رغم ولعي بالفن السابع وانبهاري أمام بعض الروائع السينمائية الخالدة، لم تكن علاقتي بصالات السينما علاقة ودّ، فأنا ممن يفضّلون مشاهدة الأفلام في البيت على مشاهدتها في صالات العرض المظلمة التي قد تبعث من مرقدها أكثر من فوبيا!
عندما كنت صغيرا، أخذني والدي – رحمة الله عليه – إلى السينما لمشاهدة فيلم جورج لوكاش “حرب النجوم”، كانت المشاهد أخّاذة مُبهرة، لكنني طلبت منه مغادرة الصالة قبل انتهاء الفيلم. لاحقا، أخذني خالي لمتابعة رائعة ستيفن سبيلبرغ “أسنان البحر” (هذه ترجمة لعنوان الفيلم بالفرنسية فكل ما شاهدناه صغارا من الأفلام كان مدبلجا إلى الفرنسية) لكنني لم أحتمل صور الأجساد المنهوشة التي يقضمها القرش ومشاهد الدماء التي تملأ المحيط وما يتبعها من صراخ المصابين وذويهم الواقعين تحت الصدمة، فلم أكمل الفيلم مجددا.
كان ذلك في بداية الثمانينيات، وتحديدا في “سينما إفريقيا” التي كانت إحدى معالم التمدّن في قلب العاصمة الجزائرية لكونها من بقايا العمران الفرنسي، في منطقة بناها المستعمر ليعيش فيها.
قضيتُ مراهقتي بعدها في قلب الانفلات الأمني الذي أعقب إلغاء المسار الانتخابي في يناير 1992، حيث دخلت البلاد دوامة العنف والقتل، فكنا نقضي أياما منشغلين بأزيز الرصاص ودوي مدافع “الأر بي جي”، والقنابل التي تُفجّر الأسواق والمقرات الأمنية والمؤسسات الإعلامية.. ولم يكن المشهد الثقافي حينها سوى انعكاس بائس لمشهد الوطن الذي وجد نفسه رهينة بين قاتلين: أحدهما يرفع شعار الإسلام، في حين يرفع الثاني شعار الجمهورية وإنقاذ الوطن!
لم تَعُد صالات السينما تعرض – كما كانت قبلُ – أفلاما بمقاييس العرض العالمي، واكتفت بعرض أفلام فيديو تنطبع بشكل رديء على شاشة السينما الكبيرة.. كانت الموضة يومئذ لأفلام “الأكشن” وبطولات ستيفان سيغال في الأيكيدو، وجان كلود فاندام في “الفول كونتاكت”، وأرنولد شوارزنيغر ومشاهد القتل والدمار التي كانت تُحاكي مشاهد واقعنا البائس. كنتُ أجلس مع أصدقائي لمشاهدة الفيلم، وريثما ينتهي أقوم مباشرة لأن المشرفين على السينما كانوا يُقدمون وجبة سينمائية ثانية مجانية مليئة بالإثارة والجنس.. يتابعها مراهقون عاشوا الكبت من جهة، وعدمية الحياة التي تحصد الأبرياء من جهة ثانية.
في الدوحة، حاولت التصالح مع صالات السينما، وحضرت أكثر من عرض لأفلام جميلة جدا، كان أبرزها – دون منازع – فيلم “حياة باي” Life of Pi.
أول ما يلفت الانتباه في هذا الفيلم هو روعة المشاهد الطبيعية (جنوب الهند “مستعمرة فرنسية”) وفي عرض المحيط الهادي، وقد شكّل دمج الألوان وزوايا التصوير فنّا بحد ذاته، (نال الفيلم جائزة الأوسكار عن أفضل المؤثرات البصرية إضافة إلى أوسكار أفضل مخرج وأفضل تصوير سينمائي من أصل 11 ترشيحا).
لكن روعة المشاهد البصرية الساحرة لم تُغطّ على نص الفيلم الذي لمس أعماق النفس البشرية، عبر حكاية تنفذ إلى أسرار الروح والإيمان وعلاقة الإنسان بالآخر: حيوانا كان أو طبيعة أو إلها.
تبدأ القصة (وهي مقتبسة عن رواية الكاتب الكندي يان مارتيل) من لقاء روائي كندي يفتقد للإبداع مع رجل هندي يقيم في كندا، حيث يبحث الكاتب عن قصة تكون مصدر إلهام له في الهند فيدله هندي هناك على بطل القصة ليعود أدراجه إلى تورنتو، بلدته، ويضيف الدليل للكاتب – حسب رواية الأخير نفسه – أن هذه القصة ستمنحه زيادة عن الإبداع: الإيمان.
كان الكاتب الكندي مُلحدا ومتشكّكا، لا يؤمن بوجد إلـه، فحاول عبر لقائه بـ”باي” أن يتلمس معالم الإيمان التي يكسو بها روحه. قال له “باي”: ليس بوسعه أن يجزم بأن القصة التي سيقصها عليه ستقوده للإيمان، وعليه هو أن يُقرر ذلك، فهدفه هو “سرد القصة كما عاشها”، لا غير.
وبدأت الرحلة، من جنوب الهند، في مدينة كانت واقعة تحت الاحتلال الفرنسي وتشبه في طرازها المعماري مدن ساحل البحر المتوسط الفرنسية. ينشأ الطفل “باي” (واسمه الحقيقي “بيسين موليتور باتيل” على اسم واحد من أشهر مسابح فرنسا) وعقدة اسمه تطارده (المسبح بالفرنسية يماثل كلمة “البول” بالإنجليزية في مخارج الحروف الأولى) لكنه استطاع أن يتحول باختصار اسمه لـ”بايPi ” إلى مصدر إعجاب من الجميع عبر ربط اسمه بالرمز الرياضي المشهور (الذي يساوي 3.14 “النسبة بين محيط الدائرة وقطرها”).
ينشأ الطفل مع والديه وأخيه نشأة محترمة، يدير الأب حديقة حيوانات في المدينة التي تعيش الديانات فيها جنبا إلى جنب. كان بوذيا بالولادة، لكنه أحب المسيح وتعمّد، ثم دخل المسجد وصلى، وحاول أن يجمع بين هذه الديانات جميعها في نفسه. لامه والده (الذي كان لادينيا) وقال له إن عليه أن يؤمن بدين واحد أفضل من 3 أديان مختلفة، وأفهمه أن أقرب طريق لاستيعاب المعرفة الدينية هو طريق المنطق العقلي. وقال له ولأخيه ذات يوم وهم في طقس بوذي مليء بالشموع المضيئة والألوان المبهرة: “لا تنخدعوا بهاته الأضواء، فالدين ظلام”. لكنّ أمه اعتبرت أن من حق ابنها أن يستكشف حتى يستطيع الحكم بنفسه على الطريق الذي يريد اختياره، فيقول الأب: “لقد فهمنا بالعلم في سنوات قليلة ما لم نستطع فهمه بالدين لآلاف السنوات”، ترد أمه: “ما تقوله صحيح، ولكن المنطق والعلم لا يستطيع إخبارنا بما نشعر به في قلوبنا”، كل ذلك والطفل “باي” يشكر “الإله كريشنا” لأنه أتاح له التعرّف على المسيح عليه الصلاة والسلام!
يقول الكاتب الكندي في استغراب: كيف مزجت بين هذه الديانات الثلاث؟ فيجيبه “باي”: “الأديان طوابق متعددة داخل بناية واحدة”، فيسأله مجددا، وهل هناك مكان للشك فيها؟ فيقول له: “في كل طابق”. كان ذلك إشارة إلى أن اليقين قرين الشك، وأن الشعور بالعجز والحيرة هو القائد الأمثل لدخول عالم الإيمان.
تضيق الحياة بوالدي الطفل، فيقرران السفر إلى كندا لبيع الحيوانات هناك وبداية حياة جديدة.. يعترض باي، فيقول والده: “سنسافر عبر سفينة شحن وستكون الرحلة ممتعة كما فعل كريستوف كولومبس من قبل”، هنا يعقّب الولد ببراءة: “ولكن كولومبس كان يبحث عن الهند!”.
في عرض البحر تغرق سفينة الشحن اليابانية، ويموت من فيها، ولم ينج سوى “باي” الذي امتطى قارب نجاة مع نمر بنغالي ضخم، لتبدأ حكاية المواجهة على امتداد أكثر من 200 يوم في المحيطات.. مواجهة تعطيه دافعا للعيش، وتفتح عينيه على كثير من حقائق الحياة التي تبدو بمظهر مأساوي لكنها تؤول إلى الخير والنجاة. ذلك ما تعلمه “باي” حين قال: “أثناء كل لحظة ظننت أن الله قد تخلى عني فيها، كان في حقيقة الأمر أكثر عناية بي ورفقا”. وعندما وصل القارب إلى الشاطئ بعدما أشرف على الهلاك استلقى على الرمل الدافئ وكأنه “تمدد على وجنة الإله”.. كان يشعر أن ثمة لطفا إلهيا خفيا يسير معه ويحوطه ويعتني به، حتى في تلك اللحظات التي ظن فيها أن الحياة وكلته لنفسه.
بعد تعافيه في المستشفى، زارته بعثة من شركة تأمين يابانية لتكتب تقريرا عن الحادث بحكم كونه الناجي الوحيد، لكنهم لم يُصدقوا قصته، فاضطر إلى تأليف قصة أكثر “واقعية” وخالية من الخيال والتشويق.. قصة “عادية” عن غرق أي سفينة كما يحدث مما تعود عليه الناس.
بعدها، سأل “باي” الروائي الكندي: “لقد سردت لك قصتين، قصة عجيبة وقصة عادية، ولم تكن هناك لتعرف من منهما حدثت فعلا، فأيَّ القصتين تُصدّق؟”. أطرق الكاتب ثم قال: “أنا أفضّل القصة العجيبة”. كان “باي” يشير إلى الحياة نفسها بروايتين مختلفتين: رواية تقول إن الله هو من خلقها وأبدع ما فيها، ورواية تقول إنها ممتدة لا إله أوجدها. فالجمال والتشويق وولع الإنسان بالخيال يجعله يجنح إلى تصديق الرواية الأولى، لأنها القصة التي تستحق أن تُكتب وتُروى وتُعاش ويطّلع عليها الناس.
بعد سرد القصة المليئة بالعجائب والعبر، يحصل الكاتب على مشروع روائي مميّز، لكنه أدرك في أعماق نفسه أنه حصل على ما هو أروع.. نافذة مُشرَعةٌ يُطل منها قلبه على الإيمان. ولكن ما الذي ناله من شاهد الفيلم؟
كان الفيلم عِبَرا كلَّه.. مليئا بالتجارب الإنسانية الثرية والمشاعر العاصفة. لكنّ أبرز ما فيه – في نظري – هو التأكيد على أن الإيمان تجربةٌ شخصيةٌ ينبغي لكل أحد الاقتراب منها بشكل فردي، لا عن طريق المخيال الذي كوّنه عبر انتمائه الديني المسبق.
كثيرٌ منّا تشبّع بفكرة الإله المنتقم الجبّار، الذي يُدخل من عصاه جهنّم.. الثقافة نقلت لنا صورة “مشوّهة” عن الإله الذي نعبده، ولهذا غاب في زخم الحياة أن نتعلم كيف نحبّ الله (كانت هناك محاولات صوفية فيما سمي العشق الإلهي، لكنها تأثرت بمدّ أفلاطوني فلسلفي من جهة، ومدّ غنوصي عرفاني من جهة أخرى وبسبب هذا المنحى نفسه قُتل لسان الدين ابن الخطيب الأندلسي لما ألف كتاب “روضة التعريف بالحب الشريف”).
ثقافتنا صوّرت العلاقة مع الله بشكل يحتاج مراجعة كبيرة، فنحن وإن كنا نعبد الله طمعا في جنّته، وخوفا من ناره – وهذا يشكل جزءا من الحقيقة الكبرى – إلا أننا لم نتعلم كيف نُحبّه.. كيف نتحدث “إليه”.. كيف نتحدث “معه”، وكيف نُبلغه بآلامنا وهمومنا، بأوجاعنا وانكساراتنا، وكيف نعبّر عن اعتراضنا عن أشياء لم نفهمها، أشياء لم نقبلها، وحتى كيف نخبره بأحلامنا. لقد حصرنا علاقتنا به عبر الدعاء فقط.. أن نطلب منه دفع مكروه أو جلب نفع، لا غير!
قد يتيه الإنسان، وقد يهتدي.. قد يسقط في حمأة المعصية، وقد يرتقي في مدارج الطاعة.. لكنّ فتح قناة تواصل مباشرة مع الله هو بداية الطريق.. ففي زمن الإلحاد والتفكيك والشك المُدمّر.. وفي زمن فورة الحماس الديني وطغيان “الجهل المقدّس”.. وفي زمن محاربة الحياة باسم “الله”، لن يخذل الله عبدا لجأ إليه واستجار به.