تسير ببطء ويمضي بعيدا فكرها الفتي. يمضي إلى هناك قريبا من السحابة الداكنة بما تحمله من بشرى للأرض.. مازال المنزل بعيدا يبعد عشرات الأمتار عن المدرسة ويحق لها في هذا الإياب أن تنسج في الأفق حكاية جديدة لفارس الحصان الأبيض.

سمعت خطوات صديقتها تأتي من الخلف .. ستقول لها وهي تضع يديها على كتفيها  :

هاه, مالون عينيه هذه المره. أم أنك تتمنينه بلا ملامح. 

ستصمت قليلا ثم ستُدير دفة الحديث إلى موضوع آخر حتى يفصلهما الطريقان المتفرعان إلى منزل كل منهما, ثم ستستعيد الحلم المرسوم في الأفق وستسير على مهل لتقتطع منه ما يمكن اقتطاعه قبل الوصول إلى المنزل.

هاهو باب المنزل يقترب منها صامتا شاحبا كعهدها به دائما وما خلفه أكثر شحوبا.. ما وراءه وجه أمها الحزين  وثلاث   فتيات صغيرات  يتكففن الحنان بعد أن نضب من صدر أرملة أثقل كاهلها  عبئ أربع فتيات أكبرهن لم تتجاوز السادسة عشرة.. أمها تحلم بأن تنجز ما يمكن إنجازه من التعليم لتلتحق بأي عمل يساعدها في تربية الصغيرات. وهي تحلم برجل لايشبهه أحد على هذا الكوكب.. رجل بملامح فارس وجوهر ملاك.. رجل ينسج الحكايا من ضوء القمر وجنون العشاق.. رجل كالضياء زاده العطاء.. كالنهر يذرف ولا يجف, يجري ولا يقف.. كانت تترقب حضوره؛ وتعرف انه آت لا ريب. فأين ستراه ومتى ستلقاه؟ أقريب أم بعيد؟.. وخلف أي باب هو؟ 

كانت ملامحه تتضح في خيالها كل يوم حتى اكتملت صورته وبانت هيئته فهو معها حيثما حلت وأينما تولت يعللها نهارا ويناجيها ليلا ويطرح كل يوم فكره وتصور لكيفية لقاءهما الأول و كلماتهما الأولى ونظراتهما الأولى .. 

ها هو باب المنزل.. غير مغلق على غير عادته.. دفعته رويدا.. رأت أمها والصغيرات يتحلقن حول رجلين  يبدوان من مظهرهما أنهما يتبعان لإدارة صحية أو ما شابه.. عرفت فيما بعد أنهما  من كوادر حملة تطعيم . أحدهما كان عشريني والأخر يكبره كثيرا وكان يجمع في علبته بعض الأشياء.. حين رآها قال للفتى:

 أعطها الجرعة وأنا سأذهب إلى المنزل المجاور. ونهضت أمها والصغيرات كل إلى حالها وبقيت معه لا تعرف ما تقول..   رأسها الصغير يضج بجنون لم تعهده من قبل.. خليط من الفرح والدهشة والدموع والمشاعر التي ما عادت تتبين مصدرها:

أهذا هو؟ (سألت نفسها الملتاعة مرارا) أليس هو؟

أنه هو. هو, عَرفْتهُ بالنبض الذي يهدر في أرجائي كالسيل العرم, بالنور الذي ملأ أركان روحي, بروح الربيع الذي يتغنى على ملامحه التي حفظتها, بروحه التي نزلت بالنور على منزلنا الكئيب فتحول إلى كوكب دري يسبح في سماء من فرح.

وقفتْ تتأمله.. تحاشاها وتشاغل بتكديس بعض الأشياء في حقيبة تشبه الصندوق الصغير. ثم أخرج كتابا وقال:

 ما اسمك؟

لم تجب..

كانت تتأمله بجنون مراهقة لا تعلم أن للرجل توق  يختلف كليا عن توقها المنحصر في القمر والشموع وقصائد الشعر وملامسة الأيدي وتأمل الملامح.

 مازالت تطالعه بشغف وتتساءل: لمَ ينكس رأسه ولا ينظر إليها؟ هل عرفها؟ هل زارته في أحلامه وطاردته في يقظته كما فعل هو؟

 لم تمد يدها عندما طلب منها ذلك.. وتركته يعيد طلبه لتسمع صوته ..كان الصوته الذي ألفته في أحلام نومها ويقضتها,ووجهه الذي حفظت تفاصيله اكثر من أي شيء  فلمَ يتشاغل عنها بإعداد حقنه التطعيم مرتبكا وشاردا..

رفع رأسه أخيرا ونظر في عينيها برهة,ثم رفع يده اليمنى ووضعها على خده متعمدا؛ فإذا بإصبعه خاتم خطوبة ....

قالت بحزن:

أتحبها؟

قال : لا أتصور عمري بدونها... دعيني أنهي عملي.. مدي ذراعك.

قالت: لا,  الحب مقابل الحياة.. أسمي هاجر.. أذكرني .. 

 يقال: أن الوباء لم يأخذ من ذلك المنزل سوى الفتاة التي أضاعها الحلم.    

بقلم أمل عبدربه