حذّرت “زرقاء اليمامة” قومها من غزو وشيك فلم يُصغوا إليها، ولمّا أدركوا أن حاستها البصرية قوية بشكل خارق كان الأوان قد فات، فقد قُتل منهم من قُتل وسُبي من سُبي.
في مقابل ذلك، يتخبط أعمى في طريقه، مُتعثّرا في خطوه، لا يتمنى سوى الظفر بقبس يُنير عينيه حتى لا يسقط في الحفر ويهتدي إلى حاجته، فهو إن فقد القائد سجينٌ في بيته. أوَلمْ يُطلق أبو العلاء المعري على نفسه لقب “رهين المَحْبَسَيْن”: حبسه في بيته بسبب العمى، وحبس روحه في جسده بسبب الحياة!
بين المثالين، تتفاوت حظوظ الناس في نعمة البصر، فهناك صحيح ذو بصر سليم، وهناك أعور، وهناك أعشى، وهناك أخفش (ويُنسب إلى بعض هذه الأوصاف مشاهير في الأدب واللغة) إلى سائر الأوصاف التي تُطلقها العرب على العين وأمراضها (راجع بعضها في “فقه اللغة” لأبي منصور الثعالبي).
وتجري القاعدة على كل صفة أو مظهر من مظاهر الحياة التي يرتبط بها الإنسان، وجودا وعدما، أو وسطا بينهما، مثل الذكاء والغباء، والصحة والمرض، والغنى والفقر، تتفاوت فيها حظوظ الناس وتختلف، ويرى كل فرد أن نصيبه من هذه الصفة أو تلك مُجحف، وإن كان لا يعتبر ما ناله من حَسَنها وافيا كافيا! فالإنسان مجبول على الاستكثار من الخير لأنّ درجة تشبّعه به “تؤول إلى ما لا نهاية” حسب تعبير المشتغلين بالرياضيات.
قد ينجح الإنسان في حياته، وقد يُخفق، فإذا نجح أرجع ذلك إلى إمكانياته ونشاطه واجتهاده. لكنّه إذا أخفق ألصق ذلك بالقدر والحظ التعيس والجَدّ العاثر، وتبرّأ من كل خطأ ارتكبه فجرَّ عليه الخسارة. وإذا كان القرآن الكريم قد أكّد على أنه “مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ” [النساء: 79]، فإن جمهورا من الناس يأبى إلا قلب الآية فيجعل ما أصابه من حسنة راجعا إليه، اجتهادا وذكاءً، وما أصابه من سيئة فمن الله قدرا وحظا وإجبارا!
تكلم الفلاسفة عن المساواة بين البشر، ونَحَوا في ذلك مناحي شتى، وقبل الحديث عن المساواة في التكليف والحقوق والواجبات، تحدثوا عن المساواة في الطبائع والأعضاء والقدرات الذهنية والجسدية، وحاولوا معرفة سبب تمايز البشر قوة وضعفا، جمالا وقبحا، وذكاء وغباء. لكن لا أحد يستطيع أن يصل إلى أصل الحكمة في ذلك، لأن التفاوت واقع، وكل ما يقوم به الإنسان هو محاولة تفسيره، سواءً اقترب من الحقيقة أو ابتعد عنها.
ورد في أثر رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي بن كعب -رضي الله عنه- أن آدم عليه السلام نظر إلى ذريته “فرأى الغني والفقير وحَسَن الصورة ودُون ذلك، فقال: ربِّ لولا سويت بين عبادك؟ قال إني أحببت أن أُشكر”. فلو كان الناس على مقياس واحد في كل شيء، لما كان هناك في الحياة تنوّع وتمايز واختلاف يؤدي إلى التكامل.
لو كان الناس جميعا عباقرة في الحساب، من سيقوم بعبء التنظيف وحمل الأغراض الثقيلة والقيام بالمهن التي تتطلب جهدا جسمانيا كبيرا.. ولو كان الناس كلُّهم ذوي ذوق واحد، لفُقد التنوع وأصابت فئاتٍ كثيرةً من المجتمع أضرارٌ كبيرة. ولو كان الناس جميعا مغامرين لما استقر شخص في وطن، ولا بنى حضارة، ولا أنشأ مدنية. أولم يُقل في المثل السائر: “لو اتفقت الأذواق، بارت الأسواق”؟
طبعا، يسهُل على الغني الحديثُ عن ضرورة تفاوت الناس في الأرزاق، لأنه لم يذق طعم الجوع ولا عاين محنة أن لا يجد ما يُقيمه وما يُقيم أولاده، أكلا وتطببا. ويسهل على الجميل أن يتحدث عن القُبح، كما يسهل على الصحيح المُعافى أن يتحدث عن المرض وضرورة الصبر على الابتلاء. لكن، هل وُجدنا في هذه الحياة لنقيم جردا بما حصلنا عليه وما لم نحصل عليه، ثم نأخذ قائمتنا إلى الدّيّان مُجادلين ومُحتجين ومُخاصمين، لأننا خُلقنا بمقاييس لم نرضَها؟
تُعلّمنا تجارب الحياة أن أغلب الناجحين هم أولئك الذين انطلقوا من “تحت الصفر”، فقرا وعاهات ومراتب اجتماعية، فارتقوا أعلى الدرجات بسبب رفع التحدي والإصرار على النجاح، في حين أن بعضا ممن دخلوا الحياة بـ”رصيد ممتلئ” لم يشعروا بقيمة ما “ورثوه” فأنفقوا العمر في تبديده، مالا كان أو صحة أو فطنة ونباهة! ألا يؤكد هذا ما روي عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): “إنما تُنقض عرى الإسلام عُروة عُروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية”، لأنه فقد مرجعية للمقارنة بين وضعين متناقضين لا يُعرف حُسن أحدهما إلا بمعرفة قُبح الآخر؟
كان الموالي في بداية الإسلام طبقة اجتماعية متدنية، تمتهن الحرف اليدوية وتجتهد في اكتساب المعارف، في حين كان “السادة” مولعين بحفظ ملاحم الجاهلية وبعض أيام العرب وإنشاد الأشعار، فبرزت منذ منتصف القرن الأول الهجري طبقة علماء وفقهاء أغلبهم ينتمون إلى الموالي، ولما اكتشف العرب ذلك كانت عجلات الحياة قد مضت بعيدا.. إلى غير رجعة. وقد قال ابن شهاب الزّهري: “قدمتُ على عبد الملك بن مروان فقال لي: من أين قدمت يا زهريّ؟ قلت: من مكة، قال: فمن خلّفت يسودها؟ قلت عطاء بن أبي رباح، قال: أفمن العرب هو أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: فبم سادهم؟ قلت: بالديّانة، قال: إنّ أهل الديّانة والرّواية لينبغي أن يسودوا. قال: فمن يسود أهل اليمن؟ قلت: طاووس بن كيسان، قال: أفمن العرب هو أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: فبم سادهم؟ قلت: بما سادهم به عطاء، قال: فمن يسود أهل مصر؟ قلت: يزيد بن أبي حبيب، قال: أفمن العرب هو أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: فمن يسود أهل الشام؟ قلت: مكحول، قال: أمن العرب هو أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، عبدٌ نوبيٌّ أعتقته امرأةٌ من هذيل، قال: فمن يسود أهل الجزيرة؟ قلت: ميمون بن مهران، قال: أمن العرب هو؟ قلت: بل من الموالي، قال: فمن يسود أهل خراسان؟ قلت: الضّحّاك بن مزاحم، قال: أفمن العرب هو؟ قلت: بل من الموالي، قال: فمن يسود أهل البصرة؟ قلت: الحسن البصري، قال: أفمن العرب هو؟ قلت: بل من الموالي، قال: ويلك فمن يسود أهل الكوفة؟ قلت: إبراهيم النّخعيّ، قال: أفمن العرب؟ قلت: من العرب، قال: ويلك فرّجت عنّي، والله ليسودنّ الموالي العرب حتى يُخطب لها على المنابر والعربُ تحتها، قال، قلت: يا أمير المؤمنين، إنّما هو دينٌ، من حفظه ساد، ومن ضيّعه سقط”. [البصائر والذخائر للتوحيدي 8/85].
ولو اطلعنا على تجارب البشر الناجحة في مطلع القرن والواحد والعشرين، لوجدنا أن أغلب المتألقين لم يرثوا نجاحهم عن ذويهم، وإنما كافحوا وناضلوا حتى وصلوا إلى ما هم عليه. أولم يكن “بيل غيتس” (ثاني أثرياء العالم في ترتيب فوربس 2013 بـ”67 مليار دولار”) طفلا مريضا بالتوحّد؟ أو لم يكافح جيف بيزوس (صاحب العملاق “أمازون”) ويجوب أمريكا طولا وعرضا حتى يقنع مجموعة من المستثمرين قبل سنوات فقط بدفع “مليون دولار” من أجل البدء في مشروعه (ثروة بيزوس قُدرت في تصنيف فوربس لعام 2013 بـ25.2 مليار دولار)!! وقس على ذلك.
وجدنا أنفسنا على هذه الأرض ونحن نملك قدرات مختلفة ومتفاوتة، وتكونت لدينا اعتقادات في تصنيف الناس أظهر العلم خطأها، فبعدما كنا نظن أن الذكاء يرتبط بالأرقام والحساب، جاءت المعارف العصرية لتقول لنا إن الذكاء الرياضي هو أحد أصناف الذكاء وليس جميعها، وفتح المجال أمام الذكاء اللغوي والخيال والأدب وباقي التخصصات لتنال حظها من قسمة الذكاء التي يتمناها كل أحد. وبعدما ظننا أن هناك أطفالا أذكياء وآخرين أغبياء، جاء العلم ليقول لنا إن كل طفل يحمل في نفسه بذور الإبداع وطريقة تعاملنا معه هي ما سيجعل هذه الموهبة تنمو أو تضمر. وبعدما ظننا أن الطباع وراثية قال لنا العلم إنها تُكتسب، فـ”العلم بالتعلم والحلم بالتحلّم”.. وهكذا دواليك.
المقصود من كل هذا السرد هو أننا سنجني على أنفسنا جناية عظيمة إذا جلسنا نحرر قائمة بما كنا نرغب أن نولد به ولم ننله، بدل السعي وشق طريق النجاح، واستثمار ما نملك، ولو كان في أعيننا ضئيلا.. وسيجد كل فرد منا شيئا يتميز به ويُحسنه، إن استغله فتح عليه أبواب النجاح.. والسعادة (أليس ذلك هو مقصد كل فرد فينا.. غنيا كان أو فقيرا، صحيحا كان أو مريضا؟)
وقد قال أبو العلاء المعري مُذكّرا بحقيقة علينا ألا ننساها:
سبحان من قسمَ الحُظـــوظ فلا عتاب ولا ملامهْ
أعمى وأعشى، ثم ذو بصر، وزرقاءُ اليمامهْ!
فتفاوت الحظوظ واختلافها هو الدافع الأكبر للتحدي والنجاح.. وإن أفنينا عمرنا في “العتاب” و”الملامة” فلن نجني غير التعاسة والفشل.
ومن أراد الإصرار على لوم الحياة بدل السعي بما توفر لديه وتحول إلى صناعة الفشل بدل صناعة النجاح، فإننا نُذكّره بمقولة الإعلامي والكاتب الأمريكي “إيرل ويلسون” (1907-1987): “النجاح ليس سوى ضرب من ضروب الحظ، كلُّ الفاشلين يؤكدون ذلك”.