﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9]. 

فالشح وصف ذميم، وهو أثر من آثار البخل، فالبخل صفة نفسانية والشح أثره، يتأثر عن هذه الصفة، وينتج عنها الإمساك.

وإذا كان البخيل هو الذي يبخل بما في يده، والشحيح أعظم منه لأنه يتطلع إلى ما في أيدي الناس، ويطمح ويطمع بما في أيديهم، بل لربما ضاق صدره لتبرع أحدهم على مستحق، أو تنقبض أساريره لتصدق محسن إلى آخرين، فتراه ضائقا به صدره، وتجده منقبضا منه قلبه!

قال الله تعالى: ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ۞ عَبْدًا إِذَا صَلَّى ۞ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى ۞ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى﴾ [سورة العلق:9-12]

فهذا صنف من الناس عجيب فعله، وهذا نوع من الخلق غريب نهجه!

فإنه إذا كان لا يكتفي بإمساك بما في يده، وتلك نقيصة!

إلا أنه أيضاً لا يريد من الآخرين أن يبذلوا خيرا، أو أن يقدموا حسنا!.

ويمكن أن يكون الشح هو أن يترك الإنسان ما أوجب الله عليه من النفقات كالزكاة الواجبة، فالذي يبذل ما وجب عليه في المال يكون قد تخلص من الشح.

وفي كل الأحوال وقفنا على حقيقة أن الشح أشد وقعا من البخل، ذلك لأن الشحيح بخيل وزيادة.

 وكما أن الكرم درجات والبذل درجات والإحسان درجات، فكذلك البخل دركات، ومن دركاته ذلكم الشح، وهو أشده.

وشدة الحرص تحمل الإنسان على فعل ما لا يجمل، وتأطره على اقتراف ما لا يليق، فيقطع رحما، ويصارع أخا ، ويعارك جارا، ويقاتل لا على حق، ثمين أو ضئيل، وإنما على أدنى الأمور منزلة، لا يفوت حقاً، ولا يعفو عن كثير ولا قليل، وإنما ينقر حقه تنقيراً، بل تمتد نفسه وتتطلع إلى ما عند غيره وتتشوف لحيازته!

هذا هو الشحيح!

ومنه ندرك إذن لماذا قال الله تعالى ربنا الرحمن سبحانه ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ ؟!

فاستعمال اسم الإشارة الذي هو للبعيد لرفعة منزلتهم وعظيم فضلهم، وضمير الفصل(هُمُ) بين طرفي الكلام " فَأُوْلَئِكَ - هُمُ - الْمُفْلِحُونَ إشعارا بالحصر، كأنه لا مفلح إلا هؤلاء!

فهؤلاء إذن هم المفلحون الفلاح الحقيقي الذي هو الفلاح الأعظم والأكبر، وحقيقة الفلاح هي إدراك المطلوب، والنجاة من المرهوب.

وهو مطلب لسائر الناس المؤمن منهم والكافر، فإنك إذا فتشت ونظرت في مطلوب أي منهم في هذه الحياة الدنيا  لوجدت أن غاية سعيهم هي أن يحصلوا الرغائب، وهي أن يدفعوا الرهائب!

وكل عمل الناس على تباينهم، وكل سعي الناس على اختلافهم، إنما هو يدور حول هذين الأمرين.

لكن كيف يتصورونها، فهذه مسألة أخرى.

فالذي لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر فقضيته هي تحصيل المال والشهوات والمتع بدفع الأمراض والأوصاب والعلل التي تصيب الإنسان في هذه الحياة الدنيا ونحو ذلك .

 أما المؤمن فالفلاح الأكبر والأعظم عنده، فهو نيل رضا الله تعالى، والسعادة الأخروية والجنة، والنجاة من النار.

ومنه ندرك مرة أخرى لماذا قال الله تعالى سبحانه ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ ؟!

إذ علق الله تعالى الفلاح بالخلاص من هذه الصفة، التي يذمها كل طبع فريد، كما قد ذمها القرآن المجيد!

وانظر إلى فعل الشح في صاحبه، وكيف أنه يخرجه من مصاف أولي النهى، كما أنه يدخله في دوائر الممقوتين، وأنه يحشره في دركات الخاسرين!

فلقد كان عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس المنافقين رجلا شحيحا، وكان له جاريتان أسلمتا، وكان يرغمهما على الزنا، وفيه نزل قول الله تعالى ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا﴾ [سورة النور:33].  

فالذي يوق شح نفسه يترفع ويحلق عالياً، لا ينزل مع النازلين، يترفع عن المدنسات، لا يأتي شيئاً من محرماته تعالى، ولا يقارف عملاً ولو مباحاً، إذا كان ذلكم العمل مما يخل بالمروءات، وذلكم مهما كان له من مردود مالي، فهو سحت، لا بركة فيه، وهو ذاهب سدى، فيما لا ينفع، والله تعالى طيب، ولا يقبل إلا طيبا!

ومنه فقد حرم الإسلام ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن.

قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى( حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى ، قَالَ : قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ ، وحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ ، ح وحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ ، وَفِي حَدِيثِ اللَّيْثِ ، مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ رُمْحٍ ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا مَسْعُودٍ) [صحيح مسلم، كِتَابُ الْمُسَاقَاةِ، بَابُ تَحْرِيمِ ثَمَنِ الْكَلْبِ ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ ،  حديث رقم 3030].

وقس على ذلك كثيرا مما يحصل من أنواع المكاسب في المضاربات والمساهمات والرشاء ومختلف أنواع المآكل والمشارب مما حرم الله تعالى.  

والواقع أن قوله تعالى ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ يمثل قاعدة عظيمة من قواعد العمل الإسلامي.

ذلك لأنها طريق من طرق الخير للإصلاح، واستقامة أمر المجتمع المسلم، حينما يتنازل فريق عن بعض حقوقه في مواجهة صاحبه، حفظا لما هو أعلى من ذلكم حق فردي شخصي، وهو علاقة الولاء والبراء، التي تعلو فوق كل خلاف، وترقى أعلى كل نزاع !

ومن تطبيقات هذا المقطع من الآية الكريمة ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ حال خوف الزوجة نشوزا من زوجها أو إعراضا، فالأولى ـ والحال كذلكم ـ أن يصلحا بينهما صلحاً بأن تتنازل الزوجة عن بعض من حقوقها الواجبة لها على زوجها ضمانا لإبقاء آصرة الزوجية قائمة، وهي خير من الفرقة.

 قال الله تعالى ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ۚ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ۗ وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ ۚ وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [النساء : 128].

قال الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى(إذا خافت المرأة من زوجها أن ينفر عنها ، أو يعرض عنها ، فلها أن تسقط حقها أو بعضه ، من نفقة أو كسوة ، أو مبيت ، أو غير ذلك من الحقوق عليه ، وله أن يقبل ذلك منها فلا جناح عليها في بذلها ذلك له ، ولا عليه في قبوله منها ; ولهذا قال تعالى : ( فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا ) ثم قال ( والصلح خير ) أي : من الفراق . وقوله : ( وأحضرت الأنفس الشح ) أي الصلح عند المشاحة خير من الفراق ; ولهذا لما كبرت سودة بنت زمعة عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فراقها ، فصالحته على أن يمسكها ، وتترك يومها لعائشة ، فقبل ذلك منها وأبقاها على ذلك . [تفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم)، مع أحكام الالباني ج1/310].

وكذا ذكره الإمام أبو جعفر ابن جرير الطبري، عند تفسير آية النساء سالفة الذكر.

وقد كان قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما من الأجواد المعروفين، حتى إنه مرض مرةً فاستبطأ إخوانه في العيادة، فسأل عنهم؟ فقالوا: إنهم كانوا يستحيون مما لك عليهم من الدين! فقال: أخزى الله مالاً يمنع الإخوان من الزيارة، ثم أمر منادياً ينادي: من كان لقيس عليه مال فهو منه في حِلٍّ، فما أمسى حتى كسرت عتبة بابه لكثرة من عاده![ مدارج السالكين :2/291 ].

ومنه ندرك مرة أخرى لماذا قال الله تعالى سبحانه ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ ؟!

وهكذا تكون تلك الأحكام تطبيقاً واقعياً للعقيدة الإسلامية ونظرتها إلى قيم الحياة وارتباطاتها، وعن وحدة العمل الإسلامي، وأمام تلكم النظرة الثاقبة له عن المنهج الراقي السامي الرفيع ،وهو إذ يقف به أمام تلكم القيم السامقة لينحو به إلى مراقي الصعود إلى القمم في عالم الأصول الفاضلة والأخلاق العالية، وبه تتميز صفوفه من بين   سائر الصفوف؛ وذلك لأنها قد ارتبطت أول ما ارتبطت بمحور الإيمان بالله تعالى ربنا الحق الرحمن سبحانه، وإنشاء عالم إنساني قد ذابت فيه فوارق الجنس واللون واللغة والنسب والأرض . وتبقى شارة واحدة تميز الناس .هي شارة العقيدة الجامعة لكل خير ممكن، وهي الدالة الإيمانية المانعة لكل شر ممكن أيضا.