د. علي بانافع
وقع بين يدي كتاب: "العمل الخيري وأثره في العصر النبوي" للصديق والزميل الدكتور سلطان بن غويزي المقاطي، وهو في الأصل أُطروحة علمية لنيل درجة الدكتوراه في التاريخ الإسلامي ذات قيمة علمية سامقة واعتبارية عالية جدا كصاحبها -وقد جاءت في وقتها- فالإنسان الان يعود إلى أصله الخيِّر وإلى فطرته السوية في العمل الخيري، والإسلام العظيم دين العمل الخيري والتطوعي والإنساني ورائده بلا منازع وأكبر حاثٍ عليه قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ} [آل عمران: 110]. وقال تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيل وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177].
العمل الخيري قائم ومجسد بالعمل التطوعي اليومي -وعلى مدار الساعة- ويمثل الإسلام زبدة العمل الخيري المصحوب بالإخلاص وسلامة الصدر وحسن النية بضوابط عدم المَنْ والرياء والأذى، الذي يتبع أو يُصاحب هذا النوع من العمل الخيري في العادة، كونها مُبطلة له وماحقة لأجره وثوابه العظيم، بمعنى أن العمل الخيري يجب أن لا يكون مصحوباً بالأذى والمَنْ ولا بالبحث عن السمعة والشهرة والرياء ولا بالبطر والأشر، والأحاديث الحاثة والدالة على العمل الخيري التطوعي كثيرة جدا، وقد ذكر الدكتور سلطان في أُطروحته القيمة العديد من الأحاديث الشريفة والمواقف العملية نأتي على بعضها:
- (والسَّاعي على اليتيمِ والأرملةِ والمسكينِ كالمجاهدِ في سبيلِ اللهِ والصَّائمِ القائمِ لا يفتُرُ) عمل تطوعي لرعاية الأرامل والمساكين، والسعي مفتوح هنا مادياً ومعنوياً وخدمياً وصحياً وإنسانياً وتربوياً وعاطفياً ولا حدود له مادام خير لا يُخالف تعاليم الشريعة الغراء ولا يتقاطع معها، وبما يناسب هذه العنوان العريض "الساعي على" مجاناً ومن دون مقابل.
- (مَن كانَ في حاجَةِ أخِيهِ كانَ اللَّهُ في حاجَتِهِ، ومَن فَرَّجَ عن مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عنْه بها كُرْبَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيامَةِ) عمل خيري تطوعي والكربة هنا والحاجة مفتوحة وتشمل كل الكرب والحاجات التي أقر الشارع الحكيم مد يد العون لأصحابها، والناس أعلم بأمور دنياهم في كل زمان ومكان.
- (أنا وكافلُ اليتيمِ في الجنَّةِ كهاتينِ وجمَع بينَ السَّبَّابةِ والوسطى) عمل تطوعي لكفالة الأيتام ورعايتهم وتربيتهم وعلاجهم وتعليمهم والحنو عليهم والمسح على رؤوسهم وكفكفة دموعهم والإنفاق عليهم مجاناً ومن دون مقابل.
- (إنَّ مِمَّا يلحقُ المُؤْمِنَ من عملِهِ وحسَناتِهِ بعدَ موتِهِ علمًا علَّمَهُ ونشرَهُ أو ولدًا صالِحًا تركَهُ أو مُصحَفًا ورَّثَهُ أو مَسجِدًا بَناهُ أو بيتًا لابنِ السَّبيلِ بَناهُ أو نَهْرًا أجراهُ أو صَدقةً أخرجَها مِن مالِهِ في صِحَّتِهِ وحياتِهِ تلحَقهُ من بعدِ موتِهِ) عمل خيري تطوعي كبير وكبير جدا بمثابة صدقة جارية بعد الموت ينتفع منها الأحياء أيما انتفاع مجاناً ومن دون مقابل.
- (ما مِن مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا إلَّا كانَ ما أُكِلَ منه له صَدَقَةً، وما سُرِقَ منه له صَدَقَةٌ، وما أكَلَ السَّبُعُ منه فَهو له صَدَقَةٌ، وما أكَلَتِ الطَّيْرُ فَهو له صَدَقَةٌ، ولا يَرْزَؤُهُ أحَدٌ إلَّا كانَ له صَدَقَةٌ) عمل خيري تطوعي يُحي الأرض الموات ويُكافح الجدب والتصحر من جهة، ويُطعم الناس ويُحقق الأمن الغذائي لهم من جهة أخرى.
- (مَن كانَ معهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ به علَى مَن لا ظَهْرَ له، وَمَن كانَ له فَضْلٌ مِن زَادٍ، فَلْيَعُدْ به علَى مَن لا زَادَ له. قالَ: فَذَكَرَ مِن أَصْنَافِ المَالِ ما ذَكَرَ حتَّى رَأَيْنَا أنَّهُ لا حَقَّ لأَحَدٍ مِنَّا في فَضْلٍ) عمل خيري تطوعي وتكافل اجتماعي من شأنه إلغاء أو على الأقل تقليص الفوارق الاجتماعية والمادية والطبقية بين أبناء المجتمع الواحد.
وفي القصص القرآني الكثير من العِبر والعظات المهمة منها:
- في قصة سيدنا موسى عليه السلام نجد تطوعاً سرعان ما آمنه لاحقا من جوع ومن خوف: {فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24]. أمان موسى عليه السلام من جوعه ومن تشرده ومن خوفه، وهو المطارد والملاحق من قبل أكبر طاغية في العالم وقتئذ إنما كان ثمرة من ثمرات العمل الخيري التطوعي ومآلاته الحسنة حتماً.
- وفي قصة العبد الصالح وقد أقام مع موسى عليه السلام جداراًً مائلاً تطوعاً فكانت ثمرة تطوعهما تلك حفظ الكنوز المعرفية والمالية للأجيال القادمة من بعدهم: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} ولولا هذا التطوع لشب الأيتام يوماً من دون أدنى معين مادي ولا معرفي ولا معنوي يُذكر، وسط قوم لا يحقون حقاً ولا يقفون بوجه باطل ولظلوا في كهفهم وفقرهم وبؤسهم وجهلهم، وضعفهم وجبنهم يتقلبون أسوة بأقرانهم ومحيطهم، كان لا بد من عمل تطوعي بالمجان في -أزمنة وأمكنة الماديات- ما من شأنه ان يُمَكن الضعفاء من الوقوف على أقدامهم بقوة بوجه الباطل في قابل الأيام!!
- وفي قصة ذو القرنين وبناء السد كان عملاً تطوعياً ثمرته منع المفسدين من التجاوز على المساكين والحيلولة بينهم وبين ظلم المصلحين والصالحين المغلوبين على أمرهم: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} بمعنى أتُريد ثمناً لقاء بناء سد يمنع الظالمين والمفسدين عنا فكان الجواب الحاسم: {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} إن الخير الذي أتانيه ربي والذي سيتمخض عن بناء السد الحائل بين الحق والباطل هو خير مما ستجمعونه لي من أموال لقاء بنائه مختتما قوله بـ {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا}.
ولأن الفردية والأنانية والنرجسية البخيلة الدخيلة، والرأسمالية المتوحشة باتت متحكمة في كل مناحي الحياة على وجه الأرض حتى صار كل ما عليها مقرونا بالمال أو بمقابل مادي أو معنوي أياً كان نوعه، ولم يعد للخير وللرحمة مكاناً في قواميس البشرية إلا ما رحم ربك، حيث الشح المطاع والهوى المتبع واعجاب كل ذي رأي برأيه، فقد اضطروا الى اختراع اليوم العالمي للعمل الخيري التطوعي، ومعلوم ان كل يوم يتم اختراعه من قبل الأمم المتحدة إنما يدل ذلك على أن فحواه ومضمونه وشخوصه هم من المنسيين والمهمشين طوال العام: "يوم الأُم، يوم اليتيم، يوم أطفال التوحد، يوم أطفال متلازمة داون … الخ". وقد تم تحديد الخامس من كانون الاول سنوياً ومنذ عام 1985 وتحت عنوان "يوم التطوع العالمي أو اليوم الدولي للمتطوعين" كيوم عالمي للعمل التطوعي لتحفيز الناس على التنمية الاقتصادية والمجتمعية كما جاء في نصه، لذا لابد لنا من تذكير الجميع وأولهم الامم المتحدة بأن الاسلام العظيم هو رائد العمل الخيري التطوعي، كل الوقفيات الإسلامية الخيرية، المدارس الخيرية، المستشفيات والمستوصفات والعيادات الخيرية، المطابخ المجانية الخيرية، دور المسنين الخيرية، الآبار الخيرية، دور الأيتام الخيرية، الصدقات الجارية الخيرية، كلها عمل تطوعي يقوم به أشخاص وجهات ثواباً لله تعالى ينتفع به كل من بعدهم ومن دون مقابل أو ثمن "وخير الناس أنفعهم للناس".
مشكلتنا أننا مبهورون بالغرب وبالأمم المتحدة مع أن ثلاثة أرباع مشاكلنا من ورائهما حصراً؛ إذ ما فائدة أن يُعلمني الغرب ماديته ويشربني إياها فكراً وثقافةً ومنهجاً ويجعل كل شيء في هذه الدنيا مقابل ثمن مادي أو معنوي، ومن ثم يضع لي يوماً واحداً في السنة يشجع على الأعمال التطوعية المجانية، لقد قلبت ماديتهم المقيتة حياتنا كلها رأساً على عقب وجعلت المادة هي معيار التفاضل بين البشر على اختلاف ألوانهم وأعراقهم وأديانهم، وكم نحن بحاجة إلى الصلاح الفردي المتعدي إلى الصلاح الجماعي، الصلاح المتخطي للفردية العابر للأنانية المحلق في سماء الإنسانية وبمعنى قرآني أدق: {رحماء بينهم}.
شكراً دكتور سلطان على هذه الأُطروحة العلمية التاريخية الموفقة المُسددة، وإن شاء الله تكون فاتحة لسلسلة من الأطروحات عن العمل الخيري في عهد الراشدين رضي الله عنهم؛ ثم الدولة الأُموية في المشرق والمغرب؛ فالدولة العباسية والعثمانية، بالاضافة إلى كثير من الدول والدويلات الإسلامية المستقلة وحتى العصر الحديث والمعاصر …