة على ثنائه تعالى على أحد أفراد الناس شهد شهادة الحق. وذلكم إنما كان لعظم شأن الشهادة عنده تعالى .كونها سببا لإحقاق الحق وإبطال الباطل. وهو ناموس أودعه الله كونه كيما يكون تصريفه بأسباب حاكمة على صدق ما يأتي به الله تعالى أو ينزله من قرآن على أنبيائه الكرام ومنهم رسوله ومصطفاه محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. ذلك أن نفرا آخر في المقابل ينكصون عن أداء شهادة الحق. وهو أمر لايسوغ في الفطرالسليمة. ذلك أن قوام الكون إنما كان على شهادة الحق. ألم تر أن الله تعالى قال (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ ۖ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ)؟[الأعراف:172-173].في إشارة إلى عظم شأن الشهادة وكيف قام أمره تعالى وكونه عليها سببا منه وإعظاما لأدوار البشرية المهتدية بأمره في أداء رسالتها المنوطة بها أزلا وقدرا من لدنه تعالى.

ومن حسن أن يأمر الله تعالى نفرا ممن خلق وأن يصطفي ثلة ممن آمن أداءً للشهادة على وجهها الذي يريده الله تعالى أن تكون عليه  كونها بالحق. كما قال تعالى(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ  )[النساء:135]. وفيه تزكية لكل شهيد بالحق كان ديدنه واجتباء لمثل صحابي هو عبدالله بن سلام، ومدح وثناء لمن سار سيره أو سلك مسلكه.وهو منهج كريم للتأسي وطريق قويم للاقتداء.

 ثم إنه من باب إقامة حججه تعالى على خلقه. ذلكم أن نفرا ترونهم يقومون بأداء الشهادة على وجهها كما قال تعالى (ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَا)[المائدة:108]. وأنت تنظر إلى إختيار اللفظ ودقته(على وجهها) أي كما هي وكما يجب أن تكون قائمة عليه كونها شهادة حق لا لبس فيها ولاتأويلات ولااحتمالات. وما ذلك إلا لعظم شأنها وعز أمرها!

ومن حسن أيضا أن يتصدر للشهادة رب العالمين والملائكة وأولو العلم. وذلكم لعظيم شأوها ولكريم فضلها. كما قال تعالى( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[آل عمران:18].وذلكم لأن أعظم ما يشهد عليه أن الله تعالى رب كل شيئ ومليكه وإله كل ماخلق ومعبود سائر ما برأ سبحانه.

وليس من قبيل المصادفة إلا أن يكون الشاهد مختارا بعناية ربانية لما يمثله أمره قائما بها على الوجه الذي يرضيه تعالى ومن ثم كيما يأتلف قوام الكون فيقوم بلاعوج وينهض بلا تلكؤ. ذلك أن نفرا بينكم معروف لديكم وشهدتم له شهادة صدق وعدل أنه من أعلمكم وأنه من أفقهكم ثم أنتم أولاء تديرون لشهادته ظهوركم وتتنكرون له بعد أن قلتم فيه قولا بينا وبعد أن شهدتم له شهادة صدق أيضا. وكان من عدل أن تكونوا صادقين مع أنفسكم ليستقيم أمر الشهادة فكيف نصدق فيكم شهادتكم عليه من قبل ثم أنتم أولاء تريدون أن نجاريكم في نكوصكم وأن نطوي أمر شهادته أجل ذلكم نكوص؟!

وكان من سبب نزول آيتنا محل شرف الكلام حولها أن عبد الله بن سلام ذلكم الصحابي الجليل لما أسلم وجهه إلى  الله تعالى كما حدث به عن نفسه فيما روى البخاري في صحيحه من حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك، قال‏:‏أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فقالوا‏:‏جاء نبي الله، فاستشرفوا ينظرون إذ سمع به عبد الله بن سلام وهو في نخل لأهله يخترف لهم منه، فعجل أن يضع الذي يخترف لهم فيها فجاء وهي معه، فسمع من نبي الله صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى أهله‏.‏فلما خلا نبي الله صلى الله عليه وسلم جاء عبد الله بن سلام، فقال‏:‏أشهد أنك نبي الله حقا وأنك جئت بالحق، ولقد علمت اليهود أني سيدهم وابن سيدهم وأعلمهم وابن أعلمهم، فادعهم فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا فيّ ما ليس فيّ‏.‏فأرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم إليهم فدخلوا عليه، فقال لهم نبي الله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏‏‏يا معشر اليهود ويلكم‏!‏اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا، وأني جئتكم بحق، أسلموا‏. قالوا‏:‏ما نعلمه فأعادها عليهم ثلاثا وهم يجيبونه، كذلك قال‏:‏‏‏‏‏أي رجل فيكم عبد الله بن سلام‏؟‏‏‏‏ قالوا‏:‏ذاك سيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا، قال: ‏‏أفرأيتم إن أسلم‏ قالوا‏:‏حاشا لله ما كان ليسلم، فقال‏:‏‏‏يا ابن سلام اخرج عليهم‏.‏فخرج إليهم، فقال‏:‏يا معشر اليهود ويلكم اتقوا الله‏!‏ فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله حقا، وأنه جاء بالحق، فقالوا‏:‏ كذبت فأخرجهم النبي صلى الله عليه وسلم‏.

وفيه الاحتياط من يهود ومن شاكلهم لما عرف عنهم من خلف، ‏والحذر مما اشتهر عنهم من كذب. ذلك لأنه قال(فادعهم فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا فيّ ما ليس فيّ)!

وفيه تقريع القوم ومجابهتهم بقوة الحق ومباغتتهم بالتبكيت لقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:‏يا معشر اليهود ويلكم‏!‏اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا، وأني جئتكم بحق، أسلموا‏!

ومنه أنه علَم على نبوته صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. وذلكم لكونه يعلم أنهم يعلمون كونه رسولا نبيا وأن ما جاء به من عنده تعالى هوالحق لاريب فيه!

‏ ومنه تخويف القوم ونذارتهم لقوله: ويلكم ولقوله: اتقوا الله. ذلك لأن القلوب لَتَزَلزَلُ عند تخويفها وأن الألباب لَتَقَلقَلُ لدى إنذارها.

وفيه من بيان سوء طوية يهود ومن تأبط سيرتهم ما أنبأ عنه قولهم: ما نعلمه!

وفي قوله تعالى( إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)ما يوجب المبادرة إلى الطاعة لأمره تعالى بالديانة وما يوجبه إسلاس القياد له تعالى من رضا بأمره ومحبة لشرعه وذلكم مخافة أن يصرفه مولاه عن هداه بعد إذ تنكب الطريق باختيار، ويوم أن تسربل بالإدبار. وذلكم لأن الله تعالى (غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)[آل عمران:97].وذلكم أيضا لأن الله تعالى لما أراد أن يُعبَدَ فإنما كان ذلكم أولى درجات القيام بواجب الشكر لما خلق. وذلكم لأنه تعالى قال أيضا(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ)[الذاريات:56،57].

وفيه شدة النكير على الاستكبار والمستكبرين معا. وذلك لأنه داء إذا استشرى في صاحبه لصده عن الهدى صدا. ذلك لأنه قال قولا لدا(تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا، أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدًا)[مريم:90،91].

 والكبر مغوٍعن الرشاد. حتى لكأن صاحبه قد حيل بينه وبين الهدى جزاء الاستكبار، وحتى ولكأنه قد ألبس لباس الصغار. نكاية لجرمه، وعاقبة لكبره. ذلك لأن الله تعالى قال(العِزُّ إِزاري، والكِبْرياءُ رِدَائِي، فَمَنْ يُنَازعُني في واحدٍ منهُما فقَدْ عذَّبتُه)[مسلم:  7/618]

والإشهاد سنة ربانية وطريقة قرآنية لإثبات الحقوق وحفظ الممتلكات. وعدمه مآله تضييعها فوجب إذن إعماله وحرم إذن إهماله، إلا فيما جاء نص بائتمان أو جاء بيان من الله تعالى من مثل قوله تعالى(فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ )[البقرة:283].قال ابن جرير رحمه الله تعالى(وإنما يجوز ترك الكتاب والإشهاد في ذلك، حيث لا يكون لهما إلى ذلك سبيلٌ).

وفيه عدم جواز كتمان الشهادة. وكاتمها إذن آثم كما قال تعالى(وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ۚ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ)[البقرة:283].ولنهي ربنا تعالى الرحمن سبحانه في قوله(وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا)[البقرة:282].

والشهادة بحق سبب لتزكية النفوس كما قال تعالى(وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الْآثِمِينَ)[المائدة:106].

بقي القول حول توثيق سبب نزول الآية الكريمة وهل هو خاص بعبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه أو هو نبي الله موسى عليه السلام أو كلاهما معا أو أن المقصود هو جنس الشاهد بقطع النظر عن اسمه؟

والذي تطمئن له النفس أن المقصود بذلك هو جنس الشاهد تأسيسا على صيغة العموم الواردة في النص. وكونها وافقت عبدا صالحا كنبي الله تعالى موسى أو الصحابي الجليل أوهما معا لاينفي كون المقصود بالشاهد عموم الشهداء للقاعدة الأصولية المطردة(العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب).

 وعن عامر بن سعد، عن أبيه، قال: ما سمعت رسول الله يقول لأحد: إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام، وفيه نزلت: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الأحقاف: 10] [أخرجه مالك في الموطأ، ورواه البخاري 7/ 97 في المناقب، باب مناقب عبد الله بن سلام. ومسلم (2483) في الفضائل].