قال الله تعالى: ﴿ عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ۚ وَاللَّهُ قَدِيرٌ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [الممتحنة: 7]. ورغم أنهم كفروا، وهذا موجب العداوة، إلا أنه تعالى أسندها إلى المؤمنين، برهان عقيدة الولاء والبراء فيه تعالى. دينا قيما ملة إبراهيم؛ ولأنه بهذه العقيدة ينبني عليها التمايز والفصل، وبها فلا تختلط القيم ولا الموازين ولا العقائد ولا التصورات، ولا تذوب الأديان، وإنما يكون التراحم ذا باب واسع، من هنا من عقيدة الولاء والبراء، وحين تكون سببا في مراجعة، وحين تكون موجبا لإعادة تفكير إيجابي، ومن أحوالها تحقيق قوله تعالى: ﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا﴾ [الكهف:(16)]. إذ ولما كانت في مزايلة الباطل وأهله معه، ذلكم الفضل العميم، والذي أشار إليه الذكر الحكيم، وحين كان منه ما لا يقدر أحدنا أن يضيف إليه تفسيرا أو معنى ضافيا، ولأنه حوى كل معنى ضاف جميل، وحين كان من ثمرات المزايلة قوله تعالى: ﴿ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا﴾. منقبة وذكرا حسنا.
وحين كان التمايز دينا، والمفاصلة عقيدة، فيأتي الله تعالى بفرج، يكون وليد هذا التمايز، وحين كان من تزويجه تعالى نبينا ﷺ أم حبيبة رملة بنت عمه أبي سفيان، ذلك العميد في قومه، وذلك السلطان في أهله، وليغزو الإسلام بيته، ولعله أن يحن، وعساه أن يتراجع، رغبة من ديننا في إظلال العالمين، وكافة بظلاله الوارفة الهنية، بابا واسعة إلى آفاقه الرحبة، وأنه يسع العالمين برحمته وإلفه، وحين تتوج علائقهم بميزان التوحيد والعقيدة.
وهذا أيضا مما يعد تطبيقا لآية سورة الكهف آنفة الذكر، وحين كان من ثمرة المزايلة عموم رحمته تعالى بدار أبي سفيان؛ لتتزوج ابنته من نبينا ﷺ، وكذا استشراف إسلام والدها نفسه، وقد كان! وهذا أيضا مما يعد برهان وجوب إعمال قاعدة المزايلة، باعتزال الباطل وأهله؛ وليجني المجتمع كله ثمار ذلك الغضة الطرية، وليس كما يشاع وكما قد أشاعت قريش من قبل: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا[1]. ولأنه كان ذلك أمنا وسراجا للعالمين، وحين روجعت الموازين، وحين استرجعت القيم، ولما استحضر الهدى ودين الحق! وأصبح للإسلام دولته التي بسط الله تعالى به سلطانه على ظهر البسيطة، وما وجدنا إلا كل خير، وما لمست البشرية فيه إلا كل وئام وتجميع وتأليف وحنو وانسجام، وهذا هو الدين الذي كان ولا يزال من أصوله ذلكم التمايز الحق، والذي به يمكن لكل أحد أن يستكين إلى حق غير ذي رخاوة وإلى عقيدة كلها إلف وجميعها طلاوة! وذلكم بدل ان يتخالط الناس مطيعهم وعاصيهم وليضرب الله تعالى قلوب بعضهم بعضا نظير هذا الذي نهى الله تعالى وحين قال سبحانه ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنعام: 68]. وفيها قال القرطبي رحمه الله تعالى: فأدب الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الآية ; لأنه كان يقعد إلى قوم من المشركين يعظهم ويدعوهم فيستهزئون بالقرآن ; فأمره الله أن يعرض عنهم إعراض منكر . ودل بهذا على أن الرجل إذا علم من الآخر منكرا وعلم أنه لا يقبل منه فعليه أن يعرض عنه إعراض منكر ولا يقبل عليه[2].
وكذا قوله تعالى﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾[المائدة: 78و79].
وعن عن ابن مَسْعُودٍ رضي الله تعالى عنه قال: قال رسولُ اللَّه ﷺ: إنَّ أوَّلَ ما دخلَ النَّقصُ علَى بَني إسرائيلَ كانَ الرَّجلُ يَلقى الرَّجلَ فيقولُ يا هذا اتَّقِ اللَّهَ ودَع ما تصنَعُ فإنَّهُ لا يحلُّ لَكَ ثمَّ يَلقاهُ منَ الغَدِ فلا يمنعُهُ ذلِكَ أن يَكونَ أكيلَهُ وشريبَهُ وقعيدَهُ فلمَّا فعلوا ذلِكَ ضربَ اللَّهُ قلوبَ بعضِهِم ببعضٍ ثمَّ قالَ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ إلى قولِهِ فَاسِقُونَ ثمَّ قالَ كلَّا واللَّهِ لتأمُرُنَّ بالمعروفِ ولتَنهَوُنَّ عنِ المنكَرِ ولتأخُذُنَّ علَى يدَيِ الظَّالمِ ولتَأطرُنَّهُ علَى الحقِّ أطرًا ولتقصرُنَّهُ علَى الحقِّ قصرًا[3].
وعن قيس بن أبي حازم: قال أبو بكرٍ ، بعد أن حمِد اللهَ وأثنَى عليه : يا أيُّها النَّاسُ ، إنَّكم تقرءون هذه الآيةَ ، وتضعونها على غيرِ موضعِها عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ وإنَّا سمِعنا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ : إنَّ النَّاسَ إذا رأَوُا الظَّالمَ فلم يأخُذوا على يدَيْه أوشك أن يعُمَّهم اللهُ بعقابٍ وإنِّي سمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ : ما من قومٍ يُعمَلُ فيهم بالمعاصي ، ثمَّ يقدِرون على أن يُغيِّروا ، ثمَّ لا يُغيِّروا إلَّا يوشِكُ أن يعُمَّهم اللهُ منه بعقابٍ[4].
"ولهذا لما تخلَّف كعبُ بن مالكٍ وصاحباه عن غزوة تبوك بغير عذرٍ هجرهم النبيُّ عليه الصلاة والسلام خمسين ليلة حتى تابوا فتاب الله عليهم، نزلت توبتهم من عند الله عز وجل"[5].
و" حديث ابن مسعود في بني إسرائيل فيه بعض الضعف، لكن له طرق، أما حديث الصديق فهو صحيح، رواه أحمد وأبو داود والترمذي بإسنادٍ صحيحٍ، أما حديث ابن مسعود فالمؤلف تساهل فيه؛ لأنَّه من باب الترغيب والترهيب، وشواهده كثيرة، ونصَّ القرآن يكفي: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ [المائدة:78]، فنصّ القرآن كافٍ في قصة بني إسرائيل –نسأل الله العافية"[6].
* * *
﴿ عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ۚ وَاللَّهُ قَدِيرٌ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾. وهذا هو الإسلام، لا يترك بابا لمعالجة الناس وثنيهم عن كفرهم إلا ولجه، ولكنه هذه المرة أتى من باب آصرة المصاهرة، والتي هي من أمتن الأواصر بين الأمم، ولعل قربا في المصاهرة يتمخض عن قرب في المعاملة، ليفتح الله به قلوبا غلفا وأعينا عميا وآذانا صما، وهذه محاولات الإسلام الإيجابية، وحين يغلق الناس في وجهه بابا، ليأتي إليهم من باب آخر؛ رغبة في خير، وإشمالا لهدى، ونشرا لظلال رحمته، ولأنه دين يعز عليه ألا يستظل ولو فردا واحدا بظله!
﴿ عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ۚ وَاللَّهُ قَدِيرٌ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾. وكل جعل فإنما هو حقيقة منه تعالى، ولئن بدت أسباب، ولئن زهت عوالق، وإن علت روافد، وإن كل ذلك لما كان من فضله وجوده وكرمه، دينا قيما أيضا، وليخلع المرء عن نفسه فضلا، ولأن الفضل بيد الله الواسع العلي العظيم، وهذا تعليم آخر لأدق دقائق علم العقيدة فيه تعالى، أن يرد إليه الخير كله، ولأنه المانح المانع سبحانه على الحقيقة.
﴿ عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ۚ وَاللَّهُ قَدِيرٌ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾. وهذا تعليم بِعَسَى! وهي في حقه تعالى موجبة، وبمعنى أنه تعالى إذا قال كان قوله منزلا على واقع محسوس؛ لترى الأفق، وقد لاح فجره، لميلاد يوم جديد، يستظل فيه بيت أبي سفيان بنور الهدى ودين الحق، وحين تربع عرش المصاهرة عند باب بيته، مادا يدا حانية لإسلامه، وبيانا للعالمين، أن هكذا دين الحق، ليس يترك بابا، ولو كَسَمِّ الخياط إلا ولجه؛ ليشمل القوم بنوره المبين، وهداه إلى صراط مستقيم.
﴿ عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ۚ وَاللَّهُ قَدِيرٌ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾. ويحسب هذا العامل الإيجابي للإسلام، وحين وقف موقفا صلبا، لا هوادة فيه، وأمام عقيدته التي لا تلين، وفي نفس الوقت تتفتح به أشرعة المصاهرة والقربى، وبحيث يحاول ألا يترك بيتا إلا ويدخله نوره، ولو كان بيت ألد أعدائه يوما، وذلك أبو سفيا- عمه- مثلا حيا ماثلا، وحين كان قائد حروب النبي الأمي ﷺ في بدر الفرقان، ويوم أحد ليس بعيدا!!!
﴿ عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ۚ وَاللَّهُ قَدِيرٌ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾. وإنما هذه آية تحمل معنى الإعجاز كله! وحين ذيلت بعموم قدرته، وحين انتهت ببسط قيوميته تعالى، ولأنه من ذا الذي كانت القلوب بين إصبعين من أصابعه ليحركها كيف يشاء، وبحيث أمكن تحويل دفة بيت العناد والحرب والكيد إلى عمل صالح! كان بيئة نكدة، فأضحى تربة خصبة؛ لبذر بذور الهدى وغراس الصلاح فيه؟!! وحين كانت أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان زوجا لألد أعداء أبيها!!
﴿ عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ۚ وَاللَّهُ قَدِيرٌ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾. إن توارد ألفاظ الأسماء وما تحمله من عظيم الصفات لله تعالى وعلى نحو بلغ خمس مرات هكذا﴿ عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ۚ وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ وعلى هذا النظام الملفت أيضا، وفي حيز قرآني محكم قصير، كهذا الذي بين أيدينا، ليعد برهانا على كم هي قيمة الألوهية لله تعالى الحق المبين، وما يصاحبها من قدرة، وإذ لولاها ما استطاع أحد أن يجمع ما تفرق من شأن العرب، وحين جمعهم الإسلام في بوتقة واحدة، هي بوتقة الهدى والتوحيد، ومن بعد حرب دامية دامت أربعين سنة- حرب البسوس-، وإذ كان سببها كلمة!!!
وأيضا ما يصاحب قيوميته وسلطانه من مغفرته ورحمته، وإذ كانت ضمادا لجروح المعاصي والآثام الغائرة! فجاءت هذه المغفرة وهذه الرحمة؛ لترفق بالناس، وأن لهم ربا يتجاوز عن السيئات، ويعفو عن كثير- سبحانه- !
ولأنها- أي الألوهية- تعني بسط سلطانه تعالى على كل سلطان آخر، ولأنها تعني أيضا خلع كل سلطان دون سلطانه تعالى، ولأنه كان من موجب ألوهيته أن يستظل الكل تحت سلطانه وقيوميته؛ إعزازا لكل واحد، وبحيث لا ثمة تمايز بين أخ وأخيه إلا بالتقوى والعمل الصالح، وهنا تذوب الفوارق، ويعيش الناس كافة تحت إمرة سلطان واحد، هو سلطان خالق الناس أجمعين، والذي كان الاعتراف بسلطانه من موجب خلقه أولا، ثم من موجب علم الصانع بصنعته، وإنما به توصل الأرحام، وتبسط علائق المودة والرحمة والوئام بين فصائل الناس أجمعين.
[1][سيرة ابن إسحاق، محمد بن إسحاق بن يسار: ج ٢ /١٢٩].
[2][ تفسير القرطبي ، القرطبي: ج ٧/ ١٢].
[3][ ضعيف أبي داود، الألباني: 4336].
[4][صحيح أبي داود، الألباني: 4338].
[5][شرح رياض الصالحين، الإمام ابن باز رحمه الله تعالى: مادة مسجلة].
[6][شرح رياض الصالحين، الإمام ابن باز رحمه الله تعالى: مادة مسجلة].