- مدخل:

سلسلة قصص قصيرة جدا، تعالج سلة قضايا ومشكلات وتفاعلات اجتماعية، بأسلوب ساخر..

(1)

البطريق على خطى الديناصور:

إن جاز لنا إطلاق مصطلح "الذكاء الحيوي" ونقصد به ما يتصل بقدرة الكائن الحي على البقاء والاستمرار، رغم التغيرات المناخية وما يتبعها من تأثيرات بيئية وبشرية واقتصادية، من شأنها إجبار "الكائن" على التضحية بكثير من متطلباته الأساسية، وتنازله عن بعض حقوقه وعوائده، أملا في بقاء يحفظ نوعه ويحمي بني جنسه من مصير "الكائنات المنقرضة". ويبدو ان ما تقدمه "المقاييس" عن ذكاء "البطريق" لا يبشر إلا بقرب التحاق الكائن الأبيض بمتحف التاريخ الطبيعي، تحت راية المخضرم "ديناصور"


(2)

الغدر.. أرقى مراتب الخسة:

إن الغدر سلوك "مبرر" بالنظر إلى طبائع البشر ونقصهم، برغم نذالة صاحبه وبؤسه ودرجته الرفيعة في سلم الخسة والدناءة. إن الخائن في مشوار حياته النتنة، يثبت بما يحتمل الريبة، أن مراقي الأخلاق عزيزة، ومعاليها غالية.. وليس لمن تمرغ في وحول النجاسات وأحواض الذبح، أن يتشرف بالاقتراب منها أو تصنعها. إن الحياة عادلة.. وعدالتها تتطلب فض الالتباس وإعادة التوازن مؤقتا، ريثما يتململ الخونة من جديد للاستمتاع بإفساد حياة الناس.


(3)

في علم التسلق:

قد يتطلب صعود الأبنية العالية توفر منصات و"مساطب" لراحة "الصاعد" وتجديد نشاطه وتحفيزه على الاستمرار.. أما "المتسلق" وعادة ما يكون غبيا، فإنه يعمد إلى إلقاء "السلم" عند أول منصة راحة، ظنا منه باكتمال الرحلة وتحقق الهدف.. وضنا منه على المتسلقين المحتملين من بعد.


(4)

كيف تتواصل مع شخص مختل؟

تم الإعلان عن محاضرة "كبرى" والترويج لمقدمها الخبير "اللامع" في المجال.. توافد الجمهور إلى قاعة فخمة.. اعترض الحضور "مختل كبير" ولم يفلح "النجم" في تطبيق "مهارات" التواصل.


(5)

التطفل رديف التخلف:

من جمال اللغة أنها قد تقارب بين معاني المفردات متشابهة الأوزان لتمنحنا أبعادا أخرى أعمق من مجرد جمالها اللفظي وموسيقاها المطربة. إن ما يرشح المتطفل لمنصة "عدم الاعتبار" و"عدم المؤاخذة" اتفاق العقلاء على تخلفه "المسبق" وحصوله على أرفع بطاقات أندية العته.


(6)

هل تخضر الأوراق المحترقة؟

إن أكثر ما يعيق نجاحات أصحاب الدماء الشابة: عاطفيتهم المفرطة، وأسفهم المستمر على الورقات المحترقة، وظنهم الحسن وكلامهم الجميل المسجع.. وإن صحت نسبة "البيت التالي" إلى الإمام الشافعي فقد سبق وتقدم وأبدع:

"لا يكن ظنك إلا سيئا.. إن سوء الظن من أقوى الفطن.. ما رمى الإنسان في مخمصة.. غير حسن القول والظن الحسن".


(7)

لماذا نحارب أكياس البلاستيك؟

عجبت لقوقل حين سألته، ولم تكن أسوأ توقعاتي بنصف ما أفادني به "عجوز البحث" فقد زعم أنها تحتوي على "نسبة عالية" من الرصاص. إن "أكياس البلاستيك" كأشخاص البلاستيك تماما، وعادة ما تميل الكفة لصالح "الأكياس" عند التدقيق والمقارنة. تضر الأكياس بالبيئة وبصحة الإنسان والحيوان.. بينما يمتد ضرر "أشخاص البلاستيك" إلى: إفساد الحياة وتعكير صفوها وتقطيع الأواصر، وحرمان الأجيال التالية من قيمة التراكم. إن أهم ما تمتاز به أكياس البلاستيك، أنها لم تبلغ مرحلة الإضرار بنفسها، كحال الأشخاص البلاستيكيين، حين يرتد رصاصهم دون رحمة.


(8)

ذكاء على مقياس ريختر:

ضجت أرجاء النعامة غضبا بعد تصنيفها في فئة الطيور الاقل ذكاء..  أضرمت نارا شعواء، احترق بها نصف ما لدى فصيلة النعام من ريش.. رفعت مطالبتها لهيئة الوسطاء: أعيدوا "قياس" ذكائي على "مقياس" ريختر.


(9)

بائعة الشاي ومعركة البقاء:

لم تسعفني كل أزرار "العم مارك" وخياراته للتعبير عن تقديري لبائعة الشاي في موقف الأسفار.. وكيف لصاحب "الموقع الأزرق" أن يتدخل، وسيدتي لم تقتن حسابا على كوكبه بعد.. بل، قد لا يتسنى لها امتلاك أي حساب على منصاتنا الرقمية. يتعذر على سيدتي طاعنة السن، التفريق بين حسابات "التواصل" وحسابات "المصارف" ولا ترى ضرورة لكليهما.. لكنها تدرك بكل وعي "حالة" المسافر وسايكولوجيا المودعين. إن كان في عالم اليوم من يستحق "دكتوراه" في الضيافة والجود، فلن تكون  "سيدة الموقف" بطبيعة السياق؛ إذ ان جودها "أرفع" من كل الدرجات.


(10)

الراية البيضاء.. استسلام ناقص:

إن الهزيمة والانتصار ليسا متزامنين دائما؛ فقد تبلغ الهزيمة بطرف مبلغا مهينا، دون أن يجد الطرف الآخر طعما للانتصار. إن هروب المهزوم وانزواءه ليس كافيا لتسجيل خصمه على قوائم المنتصرين. إن مقاييس الشرف لا تعترف بانتصار "المنتصر" ما لم يستسلم "المهزوم" دون رفع راية بيضاء؛ إذ ان مجرد قدرته على تمييز لون "القماشة" فضلا عن رفعها، دلالة على أن الهزيمة لم تبلغ منه ما يخول لخصمه الحصول على بطاقة الانتصار.


(11)

في سوسيولوجيا الصراع:

إن أهم مؤشرات الانتصار، أن تنجح في اجتذاب خصمك إلى ميدانك، وتفرض عليه استخدام أدواتك عينها.. وتجبره على التحدث بلغتك والاستمتاع بها. إن عزف الخصم على عودك ورقصه على وقع ربابتك، أبلغ إيلاما وأشد وقعا من معاناة الذبيح على خشبة المسلخ. إن أرفع درجات الجود أن تتفضل على عدوك بسلاح يوجهه لصدرك؛ إذ ليس من الشرف الانتصار على خصم أعزل.


(12)

ضربات منزوعة الرحمة:

إن الحقوق لا تحميها الأوراق.. وإنما حضور أصحابها ودفاعهم عنها وإثباتها في عين الشمس وصفحات القمر، فضلا عن ما يتاح لهم من الأرض، مع مراعاة الترفع عن الطين والوحل ما أمكنهم ذلك وتسديد ضربات لا تعرف من الرحمة راء ولا حاء. إن مجموع دهاء البشر يظل عاجزا عن تغيير حقيقة صغيرة واحدة، فما بالك بغباء إزاء حزمة حقائق كبيرة؟


(13)

هل كان مارك مخطئا؟

إن على "مارك" أن يغلق فضاءه عنا ويرتحل.. بل ويعتذر عن ما جاد به علينا من إتاحات لم نرق لمستوى التعامل معها بعد. إن امتحان الوفرة والحرية والإتاحة أقسى من اختبار الندرة والمنع والاحتكار. عزيزي مارك.. تواضع مرة واعتذر.. أو أغلق فضاءك عنا واعتزل!!


(14)

مناقصة لطلاء الشمس:

إن أغبى أرباب المقاولات، لن يكون على استعداد لمجرد التفكير بالمشاركة في مناقصة قد تفضي إلى "اختياره" للقيام بمهمة سيصبح تاريخها "آخر ظهور" له على الأرض، وإقرارا منه بالتنازل عن "حقه" في الحصول على قبر.


(15)

حوض يذود عنه سلاح!!

بالطبع، ليس من المرجح أن يكون "حوض زهير" نموذجا معماريا أو تصميما هندسيا خاصا؛ إذ لم تكن بيئة الشاعر ملائمة لإنشاءات السباحة أو الاستزراع السمكي... لكن "الحكيم" كان أكثر وعيا واستشرافا للمستقبل، حين استخدم مفردة "الحوض" لتحتوي كل الأبنية المادية والمعنوية، بالترافق مع دعوته لحمايتها من الهدم.


(16)

صرعى السبائك الذهبية:

تحتفظ ذاكرة الجرائم الجنائية في العالم بسلسلة من حكايات "صرعى السبائك" وقصة العائلة الفرنسية ليست ببعيدة عن الأذهان. إن الحرص على "الامتلاك" عادة ما يصرف الوعي عن قيمة "الانتفاع المشروع" بالأصول المتاحة.. لكن الرغبة في الامتلاك نفسها ليست "المشكلة" وإنما تطور الرغبات إلى "صراع بين أصحاب العقول الاحتكارية" ومن ثم هلاك الجميع.. وبقاء السبائك لإهلاك مزيد من فاقدي الوعي.


(17)

مسابقة في هجاء القمر:

لا يعرف أحد على وجه الدقة، مكان وتأريخ "الإعلان" عن المسابقة، ولا مكان انعقادها بطبيعة الحال. تهافت أمراء الشعر من بغاث الطير والعهن المنفوش.. ومن أميرات النظم كل نطيحة وموقوذة، فضلا عن وصيفات "خرقاء مكة" ومساعداتها في "نقض الغزل" ظهيرة كل يوم. لم تعرض الأعمال المقدمة على لجنة تحكيم؛ إذ ليس من "الحكمة" إطلاع "المحكمين" على نصوص تمتدح "الخسوف" نكاية في القمر.


(18)

أن تنتصر.. أو تنتصر!!

إن إتقانك لأساليب الدفاع لن يحقق لك نصرا وإن استمرت مباراتك بعدد أيام الخريف ومجموع ليالي السمر. إن عالم "الكرة" لا يسمح بالنجومية إلا للمهاجمين ومحرزي الأهداف وصانعيها. إن المقاتل بدافع الكسب لا ينتصر عادة، أما المحارب بدافع البقاء فإنه لا يهزم أبدا. وقد كانت "بدر" فرقانا في تأريخ البشرية، حين كانت دوافع المقاتلين في نقطة الانتصار فقط، ولو كان جيش "قريش" بعدد سكان الأرض اليوم، ما كان له أن ينتصر.


- مقدمة:

في عصر يتربع فيه التواصل على هرم البريق والأهمية، وتمثل جودته أداة حاسمة في إنجاز الأعمال.. يبدو واقعنا بصفة عامة، في حالة أقرب إلى رداءة التواصل، وإن تظاهرنا بالبشاشة وأطلقنا أسناننا للكاميرات. إن أبسط مؤشر لجودة التواصل في مجتمع ما، أن تشاهد فيه أنشطة ومشروعات جماعية ناجحة ومستمرة. إن السمة الغالبة في معظم مشروعاتنا الجماعية أنها تبدأ بقوة دفع كبيرة، ثم لا تلبث إلا قليلا حتى تتداعى وتنهار على رؤوس أصحابها إن لم يمزقوها بأنفسهم.


في رحلة البحث عن أفضل الأساليب لإنجاح مشروع ما، ليس كافيا أن نهتم بالجوانب التقنية، وما يتصل بها من خبرات ومهارات وأدوات فقط. إن الاهتمام بجودة الكادر البشري نفسه، جانب أكثر أهمية وتأثيرا، لا سيما جودة اتصاله بفريق العمل ومحيط المشروع.


- تعاون لا صراع:

عند التطرق إلى جودة التواصل وتأثيرها في أداء الأعمال وإنجاح المشروعات.. يبرز السؤال الأهم: ما الأسباب الحقيقية لرداءة التواصل في مجتمع ما؟ وهل من مقترحات وأفكار لتحسين مستوى التواصل؟

إن رداة التواصل بين الأفراد، مؤشر لوجود صعوبات داخلية لدى كل فرد على حدة، وعادة ما تكون مشكلات الأشخاص في مجتمع ما، متشابهة ومتقاربة..


إن أبرز ما يطبع خلافاتنا المستمرة: تشابه حالاتنا النفسية، واستعدادنا الدائم للصراع والمواجهة.. ولنعد إلى الذاكرة لاسترجاع مشاهد لخلافات في البيوت والأسواق والمكاتب والمساجد؛ للتعرف على مدى تهيؤ الأشخاص للصدام. إن سرعة استجابتنا للصراعات، ورسوخ نفسية الصراع، ليست سوى مظهر لمشكلات أعمق وأوسع نطاقا.


إن معرفتنا بأضرار نفسية الصراع والتحدي المستقرة في نفوسنا دون وعي منا، قد تكون مفتاحا جيدا لتحقيق نقلات مهمة في مستوى تواصلنا، وبالتالي في مستوى إنجازنا للأعمال والمشروعات. لكننا لن ندرك مقدار ما تسببه (نفسية الصراع) من تعطيل وإفشال، إلا حين ندرك قيمة (التعاون)؛ وبضدها تتمايز الأشياء.


- في صعوبة التعايش

كتبت فتاة في مدونتها: "ظللت أعامل من حولي برقة ولطف وحب وإخلاص وتفان، ثم فوجئت بأن من كنت أعاملهم قد فهموا بعقولهم السقيمة أن لطفي سذاجة ورقتي ضعفا وحبي فراغا".. واستدركت بالقول: "لكن تلك الصفات كانت وما زالت مطبوعة في نفسي ودواخلي لدرجة لا أستطيع التخلي عنها كردّ فعل لفشلي في الحصول على من يفهم القيم السوامق".

ولم يكن ما كتبته الفتاة عجيبا بمثل ما كان التعقيب الذي نشره أحد قراء مدونتها.. فقد قال لها ما ملخصه: إنك جوهرة ثمينة قلّ أن يجود الزمان بمثلك، فاصبري على ما أنت عليه من السمو، واصبري على (مر الجفا) ممن لا يفهمون من الحياة وعنها إلا ما بين نواظرهم الحولاء.. ولو سمح لي الوقت لعلقت على آهاتها بالقول: إنك يا آنستي لم تدفعي سوى ضريبة التعامل الإنساني الراقي الذي لا يستحقون سدسه- والسدس كثير- ولكن حسبك أن تتعلمي من التجارب.


طالب بجامعة كبيرة، كان صديقا لأحدهم.. أكمل ذلك (الصديق) بينما تخلف هو أكاديميا.. وكان صادقا في (صداقته) متفانيا.. لم يكن يرى الحياة إلا من خلال عيني صديقه الذريّ كما كان يصفه.. ثم انتهى كل ذلك إلى (عدم)! شكا إليّ بحرقة وأسىً، حتى كدتُ أتعاطف معه، لولا أنني تذكرت من مرّ مثله على دروب الحياة الوعرة.. قلت له: كنتَ مخطئا؛ فليس من العدل أن تضع في سلته البيض كله ثم تنتظر السراب.. كان ينبغي عليك الاحتفاظ برصيد مناسب من (الجهل) فإن له أوقاتا كما للحلم مثلها! وقلت له ما كنت أود قوله للفتاة: (إذاً ستدفع ضريبة التعامل الإنساني الذي تتبناه)..


زارني أحد القراء.. تفرست فيه سعة الأفق وبعد النظر وثقوب الرؤية.. بادرني بفتح بعض الملفات الاجتماعية الساخنة.. أخذ يشكو بألم يصاحبه فكر، وأسى تحتويه تجارب.. وكان ملخص كلامه أن مستوى (التعامل) ليس مرضيا خاصة من جانب (الكبار) أو من يرون أنفسهم كذلك.. قلت له: يبدو أن خواطر ما تتوارد إلينا بنفس القدر.


لم تكن سطور الفتاة بمنآى عن شكوى الطالب الجامعي، الذي لم يكن هو الآخر بعيدا في مضمون شكواه- عن تأملات زائري العزيز.. إنهم جميعهم في ظل أو آخر من ظلال الحياة المتحركة.. وهم جميعهم- يريدون التحرك بإيجابية مع حركة الحياة تلك.. يريدون التفاعل والتناغم مع حركتها.. لا السباحة عكس التيار.. لكنهم كلهم أيضا- يواجهون صعوبات ليست من صنع أيديهم، وإنما في بيئاتهم التي يعيشون فيها.. وهي بيئات يصعب فيها التعايش المنتج الفعال.. لكنهم يعانون أشد المعاناة في التعامل مع كائنات غريبة، تسيء إلى من يحسن إليها ويكرمها ويقدر إنسانيتها.. وقد كانوا يظنون أنهم في أوساط اختاروها بعناية، لكنهم فوجئوا فيما بعد، أن (مختاراتهم) تلك لم تكن أفضل حالا؛ حيث لم تسمح بإعفائهم من سوء التعامل ودفع ضريبة التواصل.


- قراءة في سلوكات الشخص المتسلط:

تختلف طبائع الناس وسلوكياتهم باختلاف العوامل المكونة لشخصية كل منهم، كالصفات الوراثية والبيئة ودرجة التعليم وما إلى ذلك، ولعلّ أكبر موجّه ومؤثر في سلوك الشخص، حتى في ظل اعتبارنا للعوامل السابقة، هو إداركه لطبيعة تصرفاته وسلوكه، ووعيه بما يصدر عنه، إضافة إلى اهتمامه بما يحدثه التصرّف من ردّات فعل من قبل الآخرين. وما دامت التصّرفات الاجتماعية الصادرة عن أي شخص، تؤثر على طرف آخر، فلا بد من اعتبار ردّة فعل ذلك الطرف..


إن المكارم والقيم السائدة في المجتمع كثيراً ما تفسدها تصرفات الأشخاص. إن الأشخاص ذوو الشخصيات المتسلّطة (الفظّة) يفسدون في المجتمع أكثر مما يصلحون، في وقت يرون فيه أنفسهم قادة وموجهين، خاصة إذا ما تدثروا بميزة اجتماعية أو أكثر!!.


تفرض الشخصية المتسلطة وجودها بطريقة أقرب إلى "السلوك الأمريكي".. وإذا ما حصلت مثل هذه الشخصية على أية ميزة اجتماعية، فإنها تسقط كل مخزونها من التسلط، بكل مخزونها من الفظاظة والغلظة، على الطبقة أو الفئة التي تمتاز عليها بتلك الميزة الاجتماعية.


- تسلط مدرسي:

لعلك تذكر من مرّ عليك من المعلمين القساة الذين لا يعرفون للرحمة معنىً ولا للرفق سبيلاً.. ولعلك وقفت حينها تسائل نفسك عن السبب أو الأسباب التي تجعل من ذلك المعلم ملكاً للرفق والرحمة والسمو، وتجعل الآخر من الفظاظة بحيث يحيل المدرسة إلى جحيم؟!.


إذا تذكرت معي بعضاً من تلك المشاهد، فإنني أعود إلى القول بأن مثل ذلك المعلم الفظ، لم يصبح فظاً بعد أن عمل في مجال التدريس، لكنه كان كذلك من قبل. إن صعوبة الأمر ليست في مجرد الفظاظة، وإنما في إسقاطها على من يفترض أن يتلقوا منه سلوكاً راشداً ويتعلموا منه قيماً رفيعة.. والأعجب من ذلك كله، أن يتم تغليفها بما يسمى بمكانة المعلم: "من علمك حرفاً صرت له عبداً" ومن ثَم إضافتها إلى مخزوننا من القصص (التربوية) التي تحكي عن زمان كان التلاميذ فيه يتركون الطريق للمعلم، ويخافون منه خوفا شديدا. إن ما يؤرق ليس مجرد السلوك الخاطئ أو الأخطاء التي تقع من أي شخص كان، ولكن المؤلم حقاً هو تغليف تلك الأخطاء وتقنينها وتبريرها بما يعطي المخطئ حصانة اجتماعية تدفعه لمزيد من الأخطاء واللامبالاة..


- تسلّط أسري:

ولنأخذ مثلاً بالزوج في الأسرة سواء كان زوجاً فقط، أو كان أباً كذلك.. فكثيراً ما تسمع شكوى الرجل من زوجته حيناً ومن عقوق أبنائه أحياناً أخرى، لكنك قليلاً ما تسمع عن محاسبته لنفسه أو شجب تصرفاتها على أقل تقدير..


ومثل هذه الشكوى عادة ما تصدر من شخص يحمل بين أضلاعه نفساً تحب أن تطاع فلا تعصى، وتقول فلا يرد قولها، وتأمر فيستجاب لها.. ولكن، ما يفوت على مثل هذه الشخصية أن السلوك يورّث والطبع يعدي، فإذا ما أكثرت من التعامل بتلك الطريقة، انتقل الطبع تلقائياً إلى الزوجة والأبناء، وبالتالي تتصادم الشخصيات المتماثلة في الغلظة والفظاظة، وها هنا تتنافر الأقطاب المتشابهة. ولعل المدرسة والأسرة أهم محاضن إعداد الأفراد للنجاح، لا سيما في التعامل مع المجتمع المحيط.


يا ترى، ما عوامل تكوين الشخصيات المتسلطة؟

أولاً: ما دامت مشكلة (الشخصية المتسلطة) اجتماعية، فإنها ترتبط بطرفين أو أكثر من مكونات المجتمع، وينبغي ألا يوجه اللوم إلى طرف واحد، ومن ثم تحميله المسؤولية؛ لأن المسؤوليات متداخلة ومشتركة ومتبادلة..


ثانياً: عند تعرضنا لمعالجة مشكلات اجتماعية، يجب ألا نعطي بعض الأطراف حصانات دائمة، لما يمتازون به من ميزات اجتماعية تفضيلية.


من العوامل المؤدية لتعزيز التسلط لدى بعض أفراد المجتمع، أن الخطاب التربوي بصفة عامة والديني بصفة خاصة، عاش حيناً من الدهر وهو يتناول الموضوعات التربوية والاجتماعية مثل (برّ الوالدين وطاعة الزوج واحترام المعلم وتوقير الكبير ومساعدة الضعيف) من جانب واحد فقط، بالرغم من أن التفاعلات تخص طرفين اثنين أو أكثر. وقد أدى الخطاب أحادي الاتجاه والتوجيه، إلى ترسيخ مفاهيم خاطئة عن حقوق المذكورين وصلاحياتهم، وأفرز احتقاناً في الأطراف المقابلة، مما أدى بمرور الوقت، إلى حدوث ردّات فعل وانفجارات اجتماعية، هنا وهناك. وفي فترات قريبة نسبيا، برزت اصوات تدعو إلى التوازن في الخطاب الديني، لا سيما بعد دخول بعض المتخصصين في المجالات التربوية والاجتماعية، ساحات التوجيه الديني عبر القنوات والوسائط الاليكترونية.


- تسلط العمل الخيري:

استراتيجيا، يُنتظر من العمل الخيري (العمل على مساندة قادة المجتمعات المحلية وتأهيلهم؛ لتحمل مسؤوليات التوعية والبناء والتنمية)، وإن استغرق ذلك الهدف الكبير سنوات طويلة وجهودا ضخمة. ولعل قارئ المقال وكاتبه أيضا، يدركان صعوبة تنزيل الأفكار وتطبيقها في واقع متداخل ومعقد بإجمال، وتغيب عنه الرؤية في مختلف مستوياته بلا استثناء، وبرغم ذلك يظل القرع على الباب أجدى للضيف من الإياس.


تعتمد معظم الأعمال الخيرية على إنشاء المرافق الأساسية وتشغيلها، وقد تهتم بعض المؤسسات بالبناء دون التشغيل لصعوبته في الواقع وتجدد احتياجاته، بخلاف التأسيس والإنشاء مهما ارتفعت كلفته. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، عادة ما يركز منفذو الأعمال الخيرية على صورة المرافق؛ لنقلها زاهية إلى طبقة الممولين كوسيلة مجربة لاستدرار المزيد من أرباب "البزنس" الخيري واستحلابهم باستمرار.


- صراعات معطلة:

إذا نحيّنا استراتيجيات العمل نفسه جانبا، وتركنا الوسطاء والممولين وشأنهم، وطبيعة العلاقة بينهما أيضا، واتجهنا صوب فاعلية الأنشطة الخيرية نفسها ودورها في الدفع بالمجتمعات المستهدفة إلى الأمام أو حبسها في دائرة التلقي والاستهلاك، فسنرى نماذج متفرقة هنا وهناك تتراوح ما بين الجيد والإيجابي والمنتج في بعض الحالات، والسلبي والمعطل والمهدد لسلامة المجتمع أحيانا أخرى.

 

وبما أن عامة الأعمال الخيرية ذات صبغة دينية ومذهبية، فإن معظم المشكلات والصراعات، عادة ما تبدأ من (ارتباط المساندة الخيرية بالدعوة والترويج لمذهب أو طائفة) وتتفرع عن الارتباط المذكور، مشكلات عدة ليس أقلها انقسام المجتمع الصغير المستهدف بالعمل الخيري إلى عدة أجزاء وجزر، حسب عدد الطوائف الدافعة بمنظماتها تجاهه.


في حالة الإنفاق الخيري لتأسيس المساجد مثلا، عادة ما تشترط المؤسسة الخيرية الحصول على حق إدارة المسجد؛ مما يتسبب في تشويه رسالة الإنفاق ورهنها بمقابل وثمن، وكأن المنفق يقول: "إن أردتم بناء مسجدكم والاستمتاع بسجاجيد فاخرة، وبالكهرباء وتوابعها من تكييف وماء بارد، فإن عليكم التنازل عن حقكم في إدارة المسجد، وتبعا لذلك، التنازل عن حقكم في اختيار من يخطب فيكم ويعظ ومن يتقدمكم في الصلاة". وكم من مساجد شرع الخيرون في بنائها ثم توقف العمل، وكم من أخرى تزينت لروادها ثم تعذر افتتاحها لأسباب من شاكلة ما ذكرت. وكان الأجدر بهم أن يتركوا رسالة الإنفاق بلا ألوان، ويضعوا عنها آصار المنظمات المذهبية وأغلالها، ويجعلوا إنفاقهم إطلاقا لطاقات كبلها الحرمان، وتسريعا لنجاحات تفتقر إلى أدوات ومصابيح، ومنحا لمزيد من الإتاحات والحرية والأمل.


- إيذاء عقربي:

نستمع لآلام شباب في مطالع العمر، تعتصر صدورهم آلاما تشق الصخر.. وما مبلغ الألم إلا وروده من الدائرة الأولى، دائرة ذوي القربى، وظلمهم أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند، كما حفظ ديوان العرب.. ليس ظلما من الدائرة القريبة فحسب، بل من أصغر وحداتها، ومن طرفها الأقوى..


يتصف “الشقيق العقرب” مثلا، بكل صنوف الإيذاء الناعم soft killing والتعطيل والسخرية والاستفزاز والإهانة.. مستخدما كل ما بين يديه من أداوت ومعرفة وعلاقات.. بل قد يستخدم الدين والصدقات والأضحية، لتأكيد مهاراته العقربية بالغة الإيذاء..


يحرمك الشقيق العقرب من حقوق واضحة، لكنك تجده حريصا على منحك “زكاة فطره”؛ ليتطهر بالمن عليك.. ويصلي أمام من يوظفهم لمشروعه العقربي المستمر؛ ليصبح دفاعهم عنه فيما بعد دفاعا عن الدين والصلاة والتعبد..


إن تناول حالة “الشقيق العقرب” مؤلم مؤلم، لكنه ضروري كحال جرح متعفن يحتمل صاحبه الألم أملا في شفاء قريب، وإن لم يكن مضمونا، لكن مجرد الأمل في الشفاء خير من هلاك واقع.


كم من مواقف مؤلمة عاشها شباب غض، حوصروا بتقنيات “عقربية” ودفعوا أثمان ذلك من صحتهم وطاقتهم ونجاحهم وعلاقاتهم..


كيف يبرع “العقربيون” في توظيف الأدوات لتحقيق أقصى إيذاء ممكن، وكيف يطورون من أساليبهم باستمرار كحال شركة متقدمة في مؤشرات الأعمال، لا يرضى صاحبها بغير "الصدارة".


يستبطن “الشقيق العقرب” فكرة الانتصار على اللا شيء.. يعد حرمانك انتصارا، ومنحك انتصارا أيضا.. يعطل مسيرك نحو أقرب الفرص، ويدعي دعمك لارتياد الفضاء، ومساهمته في أفراحك برحلة إلى المريخ..


يستخدم “العقرب” عمره وأدواته وقربه من الوالدين وكبار السن في العائلة، لتجييشهم ضد المستهدفين في مشروع الإيذاء الخفي.. يوظف هدايا العيد، وأدوية المرضى، وحلوى الصغار في مشروعه بتركيز عال، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا وظفها باحتراف ودقة وذكاء. تنشط الأساليب العقربية في توظيف نجاحك أو فشلك.. صحتك أو مرضك.. تواصلك أو انقطاعك.. في تحقيق أبلغ الأذى بك، دون وخزة ضمير ولا خشية لوم. إن نجاحك لا قيمة له، وصحتك حالة مرضية، وتواصلك مع الآخرين تملقا وإساءة للأسرة.. أما فشلك ومرضك وانقطاعك فهدايا القدر للعقرب المؤذي. يتنفس راحة عند تحقيق نقاط مؤثرة.. وعند توقيع مؤثرين جددا في فريق عمله غير المحدود..


- قراءة نفسية في سلوكات الفقراء:

لا تقف الآثار المدمرة للفقر، عند مجرد الأمراض المترتبة عن الحرمان من الغذاء أو الهلاك بسبب نقص الدواء أو الكساء، لكن ثمة آثارًا أخرى تتمدد في أعماق النفوس والمجتمع تاركة جراحًا غائرة يصعب تداركها فيما بعد. إن ما يخلفه الحرمان في نفس المعدم وما يترتب عليه من سلوكات، ليس سوى قنابل موقوتة قد تنفجر في حينها مخلفة جملة ضحايا وخسائر مكلفة.


- سلوكات الفقراء:

يعد السلوك الاجتماعي للفقراء عاملًا رئيسًا في استدامة معاناتهم واستمرارها لفترات طويلة، وفي ظروف اقتصادية متباينة ارتفاعًا وانخفاضًا، ومما يدلل على ذلك بوضوح: سلوكات المنتقلين من دوائر الفقر. إن الفقراء في محاولاتهم المستميتة لمغادرة محطات الفقر، عادة ما يحافظون على أفكار وسلوكات تبقيهم أوفياء للفقر وإن امتلكوا سلة أدوات الأغنياء.


- الفقر سلوك:

وما يجدر التذكير به والتركيز على أهميته عند تناول قضية الفقر، أن الفقر سلوك في المقام الأول، قبل كونه "حالة" حرمان من أدوات ومظاهر وآليات حياة. وتأسيسًا على كونه سلوكًا، فإن عدم قدرة الفقير على تجاوز سلوكات الفقر يعني ضمنًا عدم قدرته على تغيير منظومة الأفكار المنتجة لسلوكه مما يبقيه في نفس الدائرة مهما امتلك من أدوات ومرفهات.


- هواجس الفقراء:

يعيش المنتقلون من الفقر هواجس العودة والارتداد إلى الحرمان، مما يدفعهم إلى تبني فكرة الامتلاك المفرط للأدوات أيا كانت، بمستوى يمنحهم أمانًا كافيًا ويقربهم إلى مماثلة ما يمتلكه الأغنياء العتيقون في الرفاهية، وتقابل رغبة الامتلاك لدى الصاعدين الجدد رغبة متطرفة مقابلة تتمثل في التخلص من تاريخ الفقر ومظاهره وأدواته وأشخاصه وقد تمتد الرغبة الجامحة في التخلص إلى تغيير اللهجة والأسماء وأسلوب الكلام.


في المجتمعات الفقيرة، يعيش الأفراد حالات تحول مستمرة في مستويات الفقر، ودرجات الاكتفاء، ويلقي تغير مراكز الأفراد بظلال كثيفة على مستويات التواصل الداخلي في المجتمع، وتتغير دوائر الأصدقاء غالبًا تبعًا لمستوى الاكتفاء والغنى. وعادة ما يعاني المنتقلون من مربعات الفقر هواجس الخوف من العودة إلى (الحرمان والحاجة) مما يدفعهم إلى تبني سياسات أكثر جفاء تجاه أصدقاء مرحلة الفقر والعوز.


إن ما تعانيه المجتمعات الفقيرة ليس مجرد احتياجها الدائم لرغيف وكساء ودواء، لكن معاناتها تتمدد في أعماق الأفراد صانعة جراحًا نفسية غائرة، تتسبب تاليًا في تشوهات وبثور اجتماعية يتعذر تداركها. ولعل عامة ما يعانيه الفقراء من صعوبات في التواصل، يعود إلى ما يعيشونه من حرمان تبدأ عنده مشكلات حلقية متصلة يغذي بعضها بعضًا.


- تأثيرات ذهنية:

إن ما يترتب على سلوكات الفقراء السابقين ليس مجرد الاستهجان من رفقائهم وزملاء صباهم فحسب، ولكن ثمة تأثيرات ذهنية أخرى أشد ضررًا بمجتمعات الفقراء وأفرادهم. إن التغير الكبير والحاد في سلوكات المنتقلين قد يرسب قواعد من بينها أن مجرد انتقال الفقير إلى ما فوق الكفاية سيؤدي تلقائيًا إلى تغير سلبي في سلوكه الاجتماعي بناء على تغير نظرته للفقراء أنفسهم، وقد تسهم فكرة واحدة بهذا الحجم، في إبقاء مجتمعات كبيرة في دوائر الفقر بوعي؛ حتى لا تتغير سلوكاتهم وتسوء نظرتهم للفقراء بسبب الغنى.


- الفقر ورداءة التواصل:

عند تدقيق النظر إلى الفقر وواقع الفقراء، من زاوية اجتماعية، يتبين للمهتم أن من أهم عوامل استدامة الفقر، رداءة التواصل بين الفقراء وعدم قدرتهم على التعاون في أقل مستوياته فضلًا عن أعلاها. قد يرتبط ما يعيشه الفقراء من صعوبات في التفاعل البيني، بنقص المعرفة وضعف الوعي، لكن هذا النقص وذلك الضعف ليسا سوى نتيجة لرداءة التواصل المشار إليه سابقًا. في تجربة تعليمية في حي فقير، اقترحت تعاون بعض الموظفين ممن حصلوا على تعليم جامعي، في تقديم دروس أكاديمية لطلاب نفس الحي بغرض تحسين مستوياتهم وتحفيزهم على تحصيل دراسي أفضل، لم يجد اقتراحي استجابة، بل وصلتني رسائل غير مباشرة من بعض المتعلمين مفادها أن عدم حصولهم على أي مساعدة أكاديمية سابقًا، يعني أن عليهم ألا يقدموا أي دعم أكاديمي لغيرهم!


قد تكون مبررات السلوك الواحد متباينة، لكن معظم سلوكات الفقراء تجاه بعضهم تبقى ذات طابع متقارب ومتشابه: أن أنجو أنا من الفقر ويظل الآخرون، وذلك في مرحلة ما قبل الانتقال، أما إن تحقق لبعضهم انتقال فعلي فتصبح العبارة السابقة: نجوت وابتعدت وانفصلت عن كل مظاهر حياتكم، تبًا لكم!


عندما تتحكم قواميس الفقر:

"سئل طفل فقير عن أغلى أمنياته، فقال: أتمنى أن أرى قطعة خبز كاملة"!!


من نقطة الحرمان، تبدأ قواميس الفقر في العمل والتأثير في مجريات حياة الفقراء، وإن تجاوزوا خط الفقر، ودوائر العوز والحاجة.


- عن الفقر.. سلوك لا حالة:

مما يجدر التأكيد عليه، أن تركيزنا هنا، إنما ينصب على الفقر كسلوك اجتماعي، لا حالة اقتصادية ذات وصف كمي. إن الفقر سلوك في المقام الأول، قبل كونه “حالة” حرمان من أدوات ومظاهر وآليات حياة. وتأسيسًا على كونه سلوكًا، فإن عدم قدرة الفقير على تعديل السلوكات المترتبة عن تحكم "قاموس الفقر" في تصرفاته، يعني ضمنًا عدم قدرته على تجاوز منظومة الأفكار و"القاموس" المنتج لسلوكه، مما يبقيه في نفس الدائرة مهما امتلك من أدوات ومرفهات.


- عناوين من قاموس الفقر:

1- تواصل حاد وتفاعل HARD:

"دعا الجد أحفاده لتناول الغداء فاعتذر بعضهم لعدم رغبته في الأكل.. هنا قال الجد الحكيم: أي بني، إن المائدة ملتقى للتواصل وليست اجتماعا لتناول الطعام فقط".


في ظل قواميس الفقر، فإن اضطرار الفقراء إلى الاحتكاك الدائم في موارد الغذاء والمياه وموائد الطعام، عادة ما يتسبب في اتساع رقعة التنافر بينهم، وارتفاع مستوى الاحتقان. 


2- حتى في التوجيه التربوي:

تتحكم قواميس الفقر في رؤية الموجه والمربي، حين يبرر لبر الوالدين، بما يبذلانه من جهد في توفير الغذاء وإعداد الطعام وشراء الملابس والأحذية، وأدوات المدرسة. ولا يدرك الموجه أن قيامهما بكل تلك الأنشطة ليس سوى "حالة" مرتبطة بظرف اجتماعي قد يتغير، وليس للمتغير أن يصبح مبررا لعلاقة سامية بين الابن وأبويه.


3- الزواج.. طعام وحقيبة ملابس:

بمرجعية قواميس الفقر، فإن اختلاف العروسين حول الطعام وحقيبة الملابس، قد يتسبب في إلغاء الزواج نفسه، وتحول العلاقة بينهما إلى عدواة، قابلة للتمدد إلى أسرتيهما، إن لم تتسبب في اشتباك قد يفضي بالجميع إلى مراكز الشرطة والمستشفيات.


4- رداءة تواصل وسوء تعامل:

"طالب بجامعة كبيرة، كان صديقا لأحدهم.. أكمل ذلك الصديق بينما تخلف هو أكاديميا.. وكان صادقا في صداقته متفانيا.. لم يكن يرى الحياة إلا من خلال عيني صديقه الذريّ كما كان يصفه.. ثم انتهى كل ذلك إلى عدم".


إن رداة التواصل بين الأفراد، مؤشر لوجود صعوبات داخلية لدى كل فرد على حدة، وعادة ما تكون مشكلات الأشخاص في مجتمع ما، متشابهة ومتقاربة. إن أبرز ما يطبع خلافاتنا المستمرة: تشابه حالاتنا النفسية، واستعدادنا الدائم للصراع والمواجهة.. ولنعد إلى الذاكرة لاسترجاع مشاهد لخلافات في البيوت والأسواق والمكاتب والمساجد؛ للتعرف على مدى تهيؤ الأشخاص للصدام.


5- الابناء لمساعدتك لاحقا:

قد تستغرب لدوافع الفقراء في مختلف الأنشطة، ومن بينها الزواج.. حيث تجتهد الفتاة للحصول على زوج موسر؛ يخلصها من ذل الحاجة والحرمان، فضلا عن تخليصها من رداءة التواصل وسوء التعامل.. بينما يجتهد الشاب للحصول على زوجة، تجنب له أبناء يعدهم ذخرا لجور الزمان، وهو يستبطن ألا أحد يمكن الوثوق به غير الابن.


6– تسلط وفظاظة:

لعلك تذكر من مرّ عليك من المعلمين القساة.. ممن لا يعرفون للرحمة معنىً ولا سبيلاً.. ولعلك قد تساءلت حينها عن الأسباب التي تجعل من معلم ما ملكاً للرفق والرحمة، وتجعل من الآخر  سيدا للفظاظة بمستوى يحيل المدرسة إلى جحيم؟ إن صعوبة الأمر وغرابته ليست في مجرد الفظاظة، وإنما في إسقاطها على من يفترض أن يتلقوا منه سلوكاً راشداً ويتعلموا منه قيماً رفيعة.. والأعجب من ذلك كله، أن يتم تغليف جميع السلوكات الخاطئة، باسم مكانة المعلم: “من علمك حرفاً صرت له عبداً” ومن ثَم إضافتها إلى مخزوننا في قواميس الفقر.


7- مساعدة الفقراء وإهانتهم:

"كان ينتظر من رجل البر تحريره من رق الجوع والحاجة.. وقد تحرر منهما بالفعل، لكنه بات عبداً لرجل البر".


"توسم سائلان فقيران في رجلين ثريين خيراً.. فقصد كل واحد منهما أحد الرجلين الموسرين.. عاد أحدهما بخفي حنين، وعاد الآخر بعطاء جزيل لكنه مصحوب بمنّ جارح.. وعندما أرخى الليل سدوله، وانصرف كل فقير إلى بيته.. بكى الأول من ألم الحرمان، ونضبت مدامع الآخر من آلام الإذلال والمنّ"!!


إن الإنفاق وسيلة لإطلاق لطاقات كبلها الحرمان، وتسريعا لنجاحات تفتقر إلى أدوات، ومنحا لمزيد من الإتاحات والحرية والأمل.. لكن قواميس الفقر ترى عكس ذلك كله، وتحفز المانحين على تقديم ما يحافظ على مستوى أهميتهم المفترضة، ويمنحهم مزيدا من النفوذ.

8- رعاية اليتامي والأرامل:

إن استمرار الأسلوب الشائع في تعامل الجمعيات الخيرية مع اليتامى والأرامل كفئات خاصة ومتميزة خارج نطاق الأسرة، يرسخ مزيدا من الفصل والتمييز الاجتماعي، مما يتسبب في الإضرار بالفئات المعنية، فضلا عن إنتاج أشكال جديدة من الصراع والغبن داخل الأسرة نفسها. إن نظام الأسرة كفيل باستيعاب اليتامى والارامل.. وإن كان ثمة دعم مادي، فليكن للأسر الفقيرة بصفة عامة وليس لليتامى والارامل. إن تنمية المجتمع تقتضي النظر إليه كوحدة واحدة تحتضن مختلف الفئات.. والتعامل مع وحداته الطبيعية المتمثلة في الاسرة وتوفير ما يساعدها في أداء دورها كوحدات أساسية للمجتمع. أما من ناحية الخطاب الثقافي، فما اليتامى إلا أطفال.. وما الأرامل إلا نساء وأمهات.. واليتم والترمل ليس بحاجة إلى خطاب ثقافي خاص او جمعيات ومنظمات متخصصة.

وهكذا تتحكم قواميس الفقر في معظم تفاعلات الفقراء، وتصنع رؤيتهم للأشخاص والأشياء والأحداث، تعضدها أمثال ومقولات تكتسب مصداقيتها من واقع صنعته أفكار خاطئة، لتضاف إلى متن القاموس، معززة حضوره الراسخ في مجتمعات الفقر.


- نجاحات بدوافع سيئة:

إن أسوأ النجاحات، تلك المتحققة بدوافع المنافسة والانتصار والتفوق.. ومتى ما كانت كذلك، فإنها تظل معبرة عن خلل عميق في محيط الناجح، أكثر من تعبيرها عن كفاءته واستحقاقه للنجاح. إن سيطرة صور النجاح المدرسي، على معظم أنشطتنا الحياتية، وتحديده لسقف تصورنا للنجاح.. يعد عاملا مهما في فهم ما نعانيه من صراعات وتنافس في مختلف المجالات والأنشطة.. وما تزال عقدة التفوق على الأقران، حاضرة في حياتنا الاجتماعية، ومساهمة بقدر وافر في إذكاء الخلافات وإشعال النفوس بكل ما هو سيئ ومستقبح. عند تحقيقنا لنجاح ما، فإن ذلك لا يعني انتصارنا وتفوقنا على آخرين في نفس الميدان.. لكن غلبة روح الصراع، عادة ما تفسد ما قد يتحقق من تقدم ونجاحات.


إن ما يجري من إشعال لنيران التنافس بين المدارس والإدارات التعليمية، لم يكن نتاجا لدراسات تربوية جيدة، ولا تطبيقا لتوصيات خبراء في المجال.. لكنه وبكل صراحة، امتداد لما تعيشه مجتمعاتنا من تنافس وصراعات صبغت حياتنا بألوانها القاتمة، وحجبت عنها الضوء. إن احتفاءنا الكبير بمنتجات أجواء التنافس، ليس وليدا لمنظومة التعليم، ولا علاقة له بعالم المعرفة.. لكنه نتيجة لما طبع سلوكنا الاجتماعي من تطرف بفعل الصراعات المستمرة والمتجددة.. وليس أدل على ذلك من كون اهتمامنا باحتفال إعلان النتيجة وسرد أسماء (الأوائل) أكبر من اهتمامنا بما تتطلبه الدراسة من بيئة جيدة ومناخ معافى وأدوات..


على صعيدنا كأشخاص، قد لا يكون النجاح بمختلف صوره، عسيرا من ناحية تقنية.. إلا أن ما يتوفر في المحيط من عوامل تعطيل، من شأنه إحباط أكثر المجتهدين، وإفشال أفضل المشاريع.. وعادة ما يحدث ذلك دون وعي، ودون إدراك للعواقب ولما يترتب من مآس أو تعقيدات على أقل تقدير. وتمثل رداءة خطوط التواصل في مختلف المستويات الاجتماعية، أفضل بيئة لتحطيم النجاحات، وإن تظاهرنا بعكس ذلك واستمرأنا الرقص على مسارح العبث.


وبنظرة لتقدم الطلاب، في تحصيلهم وأنشطتهم وعلاقاتهم، تبدو المشكلة أكثر وضوحا وجلاء. إن ما يرتبط بالنجاح ليس الذكاء والمذاكرة وحضور الدرس، لكنه الاستقرار النفسي والشعور بالأمان والانتماء، بدرجة أكبر..


إن ما يحتاجه طلابنا اليوم، ليس النفخ في رؤوسهم وبرمجتهم على الانتصار والتفوق، بقدر حاجتهم لتوجيه واع، يقدم لهم فكرة (النجاح) سافرة ومجردة من فكرة (الانتصار).. ولعل ما أتيح اليوم من فرص التواصل وأدواته، محفز لنجاح يصنعه التعاون، وتقدم جماعي تحركه روح الفريق. لتكن نقطة انطلاقنا أن "النجاح ليس انتصارا على خصم".


- إلى حقل تعاون:

ما إن يذكر (النجاح) إلا وتقفز إلى أذهاننا مشاهد ولحظات بكل ما تحمله من تكريم وهدايا وأوشحة. إن لحظاتنا تلك وإن كانت ذات قيمة وبريق في حينها، إلا أن ما يتبعها من مراحل ومناسبات، عادة ما يعلمنا: كم كانت ناقصة ومشوبة بكثير من التضخيم والبهرجة، فضلا عن صنعها لأجواء صراع لم ندركه في حينه..


في لحظات النجاح عادة ما تختلط الأفراح الجانحة إلى الفخر، بمناخات الصراع السائدة في مجتمع الناجح، بمستوى يتسبب في صعوبة التفريق بين النجاح والصراع.. ولعلنا نتذكر (السؤال الكبير) عن نتيجة المنافس، وهو سؤال كان يوجه إلينا عند كل نجاح، حتى ترسخت في نفوسنا فكرة سيئة مفادها أن “النجاح هو التفوق على المنافس” وللاسف لم يكن ذلك المنافس المتوهم سوى صديق لنا وزميل دراسة وصاحب جوار في الحي والمدينة!!


إن ما كان يرد على نفوسنا الغضة من تزامن بين النجاح والتنافس، خلق شعورا غير واع بضرورة وحتمية التلازم بينهما، وإن كانت الحقيقة خلاف ذلك وفي مقابله تماما. إن كثيرا من جهدنا المبذول في سبيل النجاح عادة ما يصطدم بنفسية الصراع المثبتة في أنظمتنا الداخلية، دون وعي منا بطبيعة الحال.. فهل من افكار واساليب جديدة للانتقال من كهف الصراع والتنافس بمختلف مستوياتهما إلى ساحات أرحب للتعاون والتكامل؟


ما نبذله من جهد في بناء الصداقات وتعزيزها، هل يعد جهدا في اتجاه النجاح؟ 

سؤال مهم من ناحيتين: الأولى أنه يقابل ذلك السؤال السخيف عن (المنافس) في لحظات نجاحنا، اما الناحية الثانية فهي افتراضه التلازم بين الصداقة والنجاح في مقابل الافتراض القائل بتلازم النجاح والمنافسة. وليس بإمكان الصداقة أن تصبح (منظومة نجاح) ما لم يبذل أطرافها جهدا ووقتا كافيين لتخليصها مما ترثه عادة من مشاعر سلبية قاتلة.. وإن كان من نجاح حقيقي للأصدقاء فهو غوصهم بعمق، ونجاحهم في (التخلص) من جميع الرواسب المعطلة، وتهيئة مناخاتهم لنجاحات مستمرة.


وحتى تصبح صداقاتنا وعاء كبيرا وحاضنة للنجاح، يجدر بنا التوقف عند جملة أفكار:

- لننظر إلى الصداقة كاحتياج نفسي متبادل، وإطار باعث على الاطمئنان والثبات، وموفر لخدمات التحفيز والدعم والمؤازرة.

- لنجعل نجاحاتنا متاحة لأصدقائنا، ومن ذلك إتاحة حق الفرح والافتخار بها، بوصفها نجاحات لهم (هم) وليست حصرية لصاحبها.

- لننظر إلى نجاحات أصدقائنا كطاقة إيجابية من شأنها صنع سلاسل نجاحات مستمرة.

- إن اهتمام عدد أكبر من الأصدقاء بما يحققه صديقهم، غالبا ما يعود في صورة اهتمام أكبر بالنجاحات التالية للأصدقاء، وكلما تزايدات معدلات الاهتمام، كانت النجاحات التالية أكبر حجما.


إن الخطوة الاولى في اتجاه تطوير الصداقة والعلاقات لمنظومة نجاح، أن نحررها من فكرة الصراع والتنافس.. أما الخطوة الثانية فهى النجاح عينه.

-----------------------

* معلم سوداني