﴿ وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ  ﴾[الأنفال:71].

هذه صورة حية من وقائع يوم بدر، وإنها لتحكي لنا تصويرا عظيما لحال الناس، وحين تأخذهم جهالتهم أن ربهم ليس محيطا بهم، وأنه تعالى يعلم سرهم ونجواهم!

وإنما عالجت هذه الصورة ذلك الذي ادعاه العباس أنه أسلم يوم أسر في بدر. وإنما كان هذا رد القرآن، دحضا لزعمه، وفضحا لأمره! وكيما يكون عظة لغيره وعبرة، على مدار السنين، وسائر الأزمان.

إن إدعاء العباس ومن شاكله إسلامهم يوم أسرهم في بدر زعم لا ينطلي وحين رده القرآن ومنسحبا على أصل كفرهم في مكة ولاجديد يميط أذاهم.

إن القرآن بهكذا تنزيل كريم قد فضح زعم العباس إسلامه يوم بدر، ولفك وثاقه، ودون فدائه! وعلى حين كان يجهل قدرة ربه الجبار وأنه سيظهر كيد نفسه التي بين جنبيه!

وإنما نزل القرآن على نحو ما سبق، معتبرا ذلك خيانة العباس لنبينا صلى الله عليه وسلم، وفي ذات الوقت كانت تسلية له صلى الله عليه وسلم، ولأنه ولئن أرادوا خيانتك فقد سبقت خيانتهم لله من قبل، وبه يرتفع إشكال نفسي قد رأينا ظلاله، من خلال الصورة المعبرة، التي حكاها القرآن المجيد، ومن خلال هذه الآية الكريمة.

وهذا دليل قياس القرآن، والمقيس هو خيانة الرسول صلى الله عليه وسلم، والمقيس عليه هو خيانة الله تعالى، والعلة هي الكفر به سبحانه. وهذه مسألة أصولية لها مكانها في بابها، لكني أشرت إليها، ومن طرف، وكيما تكون عالقة في الأذهان، وأنه هذا هو القرآن الحمال أوجها وصورا وتعبيرات وأصولا وقواعد وأحكاما!

وإرادة الخيانة خيانة! ولقياس القرآن إرادة خيانة نبينا صلى الله عليه وسلم على خيانته تعالى، ولأنها جرت قولا، وحين ادعى إسلامه ومن كان على شاكلته.

وفيه أن من كذب على الله تعالى فهو على غيره أكذب، ومن خان الله تعالى فهو لغيره أخون. وليكون الصلح مع الله أولا.

وإن كفرا به تعالى خيانة له، ولأن كافرا مؤتمن على وديعة فطرة إيمان فيه، وإضاعتها خيانة، وهذه من كنايات الذكر الحكيم القرآن العظيم.

وجاء سبق فعل الشرط(يريدوا) ب(إنْ)، لا لإفادة الشك، على أصلها، بل تسلية لنبينا صلى الله عليه وسلم ، وتسرية عنه فعل قومه به، وهذه وقفة من وقفات بلاغة قرآننا!

وجاء جواب الشرط(خانوا) مقترنا بفاء العاقبة، برهان تتابع القوم على خيانتهم، ولحذر تلبس بداء كان مزمنا فيهم.

واقترن جواب الشرط ب(قد)، برهان تحقيق أفاد توكيدا، خيم على النص غيم شؤم الكفر، وكونه خيانة لله.

واعتبار الكفر خيانة أفاد تجسيمه، تنفيرا عن صورة تشمئز منها القلوب الندية، وتدبر عنها النفوس الزكية!

 وإن نسبة الإمكان إليه تعالى، برهان نسبة الحوادث إليه تعالى على الحقيقة، وإن غيرُه إلا سببٌ.

وإن إمكانه تعالى ممن كفر، سنة ماضية، خذلانا، وانهزاما، وضيق نفس، وحشرجة صدر، وحرمان أمن.

ولأنهم كانوا سريعا خانوا الله تعالى، فإنهم أيضا سريعا قد أمكن الله منهم، ولأن الجزاء من جنس العمل!

وكان الإمكان منهم هو أسرهم، فأعرض القرآن عنه، دلالة أن الأسر موثق مهين مذل.

ولأنهم لم يقدروه تعالى قدره ﴿ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ  ﴾[الزمر:67].