مع هواة المعرفة والتعلم

أحمد بابكر حمدان


"إن توقفك عن التعلم لقلة الوقت، يشبه إيقاف ساعتك على أمل تثبيت الزمن" روجر فريتس


“كنت أبحث عن معيار حقيقي للتقدم الحقيقي، فوجدته في رقي أخلاق النخب، وشغف الناس العاديين بالعلم والاكتشاف" عبد الكريم بكار


يمكننا وصف التعلم بأنه عملية اتصال بين طرفين يجمعهما فضاء اتصالي جيد يساعد في نقل المعلومات أو تبادلها بحسب نوع التعلم وطبيعته. وإن كان لا بد من معلم ومتعلم في العملية التعليمية، فإن أدوات الاتصال وأساليبه المتاحة، يكتسبان أهمية مماثلة للطرفين الأساسيين. إن التعلم وسيلة تواصل وهمزة وصل بين الأجيال والمعارف، ولو لم يكن ثمة تعلم لانقطع عزف المعرفة وصمت صيتها؛ إذ الإنسان وهو حامل المعارف محدود الأجل ومعرض لمختلف آفات الزمان، وبالتعلم من السابق يكتسب اللاحق جملة المنتج من المعرفة، ويصبح المتعلم أداة وصل لما سبق من المعارف بما يستجد منها. والفكرة السابقة ذات أهمية كبيرة لهواة المعرفة والتعلم.


- المعرفة نشاط مفضل:

من المهم أن يستقر في ذهن الطالب أن المعرفة "نشاط مفضل" في سلة أنشطته وبرامجه المعتادة، وليست عبئا ثقيلا وجهدا لا يطاق. في هذا السياق، كتب الطالب أنور فريحة (جامعة السلام، السودان): "في كورس اكتشاف الهوايات بدأ التغير يشق طريقه بعمق في حياتي المعرفية.. في تلك اللحظات شعرت بأنني أنتقل إلى عالم آخر، عالم مليء بالمعرفة، مفعم بكثير من ادواتها.. بدأت في التمييز بين الهواية والموهبة، ووجدت نفسي قريبآ من تحقيق طموحاتي، حين تعرفت على طرق تعزيز الهوايات، وكيفية تطويرها، وقد ساعدني الكورس في التعرف على تصنيف مبتكر لكل من الهوايات والمواهب كلا على حِده". ويضيف قائلا: "عند تطبيقي لتقنيات الكورس، وجدت نفسي اكثر ميلا للهوايات المعرفية، وقد كنت في أمس الحاجة للمعرفة بالطبع وما زلت. إن الهوايات المعرفية هي أنشطتي المفضلة، ومن خلالها أستطيع النفاذ إلى أسرار وخفايا عالم المعرفة الشاسع، وبلوغ ما كنت أطمح إليه. في الهوايات العملية كانت الكتابة وهي من أدوات المعرفة ايضا. بالكتابة أستطيع ان أعبر عن سرائري، وكل لحظاتي، الحزينة منها والسعيدة" (1).


عندما نطلب من الطلاب تحديد أبرز هواياتهم المعرفية، تتوارد إجاباتهم بسلاسة متسقة مع أعمارهم ومستوياتهم الذهنية، وتتكشف بشكل تلقائي، ميولاتهم الدراسية، ودرجات التفاوت في حبهم لما يتلقونه من مواد ومقررات. إن الكشف عن تفضيلات الطلاب قد يساعدنا في معالجة ما يواجهونه من صعوبات أكاديمية، أو ما يعانونه من صعوبات في التواصل مع مدرسي بعض المواد، فضلا عن توفير ما تتطلبه بعض الدراسات من أدوات، قد يكون توفرها سببا حاسما في ارتباط الطلاب بها وحبهم لها وتفوقهم في تعلمها. وقبل أن نلومهم على الانصراف عن التعلم والمعرفة، يجدر بنا أن نغرس في نفوسهم أن المعرفة نشاط مفضل وهواية ممتعة. إن النقلة الحاسمة في مسار التعلم، قد تكون فكرة أو مفهوما concept فعالا يتبناه المتعلم ويقيم عليه بناءه المعرفي. والملاحظ أن غالب جهودنا في مجال (التعليم والتعلم) إنما تتركز على تكثيف الأنشطة من ناحية، أو التعويل على صور التعلم وأدواته وتقنياته كإجراءات جوفاء فاقدة للروح والمضامين.


إن التعلم في مجمله جهد ذهني مضن، وبطيء النتائج في ذات الوقت، مما يتطلب توفير مبررات جيدة وكافية، في ظل التنافس الشرس للاستحواذ على أوقات الطلاب على وجه الخصوص وجذب اهتماماتهم إلى ساحات أخرى أكثر بريقا وأوفر إثارة من ميادين التعلم. إن ما نطمح إليه من نتائج جيدة وتغير كبير في أداء الطلاب، قد لا يكون بنفس سرعتنا في صياغة الأفكار وإعداد الخطط وتقديم البرامج، لكن المهم قطعا هو نجاحنا في إحداث مستوى من التغيير في مفاهيم المتعلمين، وإعادة رسم الصور الذهنية، في خطوة وصفناها بعملية إعادة “ضبط الإعدادات”.


- نموذج ASC وتعزيز حب المعرفة:

تعد سيرة الطالب student cv أداة مهمة لمتابعة نموه الشخصي، وتتضمن حسب نموذج ASC ثلاثة عناصر رئيسة هي (المواهب والهوايات والطموحات). وتمثل الهوايات أفضل وسيلة لاكتشاف العلاقات المتوفرة بين قدرات الطالب وملكاته من ناحية، وطبيعة ميولاته، وطموحاته المستقبلية. ويأخذ ASC منحى جديدا في الاهتمام بأنشطة جميع الطلاب، والعمل على اكتشاف ما لدى كل منهم من ميول منشطية، مما يسهم في زيادة فاعليتهم ويعزز درجة تواصلهم البيني وارتباطهم بمؤسساتهم التعليمية. بحسب النموذج، فإن الهوايات Hobbies عبارة عن سلة الأنشطة المفضلة للشخص، وتصنف إلى أربعة أقسام تتصدرها “المعرفة” وما يتصل بها من أنشطة التعلم والتحصيل العلمي، بمختلف أدواته وقوالبه وإطاراته. إن ثمة تغيرًا كبيرًا ينتظر أن يضيفه نموذج “ASC” فيما يتعلق بنظرة الطالب للمعرفة، و"تحسين مستوى الاهتمام بها"، حسب تعبير طالب بالثانوية. ويهدف النموذج من وضع النشاط المعرفي في سلة هوايات الطالب، إلى ترقية المعرفة والتعلم إلى مرتبة الأنشطة المحببة، أسوة بالرياضة والترفيه. إن ما يقوم به “ASC” محاولة لتوظيف العقل الباطن في ربطه بين المفردات والأحداث، وإنتاجه مشاعر متماثلة برابط التزامن. ولك أن تتوقع ما سيجنيه مستخدم النموذج وهو يقبل على المعرفة كنشاط مفضل في سلة هواياته، وما يرسخه ذلك من حب للمعرفة. قد تكون مهمة المعلم في ترسيخ “حب المعرفة” شاقة بدرجة كبيرة؛ نسبة لما تصنعه البيئات الاجتماعية من معاجم في الواقع، وتحديدها لأوزان الأشياء وأدوارها، ومن ذلك المعرفة بالطبع. إن تأكيدنا على صعوبة مهمة المعلم، ليس سوى تنبيه؛ حتى لا يتخطفه اليأس حين يتبنى معظم الطلاب تفسيرات مزرية بالمعرفة والتعلم، ولا يحطمه الإحباط وهو يشاهد تباين الأوزان على صفحة الواقع.

 

الإتقان وليد "الشغف"

"إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه". حديث شريف

في دراستنا "نحو مفهوم جديد للهوايات"، قدمنا تصورا واسعا للهوايات، لتشمل في طياتها جميع الأنشطة المفضلة للشخص، ومن بينها بالطبع، الأنشطة (الجادة) إلى جانب أنشطة الرياضة والترفيه.. وفي مقدمة الأنشطة الجادة (التعلم) و(العمل). إن حب العمل لا ينفصل عن «حب المعرفة»؛ بالنظر إلى أن «العمل» نفسه من ضروب «التعلم» ودرجة من درجات المعرفة. ولنا أن ننظر إلى العمل بوصفه تطبيقًا للمعرفة، ومنتجًا لها في نفس الوقت. أما إتقان العمل فهو درجة أرفع من مجرد أدائه، ولا تخفى صلة ما بين الإتقان وحب العمل. إن المتقن لعمله المتفاني فيه هو ذلك المتعلق بمهنته ومجاله، الشغوف بهما، لا ذلك المؤدي لمهامه بدافع الواجب في أحسن الأحوال، إن لم يكن مجبرًا عليها ومضطرًا.


وفي استخدامنا للمفهوم الجديد، عبر تطبيق (نموذج آسك)، استمر تأكيدنا على صلة ما بين المعرفة والعمل من ترابط وتعاضد، وعادة ما تظهر علاقات أكبر بينهما مع تقدم مستوى المستخدم. عند استخدامنا للنموذج في المرحلة الثانوية، يتجه اهتمام الطلاب الى ما يتوفر من علاقات بين تفضيلاتهم المعرفية واختياراتهم المهنية مستقبلا، لكن النموذج يوفر لهم منطقة وسطى بالغة الأهمية، وتتمثل في الأنشطة العملية الجارية للطلاب، وما إذا كانت متصلة بأنشطتهم المعرفية الجارية أم لا. إن اهتمامنا بترسيخ «حب المعرفة» والشغف بها في نفوس الطلاب مبكرًا وهم في أطوار التشكل والنضوج، يتسق مع رغبتنا في التعامل معهم، فيما بعد- كمهنيين ومختصين أكثر حبًا وشغفًا لأعمالهم بمختلف ضروبها، بغض النظر عما تصنعه معاجم المجتمع ولغة الواقع من تصنيف وتمييز بين الأعمال والمهن. إن من ينشأ في حبٍّ للعلم والاكتشاف، سيكون محبًا لممارسة ما تعلمه وتطبيقه عمليا، كخطوة جديدة في مشوار التعلم، تزين صدره، وتنير ذهنه، وينفع بها الناس. منذ مطلع رمضان (2021) يعمل الطالب مجاهد احمد علي (جامعة غرب كردفان، السودان) متدربا في إحدى الصيدليات بمدينته الصغيرة، بعد عودته إليها في عطلة الصيام، وكان قد أكمل برنامجا مهنيا قصيرا في الصيدلة، إلى جانب دراسته الجارية في الطب البشري. يقول مجاهد عن تجربته الأخيرة: "أرى أن الفترة التدريبية جزء من التعلم، بل إن العمل نفسه، عبارة عن تعلم جديد عن طريق تطبيق المعرفة". وحسب مجاهد، فإن صفة (متعلم) ينبغي أن تكون ملازمة للشخص في مختلف مراحل العمل، سواء كان متدربا أو ممارسا محترفا.


إلى جانب أنشطة العمل والإنتاج، أولى المفهوم الجديد للهوايات، عناية خاصة بالعمل التطوعي، وأفرد له نموذج آسك عنوانا مستقلا، وإن كان نوعا من العمل. وتبدو فرص الإتقان في الأعمال التطوعية أكبر، من حيث ارتباط التطوع بالرغبة والشغف عادة، بخلاف الأعمال العادية، وإن كان الشغف مهما في كليهما. ويمثل إدراج التطوع في مصفوفة هوايات الطلاب، إلى جانب كل من المعرفة والرياضة والعمل، حزمة متكاملة توظف مختلف القدرات (ذهنية وبدنية ونفسية) في تآزر وتناغم بديع يؤكد أن تجديد مفهوم «الهوايات» لا تقف إيجابياته عند مرحلة «المعرفة» فقط، لكنه يمتد إلى صويحباتها الأخريات في سلة هوايات الطالب. يقول أحد مستخدمي «ASC»: «لا يقف النموذج عند مساعدتنا في اكتشاف هواياتنا المعرفية والمهنية، بل يطلب منا معرفة ما بينهما من علاقات أيضًا». ويعمل النموذج على اكتشاف ما بين هوايات الطالب المعرفية والمهنية من صلات وروابط، من شأنها نقل شغفه بالمعرفة إلى شغف مماثل بالعمل، سواء كان بأجر محدد أو تطوعا.


- تحليل شخصيات الهواة:

إن تحليل شخصيات الهواة، يمنحهم رؤية أوسع مدى، ويحفزهم على الاستمرار بوعي وثقة.. ويتيح أمامهم فرصا أفضل لتعزيز هواياتهم، لا سيما "هواية المعرفة". بحسب مؤشر MBTI الشهير لأنماط الشخصية، فإن سمة (الإنجاز) تعد نمطا شخصيا في مقابل صفة (التشتت) وهما صفتان عبر عنهما المؤشر في محوره الرابع تحت عنوان (الترتيب). وتقدم أنماط الشخصية عموما، صورة حالية للوضع الغالب والاعتيادي في تصرفات الشخص، بحيث يمكننا البناء عليها في تواصلنا معه، وتجنب الاصطدام. وتعبر الثقافة الشعبية عن الأنماط بالعادات، وترى أن العادة "جبل" تأكيدا على رسوخها وتعذر تغييرها في غالب الأحوال (2).


عادة ما تواجهنا صعوبات كبيرة في الانتقال بالمتدربين من التفاعل التدريبي القصير، إلى تواصل مستمر لفترات أطول، وبالتالي إتاحة فرص أكبر للانتقال من نقطة إلى أخرى، وتحقيق نتائج ذات قيمة أكبر. في الواقع تتوفر رغبة كبيرة لدى معظم المتدربين، لتحقيق نقلات وإنجازات، لكن واقع الحال يؤكد أن الانتقال قدما لا يتحقق بمجرد رغبات صادقة، أو الحصول على دورات احترافية عالية القيمة. وتكتسب دراسة الأنماط الشخصية أهمية كبيرة؛ حيث تعمل على نقلنا من مجرد التركيز على تحصيل كم معلوماتي، إلى نقطة أعمق بالنظر إلى طبيعة ما تتطلبه شخصياتنا من تعديلات في (الإعدادات) أو جهود لتحقيق درجة من التوازن. إن ما يواجهنا من صعوبات في التقدم الشخصي، وإنجاز الأعمال، ذو صلة مباشرة بأنماط شخصياتنا وما يسيطر علينا من (تلقائية) وعدم قدرة على التأني والالتزام والاستمرار في مشروعات طويلة نسبيا. وتعد سمة (الاستعجال) والاندفاع لتحقيق نتائج سريعة، والتحرك بدوافع المنافسة والانتصار، من أبرز ما يحول بيننا وبين تحقيق نتائج ذات قيمة.. وما لم نعمل على معالجة المشكلة الحقيقية بكل وضوح وحزم، فإن الوصول إلى نجاحات حقيقية سيظل أمنية وحلما مهما توفرت لنا من أدوات وفرص. وتهدر كثير من جهودنا في التعلم على وجه الخصوص، والعمل والعلاقات، بسبب عامل جوهري يتصل بعدم معرفتنا وعدم (اهتمامنا) بأنماط شخصياتنا أو شخصيات من نتفاعل معهم، في خضم انشغالنا المستمر بما يحقق أسرع نتائج وأفضل بريق.


- سمات هواة المعرفة:

لنقترب من هواة المعرفة؛ لنتعرف على أبرز قدراتهم وملكاتهم، ونكتشف أنماط شخصياتهم، واحتياجاتهم النفسية الدافعة لممارسة الهوايات والشغف بها، ودورها في تعزيز هواية التعلم لديهم. إن تحليل شخصيات  “هواة المعرفة”، يتطلب استخدام حزمة أدوات وتطبيقات، بحيث تعرفنا كل أداة، على جانب أو أكثر في شخصية “هاوي المعرفة”. من المناسب استخدام كل من نموذج ASC ومؤشر MBTI وأسلوب الاحتياجات النفسية الستة، حيث يتميز آسك بخاصية اكتشاف العلاقات بين القدرات والأنشطة والميول، بينما يمتاز مؤشر مايرز بريغز بتركيب نمط code الشخصية من دراسة عدة محاور.. أما تحليل الاحتياجات النفسية، فيقدم لنا تفسيرا لدوافع السلوك، ويمنحنا إجابة عن “لماذا نفعل ما نفعله” (3).


حسب نموذج ASC فإن هواة المعرفة، هم من تسيطر الأنشطة المعرفية وأنشطة التعلم على معظم اهتماماتهم، وتبدو قدراتهم وملكاتهم الذهنية أكثر بروزا، وتظهر طموحاتهم في قوالب غير مهنية، حيث يطمح معظمهم لأن يصبح مخترعا، مكتشفا، مطورا، ونحو ذلك من صفات العلماء والباحثين. ونلاحظ تناغما كبيرا بين كل من نموذج آسك ومؤشر الأنماط، حيث يطلق المؤشر وصف “العالم” على أصحاب النمط INTJ ويعني أن الشخص أكثر ميلا للنشاط الداخلي (التفكير)، وأكثر استخداما للخيال، ويتخذ قراراته بعقلانية، ويتصف بالحسم والإنجاز. في نموذج آسك كان ناتج العلاقة بين القدرات الذهنية والانشطة المعرفية، طموحات “عالم”.. وفي مؤشر الأنماط كان نمط “العالم” نتاجا لتفاعل سلة صفات شخصية، من بينها التفكير، الخيالية والعقلانية. ويأتي استخدام الأداة الثالثة (تحليل الاحتياجات النفسية)، أكثر تناغما مع كل من الأداتين السابقتين (النموذج والمؤشر) ؛ حيث يميل "هواة المعرفة" عادة، للبحث عن أكثر الأماكن هدوءا وأبعدها عن الضجيج والصخب، ويتناسب هذا الميل مع المكون الأول في نمط العالم “النشاط الداخلي” ويتماهى مع طبيعة ميولاتهم البحثية.. ويمثل “اليقين” certainty (الثبات، الأمان، التحكم) احتياجا نفسيا عاليا لدى هواة المعرفة والتعلم والبحث، إلى جانب احتياجهم النفسي الأبرز “النمو” growth (التعلم، التطور، التقدم).


- تشجيع الأكثر استعدادا:

كتب الطالب أيمن حماد (جامعة بحري، السودان) في مقالة له بعنوان: التعلم الذاتي في زمن كورونا: "عند العودة إلى الجامعة في سبتمبر لم أشعر بأنني كنت في فترة توقف عن الدراسة، وقد كنت مدركا ان التعلم والمعرفة ليس في الجامعه فقط، بل هو أمر متعلق بالذات، والدراسة الجامعية وسيلة لزيادة المقدرات المعرفية ومهارات الحياة" (4).


ينتظر من المعلم الوقوف على مؤشرات هامة فيما يختص بقدرات المتدربين (الطلاب) واستعداداتهم الذهنية والنفسية.. وذلك من خلال التعرف على مختلف أنشطتهم الجارية، ومنها بطبيعة الحال (الأنشطة المعرفية) وما يتصل بالتعلم والتثقف والمعرفة. يميل الطلاب ذوو النشاط البدني والاجتماعي المحدود إلى أنشطة التعلم بشكل أكبر، بينما تقل مساحات التعلم لدى الأكثر نشاطا، لصالح الأنشطة البدنية والاجتماعية، هذا بصفة عامة وإن كان بعضهم أقدر على التوازن من سواه. من المهم أن نشجع الأكثر رغبة واستعدادا على المضي قدما، وأن نعمل على دعمهم وتزويدهم بما يعزز استعداداتهم تلك ويحفزها باستمرار.. وذلك من خلال المقترحات التالية:

1- إن أول ما يحتاجه المتعلم الراغب في تميز معرفي ذي قيمة، أن نساعده في رسم صورة ذهنية جيدة لمشروعه المعرفي وما ينتج عنه من صفات معرفية محددة، ولا بأس من طرح ذلك في شكل سؤال كبير تمثل الإجابة عنه ملخصا للصفات المراد الوصول إليها وتمثل في ذات الوقت “طموحات معرفية” للمتعلم.

2- يتطلب تحقيق طموحاتنا المعرفية وجودنا في “ميدان ما” أو مجال مهني محدد تتراكم فيه معرفتنا النظرية والتطبيقية باضطراد، حتى نبلغ مستوى يؤهلنا للمساهمة في حل مشكلاته أو تطوير أدواته وتقنياته. ويمثل مجالك المهني ساحة لتعزيز التعلم وميدان للإسهام المعرفي في ذات الوقت.

3- إن اختيارنا للمسارات الدراسية ليس سوى اختيار مهني، وإن كان أوليا وغير حاسم في كثير من الأحوال.. ومما يجدر بالطالب وهو في مراحل دراسية وعمرية مبكرة، أن يعمل على اكتشاف ميولاته وهواياته بشكل مستمر؛ ليمهد لنفسه ويساعدها عند الاختيارات الدراسية والمهنية الحاسمة.


- تجربة التعلم (5):

في تقدير الطالب “مجاهد أحمد علي” (جامعة غرب كردفان، السودان)، أن التعلم عبارة عن إدخال معرفي منظم وهو “ذلك الإدخال الذي يعمل على تشكيل المفاهيم، وتمليك المنهجيات الصحيحة لرؤية وتحليل الواقع، والقضايا التي تواجه (المتعلم) في مسيرته المعرفية.. أكثر من الذي يعمل على تمليك المعلومات والحقائق المثبتة كمفردات. يقال أن ”من يملك معلومة كمن يملك قطعة ذهبية، أما من يملك رؤية منهجيه فهو كمن يملك مفتاح منجم للذهب”. ويضيف شارحا الفكرة: “هذا المفتاح هو ما يحتاجه كل من يطمح إلى بناء (مشروع معرفي)، فهو يفتح الأبواب أمام المتعلم ويعطيه القدرة على التعامل مع واقعه بصورة أكثر تفهماً ووعياً، ومع أحداثه الجارية بصورة أكثر مرونة، وفاعلية، وإدراكاً لما يمكن أن تؤول إليه الأمور.. كما يساعده على تحليل القضايا التي تواجهه في مسيرته المعرفية تحليلاً منهجياً يمكنه من استخلاص نتائج وخلاصات، وتكوين خبرات تراكمية تمهد الطريق له ولغيره، أي يساعده على تحويل نشاطه المهني إلى مشروع معرفي مستمر”.


ما بعد الاضطراب العرفي:

“في قصتي الشخصية، وتجربتي، كنت أعيش حياة مضطربة معرفيا، ولا أستطيع الحصول على ذرة نجاح واحدة؛ بسبب اتباعي أساليب عديدة لا تصب في قوالب النجاح المهم بالنسبة إلي، وكنت دائما ما ألتقي بالفشل في طريقي في كل رحلة معرفية أعدُ لها. ربما كنت غير مرتب الأفكار، وليست لدي مصفوفة منتظمة، او بالأحرى: إن أفكاري في ذاتها كانت لا تخضع للترتيب لغياب بعض بناتها اللبيبات”. هكذا قدم الطالب انور فريحة (جامعة السلام، السودان) لتجربته في التعلم.. ويضيف مستكملا: “في تجربة التعلم، التقيت بهذا العنوان “أسرار التميز المعرفي”.. لم يكن طويلا ولا شاقا، لكن أحرفه شكلت في دواخلي دوافع دعتني للإقبال عليه متحمسا للبحث عن محتواه، وقد قلت في نفسي: لعلي أجد سرا من هذه الاسرار، ويصبح مفتاحا لأفكاري. عندما غُصتَ في عُمقهِ وجدته يتحدث عن المعرفة بطريقة مبسطة ومختلفة، وكأنها ما كنت احتاجه بالفعل”.


أهمية الكتابة في التعلم:

أما طالب الماجستير زبير بن عبد العزيز (جامعة دار الهدى الإسلامية، الهند)، فقد كتب عن تجربته في التعلم قائلا: “إن النشاط المعرفي هو حلقة الوصل بيني وبين المجتمع. في نظامي لا تأتي المعرفة دون مساعدة الآخرين وذلك واضح لأن الشخص الواحد لا يستطيع له أن يبني النشاط المعرفي. إن التواصل بيني وبين مجتمع المعرفة مهم في جميع المجالات، ولا يستطيع أحد أن يبني المجتمع إلا بمتعاون معه.. وأرى أن أي شخص أراد أن يكون ناجحا في مشروعه المعرفي فإن عليه العزم والثقة بنفسه والروح الخالصة. ولابد للعالم والطالب في حياته المعرفية من الكتابة، وهو بغير الكتابة غير كامل وفي حياتنا نثبت أن “من كتب قر ومن حفظ فر”. لذا، الكتابة في حياته واجبة، يقال: عندما تكون قارئًا فكن صاحب قلمٍ مميزٍ أيضًا. وعلى الطالب أن يصحح الأفكار الخاطئة عن الكتابة، ومن ذلك: كونها “ليست من الأعمال والأفعال العادية بل هي علامة قدرة عظيمة” وهذا خطأ”.


المعرفة في مقدمة الأنشطة:

ويكتب الطالب ايمن حماد (جامعة بحري، السودان) عن نشاطه المعرفي الشخصي قائلا: “إن التواصل بيني وبين مجتمع المعرفة أهم خطوة في التقدم المعرفي لدي لأن الشخص لا يستطيع ان يفعل شيئا دون فريق متعاون معه. وأري أن أي شخص اراد ان يكون ناجحا في مشروعه المعرفي فعليه بروح الفريق الواحد”. ويجيب عن سؤال: كيف أدير انشطة حياتي؟ “إن ادارة النشاط الشخصي تختلف من شخص لآخر بطبيعة الحياة. أطمح لتلقي المعرفة بشكل متواصل وإنجاح مشروعي الشخصي” ويضيف: “أما الأنشطة الأخرى فإنها ضرورية وتعمل على تنظيم مسار الحياة لذلك وضعت النشاط المعرفي في المقدمة”.


- خاتمة:

إن طريقنا نحو “تعزيز التعلم” وتحقيق تميز معرفي، عادة ما يبدأ عند اكتشافنا لقدراتنا، وما يتصل بها من أنشطة وهوايات، مرورا بالاختيارات الدراسية والمهنية المرتبطة بميولاتنا واستعداداتنا.. ومن ثم بوجودنا في مجالات مهنية متصالحة مع شخصياتنا، وأخيرا بمدى قدرتنا على الانتقال من صورة المهني التقني أو مجرد الممارس لمهنة ما، إلى موقع المهني "الباحث" المساهم في تعزيز المعرفة في مجاله، وتقديم حلول لمشكلات المجال وتطوير أساليب العمل.

--------------------------------

- هوامش:

1- من مقال "التعلم يغير حياتنا"، أنور فريحة، المجلة الثقافية الجزائرية، على الرابط: https://thakafamag.com/?p=48181

2- للاطلاع على مقال مفصل عن مؤشر MBTI، ... على الرابط: https://www.meemapps.com/term/myersbriggs-type-indicator-mbti

3- للاطلاع على شرح مبسط لنظرية الاحتياجات الإنسانية للمتحدث التحفيزي الأمريكي أنتوني روبنز،  من مدونة الدكتورة سيوين علي، على الرابط: https://iradatuna.com/2018/09/28/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%A7%D8%AC%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%AA/amp/?__twitter_impression=true

4- من مقال "التعلم الذاتي في زمن كورونا"، ايمن حماد، المجلة الثقافية الجزائرية، على الرابط: https://thakafamag.com/?p=45805

5- من استطلاع للكاتب بعنوان "تجربة التعلم"، منشور في المجلة الثقافية الجزائرية، على الرابط: https://thakafamag.com/?p=48836