ثار الشباب على كثير من التقاليد التي ورثوها عن أسلافهم، ومن بينها رفض الوصاية الأبوية في اختيار شريكة حياتهم، فالأوضاع تغيرت عما كانت عليه من قبل، وطال التغيير رؤيتهم للمرأة وصفاتها وما يحسن منها وما يقبح، ولهذا منحوا أنفسهم حق “الاختبار” قبل الدخول في مغامرة مجهولة لا يدرون عواقبها؛ فدخلوا التجربة محمّلين بأحلام كبيرة نفخت فيها الملحمات الروائية والأفلام الرومنسية والرغبة الجامحة في عيش حب يطال الخيال وقدماه ثابتتان في أرض الواقع.
تُوِّجت بعض هذه المشاريع العاطفية بالزواج، ورغم طول الصحبة بين الزوجين قبل الارتباط الشرعي يشعر الطرفان أن الحلم تحول إلى كابوس لا مهرب منه سوى بالانفصال. يلتفت الزوج إلى الماضي فيلمح صورة والديه اللذَيْن جمع بينهما القدر، ولا شيء غيره، تحت سقف واحد أنجبا فيه عشر أبناء وعاشا معًا حلو الحياة ومرها إلى أن فرق بينهما الموت.
هل خُلق الحب قصير النفس، إذا قُيِّد بعقد نفر شاردا وحلَّق عاليا في الفضاء؟ أم أنه وُلد مصابا بِقِصَرِ النظر، فكلما تم الاقتراب اتضحت الصورة التي كانت قبل ضبابية لا تُرى تفاصيلها الدقيقة وتشوهاتها ونتوءاتها؟ وهل كان الأقدمون محقين حينما قالوا “البيوت لا تُبنى على الحب“؟
لكلِّ مذهب أنصاره: ثمة من يبحث عن بصيرة الأجداد في انتقاء “سيدة البيت”، وهناك من يقول إن الحب يبقى أقوى دافع للارتباط، ولولا تلك الشعلة الملتهبة في قلب الشاب لما أقدم على هذا القيد وهو أشبه بالأسير منه بالحر المختار! لكننا يمكن أن نجزم بأن المشكلة تتجاوز المذهبين معا، لأنها ترتبط أساسا بالإنسان الذي تغيرت رؤيته بفعل تغير الظروف التي تحيط به، سلبا وإيجابا.
تغيّرت نظرة الرجل إلى الجمال؛ فلم تعد المرأة المغرية هي تلك التي “تقبل بأربع وتدبر بثمان“، ولا تلك التي قال عنها كعب بن زهير “هيفاء مقبلة عجزاءُ مُدبرة * لا يشتكي قِصرٌ منها ولا طولُ“.. لم يعد للمرأة المغرية من هذا الوصف إلا الاسم “هيفاء“، وما يصاحبه من الفتن المقدّمة للرجل على طبق يجعله يزهد في زوجته وإن كانت تفوق “هيفاء” وأخواتها في الحسن والغنج! (حتى هيفاء نفسها لم يدم زواجها من رجل الأعمال طارق أبو هشيمة إلا قليلا)!!
وتغيرت نظرة المرأة للحسن أيضا، فقديما قال المثل العامي: “الرجل لا يعاب” (مسكينة المرأة المظلومة حتى في الأمثال!!)، لكن الرجل في نظرها يحمل ألف عيب، لكن يكفيه أن يكون في الحسن “مُهنّدًا” وصاحب رصيد ممتلئ، وما سوى ذلك نافلة!
ثقافة “الريموت كونترول” طبعت الإنسان المعاصر أيضا، فالملل أصبح صفة لازمة لا تزول إلا أمام شاشة هاتف أو كمبيوتر يهرب به المرءُ من ذاته، وكأن الإنسان يخشى مواجهة نفسه إذا خلا بها في مكان! وإذا كان لا يصبر على مشاهدة وجه واحد في التلفاز لبضع دقائق، فكيف يصبر على طرف يقاسمه البيت والغرفة والسرير عقودا من الدهر؟
قالت “هيلين رولاند” يوما: “عندما يقوم رجلٌ بالزواج من امرأة، فإن ذلك أجملُ شيء يُمكنه تقديمه لها، وهو في الغالب أيضا آخر شيء“! وقال “جورج جان ناتان” فيما يشبه الرد غير المباشر: “الحب: هو تلك المشاعر التي تصدر عن المرأة تجاه كلبها المدلل غالبا، وتجاه الرجل أحيانا“! لكنّ “جورج برنارد شاو” توسط بين المذهبين وقال: “لا يوجد ثمّة حبٌّ أصدق من حب الطعام“! لعله وجد حلا وسطا ليقول لنا بأسلوبه الساخر: كلا الطرفين ملوم لأنه يدّخر الحب الحقيقي لِمَا يعود عليه وحده بالراحة والمتعة.
قد تخبو جذوة الحب بالزواج، وقديما قالت العرب: “الحبُّ إذا نكح فسد“، وقد تلتهب جمرته يوما بعد يوم إذا توفرت الظروف المساعدة على ذلك، وأبرزها الرغبة الصادقة في الحفاظ عليه وترميم أجزائه المتداعية كبيت قديم تُعشّش فيه الأشباح!
***
على الهامش: الحب الذي خلّدته دواوين الأدب هو ذاك الذي لم يُتَوّج بزواج: فلا قصص قيس بن الملوّح ولا قيس بن ذريح (وقيل في كليهما “مجنون ليلى”) ولا جميل “بُثينة” أو كُثيِّر “عزّة” ولا حتى ملحمة شكسبير “روميو وجولييت” سجلّت خاتمة سعيدة تنتهي بالارتباط! وما أجمل وصفة “مونتانيْ” السحرية: “الزواج الجميل هو الذي يتم بين امرأة كفيفة ورجل أصم“!