نصت الآية الكريمة على أن الاستعاذة لا تكون إلا بالله تعالى. وعلى هذا كان اعتقاد ذلك دينا فوق أنه حق، ودلك عليه أن الاستعاذة لا تتأتى إلا بقوة قاهرة قادرة، وقد كان في عقد الحنفاء أن هذه القوة القادرة ليست لتكون إلا لله تعالى، ومنه فقد اختصت الاستعاذة به وحده دون سواه -سبحانه-. وقد علم الله تعالى أن عبيده مربوبون، ومن ربوبيته لهم ألا يستعاذ إلا به، ولا أحد في الكون بقادر أن يلاذ به كما الله تعالى، فرارا مما سواه إليه تعالى، ومنه كانت عبودية الخلق متأتية على بابها يوم أن كانت الاستعاذة به سبحانه وتعالى وحده دليل ضعف العبد، وبرهان فقره إلى ربه الرحمن سبحانه، ودليل قوة وقدرة في جانب الرب سبحانه وتعالى.

وقد تركز في أذهان الحنفاء أن الاستعاذة بغيره تعالى إنما هي إلى بوار، كما أن اللجأ إلى سواه تعالى مآله إلى خسار، ألم تر أن الله تعالى قال﴿    وَأَنَّهُۥ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ ٱلْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍۢ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (الجن  ﴾ ؟[الجن: 6].

فالاستعاذة بغيره تعالى مما لايقدر عليه سواه سبحانه، تعد من الشرك، الذي نهى الله تعالى عنه، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (لا يستعاذ الا بالله أو بصفة من صفات ذاته"[1].

ومنه الحديث "عن عثمان بن أبي العاص الثقفي ، أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعا يجده في جسده منذ أسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ضع يدك على الذي تألم من جسدك ، وقل باسم الله ثلاثا ، وقل سبع مرات أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر"[2].، إذ إنه أمره بالاستعاذة بعزة الله وقدرته، والعزة من صفات الله تعالى، وهي ليست مخلوقة.

وقال الحافظ بن حجر" لا يجوز الاستعاذة بالمخلوق"[3]. وقال الخطابى" كان أحمد يحتج بحديث( أعوذ بكلمات الله التامات ) بأن النبى لا يستعيذ بمخلوق"[4].

ومن ذلك أيضًا الاستعاذة بأصحاب القبور، فإنهم لا ينفعون ولا يضرون، فالاستعاذة بهم شرك أكبر، سواء كان عند قبورهم أم بعيدًا عنهم[5].

أما الاستعاذة بالمخلوق فيما يقدر عليه، فإنها جائزة، وهو مقتضى حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ستكون فتن ، القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي ، من تشرف لها تستشرفه ، فمن وجد منها ملجأ ، أو معاذا ، فليعذ به"[6].

فالاستعاذة إذاً لا تكون إلا بالله تعالى. فيما لا يقدر عليه سواه سبحانه. وأما ما قدر عليه العباد بينهم البين  فالأمر فيه واسع ولله الحمد.  

وقد سار الأولون من أهل العلم والصالحين على ذلكم الاعتقاد، وتركوا لنا ذخرا عظيما مما يعتد به سندا في أثناء مسيرة حافلة على طريق الحق والهدى، استعاذة بالله تعالى، من الشيطان الرجيم ومن همزه ونفخه ونفثه،  كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:" فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَلِفَ بِصِفَاتِهِ كَالْحَلِفِ بِهِ كَمَا لَوْ قَالَ: وَعِزَّةِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ لَعَمْرُ اللَّهِ أَوْ: وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ جَوَازُ الْحَلِفِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَنَحْوِهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ؛ وَلِأَنَّ الْحَلِفَ بِصِفَاتِهِ كَالِاسْتِعَاذَةِ بِهَا – وَإِنْ كَانَتْ الِاسْتِعَاذَةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِاَللَّهِ فِي مِثْلِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَعُوذُ بِوَجْهِك} {وَأَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ} {وَأَعُوذُ بِرِضَاك مِنْ سَخَطِك} وَنَحْوِ ذَلِكَ – وَهَذَا أَمْرٌ مُتَقَرِّرٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ"[7].

وقال رحمه الله تعالى أيضا: " إنما يستعاذ بالخالق تعالى وأسمائه وصفاته، ولهذا احتج السلف ـ كأحمد وغيره ـ على أن كلام الله غير مخلوق فيما احتجوا به بقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏أعوذ بكلمات الله التامات‏)‏، قالوا‏:‏ فقد استعاذ بها، ولا يستعاذ بمخلوق"[8].

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: " المستعاذ به هو الله ... وحده رب الفلق ورب الناس ملك الناس إله الناس الذي لا ينبغي الاستعاذة إلا به، ولا يستعاذ بأحد من خلقه، بل هو الذي يعيذ المستعيذين ويعصمهم ويمنعهم من شر ما استعاذوا من شره، وقد أخبر الله تعالى في كتابه عمن استعاذ بخلقه أن استعاذته زادته طغيانا ورهقا، فقال حكاية عن مؤمني الجن ﴿ وَأَنَّهُۥ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ ٱلإنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ﴾ جاء في التفسير أنه : كان الرجل من العرب في الجاهلية إذا سافر فأمسى في أرض قفر قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه فيبيت في أمن وجوار منهم حتى يصبح أي فزاد الإنس الجن باستعاذتهم بسادتهم رهقا أي طغيانا وإثما وشرا يقولون سدنا الإنس والجن . والرهق في كلام العرب : الإثم وغشيان المحارم . فزادوهم بهذه الاستعاذة غشيانا لما كان محظورا من الكبر والتعاظم فظنوا أنهم سادوا الإنس والجن "[9].

 ومنه قوله تعالى ﴿ وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ*وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ﴾ [المؤمنون :97-98]، ليدلك على تخصيص الاستعاذة به تعالى وحده، وهو ما يشي به ضمير الخطاب في قوله تعالى( بك)، وتكرار لفظ الفعل المضارع(وأَعُوذُ) فيه ضرب من هذا، إضافة إلى أنه يتناول زمنيه الحال والاستقبال، دلالة على كون استعاذة العبد بربه تعالى وحده تكون لازمة أبدا، و" الهمزات: جمع همزة وهي المرة من فعل الهمز، وهو في اللغة: النخس والدفع، وهمزات الشياطين: نخساتهم لبني آدم ليحثوهم، ويحضوهم على المعاصي "[10].

وفسرت بخنقهم وهو الموتة التي تشبه الجنون , وظاهر الحديث أن الهمز نوع غير النفخ والنفث , وقد يقال وهو الأظهر إن همزات الشياطين إذا أفردت دخل فيها جميع إصاباتهم لابن آدم وإذا قرنت بالنفخ والنفث كانت نوعا خاصا كنظائر ذلك ثم قال ﴿ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ﴾  قال ابن زيد : في أموري . وقال الكلبي : عند تلاوة القرآن . وقال عكرمة : عند النزع والسياق . فأمره أن يستعيذ من نوعي شر إصابتهم بالهمز وقربهم ودنوهم منه فتضمنت الاستعاذة أن لا يمسوه ولا يقربوه "[11].

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى : " والشيطان لا يدع العبد يفعل هذا، بل يريه أن هذا ذل وعجز، ويسلط عليه عدوه، فيدعوه إلى الإنتقام، ويزينه له، فإن عجز عنه دعاه إلى الإعراض عنه، وأن لا يسيء إليه، ولا يحسن، فلا يؤثر الإحسان إلى المسيء إلا من خالفه، وآثر الله تعالى، وما عنده، على حظه العاجل، فكان المقام مقام تأكيد وتحريض، فقال فيه﴿   وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾    [فصلت:36] "[12].

وقال أيضا : " فهذا استعاذة من قرينها وصاحبها وبئس القرين والصاحب فأمر الله سبحانه نبيه وأتباعه بالاستعاذة بربوبيته التامة الكاملة من هذين الخلقين العظيم شأنهما في الشر والفساد والقلب بين هذين العدوين لا يزال شرهما يطرقه وينتابه " [13].

[1][ فتح الباري - ابن حجر: 11/546].

[2][ صحيح مسلم، كتاب السَّلَامِ، بَابُ اسْتِحْبَابِ وَضْعِ يَدِهِ عَلَى مَوْضِعِ الْأَلَمِ مَعَ الدُّعَاءِ، حديث رقم: 4199].

[3][ فتح البارى: ابن حجر: ج13/381].

[4][ فتح البارى: ابن حجر: ج6/410].

[5][ مجموع فتاوى ورسائل، ابن العثيمين: ج 9/242]. 

[6][ صحيح البخاري،  كتاب الفتن، باب تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، حديث رقم: 6705].

[7][ مجموع الفتاوى، شيخ الإسلام ابن تيمية :35/273].

[8][ مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - ج 1 - توحيد الألوهية /336].

[9][ بدائع التفسير، ابن القيم: ج3/392 ].

[10][ أضواء البيان - الشنقيطي - ج ٥ - الصفحة ٣٥٣].

[11][ إغاثة اللهفان 1/ 95].

[12][ بدائع الفوائد - ابن القيم الجوزية :  2/490].

[13][ الروح - ابن قيم الجوزية : 1/232].