د. علي بانافع 

     كانت حلقة ماتعة للغاية من سلسلة حلقات بعنوان: (مسيرة مؤرخ) يقدمها الزميل الرائع الأستاذ الدكتور فهد بن عتيق المالكي، برعاية الجمعية التاريخية السعودية في جامعة الملك سعود، وهذه الحلقة التي استمعت إليها بشغف كانت مع المؤرخ الفذ العصامي الأستاذ الدكتور مريزن بن سعيد عسيري، وقد مضى عليها أكثر من شهر -ولم استمع لها إلا عبر اليوتيوب- لقد مضت ثلاث سنوات وانقضت على لقائي الأخير بالأستاذ الدكتور مريزن بن سعيد عسيري، فمن حُسن الحظ وبهاء الطالع أن كان له فضل السبق كأستاذ ومناقش داخلي لأطروحتي للدكتوراه وهي بعنوان: (الدولة والعصبية عند ابن خلدون في الفكر التاريخي العربي الحديث دراسة تحليلية نقدية) في رحاب جامعة أم القرى مع أستاذين فاضلين هما: الاستاذ الدكتور أحمد السيد الصاوي "مناقشاً خارجياً"، والأستاذ الدكتور عدنان بن محمد الحارثي الشريف "مشرفاً ومقررًا"، والحقيقة أنني معجب بشخوصهم كأساتذة متمرسين في علم التاريخ والحضارة، لا سيما أني تلقيت العلم على أيديهم في جميع مراحل دراستي الجامعية والعُليا التاريخية والحضارية.

      لقد تعلمت من مسيرة المؤرخ الناصح الفصيح الأستاذ الدكتور مريزن عسيري أهم ثلاثة أسئلة في حياة كل طالب: الأوّل: من أنت؟ الثاني: ماذا تريد؟ الثالث: كيف تصل لما تريد؟. وتعلمت منه التمييز بين إرادة التغيير وإدارة التغيير، فقد سعى جاهداً أن يدرس الجغرافيا، وأراد الله له أن يدرس الحضارة العربية الإسلامية منهجاً مرتبطا بالزمان والمكان والإنسان، موصولاً بالواقع، مستلهماً للماضي، معايشاً للحاضر، مستشرفاً للمستقبل، مرتبطاً بالأصل ومتصلاً بالعصر، منفتحاً على الحضارات بلا ذوبان، مراعياً للخصوصية بلا إنغلاق، ملتمساً للحكمة من أي وعاء خرجت، كيف لا وهو المتخصص الأصيل في الحقبة السلجوقية، وهذه الحقبة منعطف هام وخطير أعاد توجيه مسيرة التاريخ في المشرق العربي والإسلامي، فقد اتسمت الحقبة السلجوقية بدعم العلم والأدب، وتشجيع العلماء وإنشاء المدارس النظامية، التي من بينها المدرسة المستنصرية في بغداد، ومثلت المدارس النظامية ولادة منظمات المجتمع المدني في أولى صوره في تاريخ البشرية، كما مثلت عملية الاحياء الاجتماعي في المنطقة بعد غارة فارسية ارهقتها تجاوزت قرناً من الزمن، أوجدت هذه الحقبة كياناً سياسيا وأمنيا واجتماعياً إقليمياً للمشرق العربي، حرر بغداد من الاحتلال الفارسي البويهي وصمد به المشرق العربي الإسلامي أمام الغارات الفارسية من الشرق والصليبية من الغرب.

      وتعلمت من مسيرة المؤرخ الأستاذ الدكتور مريزن عسيري، أن المثابرة هي البطل الدائم في حياة كل الناجحين، وهي السر العميق وراء تحقيق متوسطي الذكاء نتائج عظيمة لم يحققها بعض العباقرة، المثابرة تعني القدرة على الاستمرار في العمل رغم الصعوبات والمعوقات والظروف غير الملائمة، المثابرة تعبر دائما عن روح الإصرار والصمود وصلابة الإرادة، وأن من يتمتع بهذه الصفات شخص يصعب هزيمته. واختم بهذين البيتين:                          

رب ميت قد صار بالعلم حيــــــا ::                          ومبقّى قد مات جهلاً وعيّــــــــــاً                       فاقتنوا العلم كي تنالوا خلوداً ::                             لا تعدو الحياة في الجهل شيّاً