بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

 البدء بالبسملة تيمنا ببركتها، وعلى مثل ما بدأ الله تعالى به كتابه الكريم القرآن العظيم، وهي فصل ما بيننا وبين غيرنا - معاشر المسلمين - وهي شارتنا، كما أن الكعبة البيت الحرام هي قبلتنا!

وهي من شعائرنا، ولقد ميزنا الله تعالى بها - معاشر المسلمين - أيضا.

ولما أن كان دين الله تعالى هو الإسلام فقد تبين أن قولنا ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم﴾. وإن كان تمييزا لنا بها - معاشر المسلمين - إلا أنه يمكن القول بأنه نظم فريد من نوعه بناء ومعنى مما منحه إعجازا ينبئ عن مدى الاختيار الفائق  لتجلية الشعائر، وهو مما يجعلنا بحق أمام حبك مُبَرِّز سابِق لتبيين الشرائع .

وأقول أيضا: إن كل شعيرة من شعائر الإسلام الحنيف لفيها من البركات واللطائف والملح والمعاني والمباني والهدايات ما يشي إلى القول إنه لو لم ينزل الله تعالى من شعائره إلا هذه أو تلك، لربما كان كافيا في الهدى والصواب والسداد، ولربما كان وافيا في الاستقامة والعظة والإرشاد!

ألم تر أن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قال عن سورة العصر، وهي قصيرة، وما أدراك ما قصرها، قياسا على ما عداها من سور القرآن المجيد! إنه " لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم" [تفسير ابن كثير: (14/451)].

فدل على إحكام ملتنا، ودل على إغنائها، وفيض عطائها، ليكون أمر المسلم بها دائرا بين الحدائق الغناء، والبساتين الفيحاء، ليهتدي من هذه بهداية، تحقيقا ونيلا لولاية، وليبعد بهذه عن غواية، ليجتمع أمامه الخير كله، دقيقه وجليله!

و﴿ بسم الله الرحمن الرحيم﴾ من مثل ذلكم تماما.

ذلك لأنها ولو لم يكن فيها إلا هذه الثلاث لكفى!

فإن قيل : وما هي؟

قلت :

1 – إنها لتعرفنا بالله تعالى، ومن حيث ألوهيته، ومن حيث إنه هو ذلكم الأصل الذي جاءت به جميع الرسالات. كما قال الله تعالى ربنا الرحمن سبحانه ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [ الأنبياء :25].

وهذا التوحيد وسلامة العقيدة في الله تعالى ربنا الرحمن سبحانه، هو الذي من دافعه ومن أجله أرسل الله تعالى رسله، وهو الذي أنزل من سببه ومن باعثه كتبه، وهو الذي من موجبه ومن حجته نصبت الموازين، وهو الذي من داعيه ومن بينته خلق الله تعالى الناس فريقين، فريقا في الجنة وفريقا في السعير، وهو الذي من شأنه ومن مقدمته خلقت الجنان، لأصحاب اليمين والإسلام والإيمان،  وهو الذي من برهانه ومن مسوغه سعرت النيران ،لأصحاب الشمال والخسران والكفران .

وتضمنها لاسم الله تعالى الله هو من إطلاقات الهدايات الكبرى، وذلك لما يحكم به من توحيد الألوهية أول ما يتبارى به أو يتجشمه قارئ أو فاعل أو آكل أو شارب، أو غير ذلك من أعمال اليوم والليلة سائرها !

وهو ما يجعل الإنسان في معية مع توحيده تعالى بحيث يمكن القول إن من نتائج ذلكم أن تكون الألوهية نظاما حيا في ضمائر الناس ووجدانهم، وبحيث يمكن التأكيد على أن ألوهيته تعالى قد أضحت عملا حسنا يتفاعل بها المرء منا مع نفسه آناء الليل وأطراف النهار، مما يحدو بنا إلى القول أيضا إن ذلكم ليكون عاملا حاسما في إقامة مجتمع مسلم قوامه الألوهية لله وحده سبحانه لا سواه!

وذلك أيضا مما يشي بترسيخ معاني الألوهية في القلب، وهو مما يعد عملا مجيدا في معايشتها قلبا في الفؤاد ومعنى في الضمير!

فيستحضر أحدنا أن الإله مصدر في موضع المفعول أي المألوه، وهو المعبود، ومن ثم فلا يكون معبودا له على الحقيقة إلا(اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [الزمر : 62].

ويستحضر الفؤاد ولَهَاً لذكر ربه ومولاه، لأن الإله من الوَلَهِ، والإله تُوْلَهُ إليه القلوب موجبة تَحَيُّراً مما تلاقيه من أنس بذكر ربها تيمنا وتبركا وتعظيما وتنزيها، كيما يكون داعيا في القلب أبدا، فلا يكاد يبرحه، وكيما يكون مؤثرا في الوجدان أبدا، فلا يكاد يفارقه!

2 - إنها لتعرفنا باسمه تعالى ﴿ الرَّحْمَٰنُ ﴾. فإن قيل: وما ﴿ الرَّحْمَٰنُ ﴾ ؟ قلت : هو الذي أنزل الله تعالى ربنا الرحمن في شأنه ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَٰنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَٰنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ﴾ [الفرقان: 60]. وأيضا هو ﴿الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ الرَّحْمَٰنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ﴾ [الفرقان:59] فاختار الله تعالى من أسمائه الحسنى ذلكم الاسم الكريم من بينها، ليكون مدار العبادة عليه، وليؤول أمر السجود إليه، وهو من أخص خصائص الصلاة، ذلك لأن أحدنا حينما يسجد فإنما كان ذلك دليلا على إسلاسه قياده لربه راضيا مرضيا، وربه كريم أيما كرم، وربه رحمن أيما رحمة، ومنه فلا يعود أحد قد سجد لمولاه صفر اليدين أبدا!

وإنها لعلى وزن بالغ بليغ معا! ذلك لأن الرحمة نعت محبب للنفوس، ومن أمامه تهدأ القلوب والأفئدة، وتستكين الأرواح، وذلك لأن الرحمن على وزن فعلان من المبالغة في رحمته لعباده، وذلكم هو شأنه سبحانه ﴿ الرَّحْمَٰنُ ﴾. 

واسم ﴿ الرَّحْمَٰنُ ﴾ من الأسماء الخاصة بالله سبحانه، فلا يتسمى أحد به، ولم يكتب التاريخ أحدا قد تجرأ على ذلك، وإن جادل في ذلكم من (قَالُوا وَمَا الرَّحْمَٰنُ) ؟!في فج من القول، وفي صلف من التعدي، وفي جهل من المكابرة!

فها أنتم تتنكرون اسم ﴿ الرَّحْمَٰنُ ﴾، فهلا تجرأ أحدكم أن يتسمى باسمه ؟!

ولما لم يكن ذلك، وكان محالا! فقد علمنا أنه سواء بسواء من مثل قوله سبحانه﴿ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴾ ؟![مريم : 65]. 

ولربما دُفِعَ بقول أحدهم: إن مسيلمة الكذاب كان قد تسمى به. لقول شاعرهم:

سموْتَ بالمجد يابن الأكرمين أباً ... وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا.

وجوابه أنه جاء نكرة ليبقى اسم ﴿ الرَّحْمَٰنُ ﴾ علما على الله تعالى.

أو أنه  قد وصفه به، غيره ولما لم يتسم به!

ودلك اسم ﴿ الرَّحْمَٰنُ ﴾، على شمول رحمته وعمومها لسائر من خلق، وهذه من إطلاقات الأسماء الحسنى! فحتى الكفار لهم من رحمته تعالى نصيب، ونصيب كبير! حتى وإن جادلوا في استحقاقه وحده سبحانه بالعبادة وإخلاصها له! ألم تر أن الله تعالى قال ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا﴾ [فاطر:45].

هذا هو قوله، وذلكم هو قرآنه! لفتات حانية، ورب رحمن رحيم، فقف عندها متأملا كثيرا يارعاك الله.

وورود اسم ﴿ الرَّحْمَٰنُ ﴾  كثيرا في الكتاب المجيد دلالة على شيوع مسماه معني، كما قد شاع في الآفاق مبنى!

وعلى كل حال فإن ذلك له بسط آخر.

3 – إنها لتعرفنا باسمه تعالى﴿ الرَّحِيم ﴾. وما قد قيل، أو يمكن أن يقال عن اسم ﴿ الرَّحْمَٰنُ ﴾ ، فإنه أيضا يقال عن اسم ﴿الرَّحِيم ﴾ تماما . وهو من مفردات التنويه والتنويع في القرآن العظيم، ومن دلالات التفرد والإعجاز في استخدام الألفاظ، لتؤدي دورها المحكم في  تصوير المعنى، وكأنك لتراه رأي العين، وبحيث أمكن لك من رؤيته على حقيقته وأبعاده تامة، فلا ينقصها وصف واصف، ولا يعتورها نعت ناعت. فتأمل!

ومجيئ اسمي الله تعالى ﴿ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ ﴾ تماما على ذلكم نسق، وتنزلهما على وفق ذلكم ترتيب، إمعانا في إبراز كيف أن الله تعالى بعباده حقا بالغ الرحمة، فيغدق عليهم من فضله، ومن ثم فهم إليه يؤبون ويرجعون، وهم له مخبتون وراجون.

وتلكم نتيجة حتمية واجبة. إذ لما كان الله تعالى الرحمن رحمانا رحيما، ومنه وجدت القلوب من نفسها التجاء إليه وحده طبعا وجبلة أيضا! إذ ما ظنك بكريم بلغ من كرمه حدا ليس يوصف بوصف إلا أن تنخلع الأفئدة له إخباتا وخشوعا وتذللا ومحبة وخضوعا؟!   

والأمر بذلكم النظر، والقول بهذا الاعتبار ليشي وكم يشي بإيجابية الأسماء الحسنى، لتكون مصدر تعزيز وعطاء وغناء وإثراء، لمجتمع الناس بأسرهم، فتأخذ بأيديهم إلى مناطات الهدى ومَحَالِّ الإيمان والتقوي والتسليم والانقياد لله تعالى ربنا الرحمن سبحانه.