تأملات في قوله تعالى﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الحج:77].

(1)

قال الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الحج:77].

هذه هي الآية السابعة والسبعون من سورة الحج. وقد جاءت في خواتيمها. إعلانا عاما من الله تعالى بألا معبود بحق سواه، وألا أحد مستحق لصرف العبادة إليه غيره، وذلك لامتنانه على عبيده، أن جعل فيهم دالة التعرف عليه، إيمانا به وإسلاما له، وذلك أفيده من قوله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾، أي آمنوا بربهم الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، وما يحمله أيضا من تهييج للقلوب، واستثارة للضمائر، أن تنحو نحو الخير كله، والإيمان كله، والعبادة لله تعالى، متذللة له خاضعة لسلطانه، عن رضا وقبول واستسلام تام، يجعلها حينئذ مستحقة لنيل رفيع الدرجات، مزايلة لسفل الدركات. رحمة من الله تعالى وفضلا وجودا منه وكرما. إذ لما كان قوم قد اختاروا لأنفسهم طريق الهلاك الوعرة دروبه ليزدادوا إثما فوق آثامهم، تجد هنالك نفرا قيض الله تعالى لهم الهدى وأعانهم عليه ووفقهم إليه، وذلكم أيضا ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم. ومن ثم كان موجبا أن يوحدوه، وكان واجبا أن يعبدوه.

بيد الآية الكريمة قد جاءت على نظم فريد في الإيقاع، وجرس جميل في الأداء. حتى لكأن مستمعا لها، أو قارئا، ليجدها وقد لا مست شغاف قلبه، وقد أدت دورها المنوط بها في استجاشة الضمائر نحو ربها الحق بلا كلفة أو شيء مما يعيق حركة دائبة للأفئدة نحو التسليم لربها الرحمن سبحانه طاعة منها ورضا واختيارا وقبولا وتسليما. بل في استسلام تام، لما سبق بيانه بأنهم أولئك المؤمنون المختصون بذلكم النداء الأسمى، وهم أولاء المسلمون المكلفون بذلكم الأمر الحاني وذلكم التوجيه اللطيف.

ونظرة أولية إلى نص الآية الكريمة وما تضمنته من أوامر كان يمكن أن تكون في ظاهرها حاملة لمعنى الأمر الجازم، ومتضمنة لموجب الإلزام الحازم. إلا أن مجيئها على هذا النحو قد جعل من أوامرها ماء سلسبيلا تساقطه فوق الرؤوس والأبدان ليهبها طاقة ونشاطا وانقيادا ومسابقة إلى العمل، ومسارعة إلى الأجر العظيم. ويبدو ذلكم في مقابلة ما يأمر به الأغيار لمن هم تحت إمرتهم، أو هم خاضعون لقيادتهم ورئاستهم، من أوامر، أتت في قوالب جامدة خالية من حنو، باردة ليس فيها من حرارة الإيجاب، إلا ما يجعلها تكون هي والداء العضال، سواء بسواء بحيث يتمنى المستقبِل لها أن لو لم تكن، وأن لم يؤمر بها. وتلك شامة من شامات القرآن المجيد، وكيف أنها قد خالطت بشاشة أوامره الألباب فسارعت إلى الطاعة والانقياد راضية مرضية ،في سلوكها نحو الأفق الأعلى من  مجد العبودية لله، ومن شرف التذلل له تعالى.

بيد أن دورانا آخر في فلك الآية الكريمة محل البيان ليوقفنا وقفة تأملية:

 إذ إن مجيئ هذه الأوامر كلها متآلفة متناسقة بألفاظها العديدة لتؤدى معنى واحدا هو إخلاص العبادة له تعالى على الوجه المرسوم لها شرعا. وبذلك التفرد في الأداء، وبهذا النظم المؤثر، ليلفت الانتباه، ويشحذ الهمم نحو محاولة جادة لأن يقول أحدنا قوله في غلاف بهيج من الألفاظ الموحية المؤثرة الناطقة بكل لون يمكن أن يؤدي الى إجابة المخاطَب هرولة وإسراعا.

وأزيد وضوحا فأقول: إن ورود الأمر بالركوع كان كافيا في الإشارة إلى الصلاة لأدائها عن قبول واختيار . إلا أنه قد جاء الأمر بالسجود، بعده مباشرة، ولم يفصل بينهما سوى حرف العطف الواو، إذ وكأني بالنظم الحكيم قربا بينهما لفظا، كما قربا بينهما واقعا وفعلا! وكل ذلك إنما يفيد تمكينا للمعنى المراد، من إيجاب الصلاة، في أمعن عبارة، وأتقن إشارة، أداء لأوضاع الصلاة. وكأنما تتجسم في صورة بهية، أمام المنادَى ليركن إليها، بحيث كانت له زادا إلى الراحة، وسبيلا إلى الاطمئنان. ولذا فقد جاء الأمر بها، لأنها راحة! كما  روى أبوداود رحمه الله تعالى في  صحيحه من حديث سالم بن أبي الجعد أن رسول الله ﷺ قال(يا بلالُ أقمِ الصلاةَ، أرِحْنا بها)[صحيح أبي داود: 4985]  وصححه الألباني.

ومن استحضار هذه المعاني جنبا إلى جنب مع حديث رسول الله ﷺ أفاد بحق عظم شأن الصلاة، كما أظهرها في ثوبها الجميل، وكأنما قد ازدانت بردائها القشيب، ليقوم المؤمن بأدائها محبة ورضا ويقينا، ولينهض المسلم بإقامتها قبولا وإخلاصا، لا تكاسلا  ولا تهاونا ولا نفاقا.

وورود الأمر بالركوع والسجود متلازمين، كونهما ركنين من أركان الصلاة، لمؤد معنى الخضوع لله تعالى، والتذلل له سبحانه، بما هو واجب علينا - معاشر المسلمين- تجاه الله تعالى ربنا الرحمن سبحانه. هذا جانب؛ وثمة جانب آخر جدير بلفت الانتباه، وهو اختصاص ذكر الصلاة دائما بالركوع والسجود، مع أن هيئات أخر كثيرة في الصلاة، من مثل قيام ورفع وجلوس وتسليم. وهو ما يشي بأهمية الصلاة من جانب، وأهمية الخضوع والخشوع الذين يؤديهما كل من معنى الركوع والسجود، وما يشي به كل منهما بمعاني التذلل، ومطلق الإخبات لله تعالى ربنا الرحمن سبحانه. مما لايؤديهما سواهما وعلى هذا الوجه من هيئات الصلاة من جانب آخر أيضا.

وأمر جدير بالتأمل، وملحظ موجب للتفكر! ذلك أن قوله تعالى ﴿ ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا ﴾ قد جاء عاما، لأنه ليس في عقد مسلم إلا أن يكون كل من الركوع والسجود لله تعالى ربنا الرحمن سبحانه وحده، وهذه لفتة من لفتات الكتاب العزيز، وكأن الأصل في كل مسلم هو ذاك الذي أنبأنا عنه القرآن الحكيم، وليس في حس موحد ربه أبدا أن يكون ركوع لغيره، ولا يمكن أن يجول بخاطره أن يكون سجود لسواه سبحانه . فتأمل!

ولأن كلا من الركوع والسجود عبادة لمولانا الله تعالى، وخاصة به وحده، لذا جاء النظم مخاطبا الحنفاء بعبادته وحده دون سواه، ومنه ما سبق من أمر الصلاة. كما في قوله سبحانه ﴿وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ ﴾ فتأمل أيضا!

ذلك؛ وأن قوله تعالى ﴿وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ ﴾ أمر عام تدخل فيه الصلاة من أوسع أبوابه. فدل على أن العبادة واسعة المعانى، شاملة لمفردات التذلل والخضوع بكل عمل أو قول ظاهر أو باطن مما جاء به دين الإسلام دالا على كونه عبادة.

وذلكم أيضا يمنحنا هيبة وإخباتا أمام النص القرآني من جانب حنو النداء ولطف الأمر الكريم حين نجد من أنفسنا استكانة، من جانب حنو النداء ولطف الأمر، وتهييجا آخر لاستدعاء مناطات العبادة الكثيرة والمتعددة في مقابلة لفظ واحد هو﴿ وَاعْبُدُوا ﴾!

ولست أجد نصا لأحد آخر، ولا يمكن أن يوجد، غير نص الكتاب الكريم، يحمل بين جنباته سكينة وطمأنينة، كما أنه في ذات الوقت  يتضمن في ثناياه ومن بين سطوره الغَنَّاءِ استدعاء وتهييجا، بحيث كان منه مسارعة النفس المؤمنة إلى الطاعة والانقياد، عن رضا وقبول تامين كاملين!   

ومألوف مجيء الأمر بالعبادة في القرآن الحكيم مقترنا بلفظ الألوهية، كما في قوله تعالى ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ البينة:5]، وغير ذلك  من الآيات مما حفل به الكتاب المجيد من مثل ذلكم.

إلا أن قوله تعالى هنا ﴿وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ ﴾ باقتران الأمر بالعبادة بلفظ الربوبية بدلا عما هو معهود في الكتاب العزيز مقترنا بلفظ الألوهية كما سبق ذكره آنفا.

ولعله من حكمة ذلك أن اقتران العبادة بلفظ الألوهية ما يكون بسبب أن الأمر متعلق بغير المسلمين ابتداء. ومنه جاء الأمر الحاسم بأن العبادة لا تكون إلا لله تعالى، ومقترنة بلفظ الألوهية، كيما تربط الناس بربهم الحق انتهاء.

أما في اقتران الأمر بعبادته تعالى بلفظ الربوبية ههنا، فإنه من الملاحظ أن الخطاب موجه للفئة المؤمنة، والتي قد تحقق لها شرف الإسلام ونبل الإيمان معا، وبالتالي فقد جاء الأمر بذلكم بعد إذ كانوا قد آمنوا، وهو ما نلاحظه من مبدأ الآية الكريمة محل شرف الكلام حولها من قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾. وبالتالي فقد أصبح نداؤهم بشرف الانتماء إلى الربوبية أدعى من ندائهم بعزة الألوهية، وهذا جانب.

ومن جانب آخر فإن لفظ الربوبية فيه من جميل اللطف والحنو ما يناسب علاقة قائمة على معاني الرحمة في أوسع معانيها من رب كريم مع عباده المؤمنين، وهو أمر موجب للمسارعة إلى الخيرات ودعائه تعالى رغبا ورهبا، ولهذا جاء الثناء عليهم في غير ما موضع من الكتاب العزيز، ليؤكد على مدى تلكم الآصرة القوية، وليعيد التأكيد عليها مرة تلو الأخرى، مما يشي بوجود وشائج الصلة القائمة على التقوى والإيمان والعبودية الخالصة لله تعالى مولاهم الحق سبحانه كما قال تعالى ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [ الأنبياء:90].  كما أنه يوقفنا على قاعدة أن رحمته تعالى وإن كان قد عم بها سائر من خلق، إلا أن نصيب من آمن منها أوفر، وإلا أن خصوص من أسلم لها أكثر! ومنه جاء البيان بلفظ الربوبية. فتأمل!

وهو أيضا من باب ذكر العام بعد الخاص، بيانا لأهمية الصلاة، وتنويها بعظم شأنها. وإرشادا لأهمية شأوها.

وإذا ما انتقلنا إلى قوله تعالى ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ ﴾، لوقفنا أيضا على حقيقة إعجازية أخرى، مفادها أن الصلاة والعبادة من أفعال الخير، ليأتي الأمر بفعله دالا على ذكر إجمال، وهو الخير بعد ذكر إجمال آخر، يسعه، وهو ﴿وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ﴾! وهو معنى لطيف حانٍ يضيف إلى السياق تمكينا في وجوب أفعال الخير كلها، كما أنه يضفي على جو الآية عموما من الظلال الوارفة  ما يشيع منه كل معنى ممكن تخاله العقول من أمن، وما يمكن أن تتصوره القلوب من دعة وسلام! وهي منظومة متآلفة، في بيان ذلك، من أمر بالركوع، ومن إيجاب للسجود، ومن تكليف بعبادته تعالى، ومن طلب حان لفعل الخير.

والأمر أدعى لوقفة تأملية، حين نقرأ نداء لطيفا حانيا أوليا، من قبل هذه التكليفات لمنح عبد قبولا، بحيث لا تتبقى في ذات نفسه بقية من إعراض، أو هنة من تكاسل أو سنة من جحود! إذ لما كان النداء بقوله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾، فحمل بعليله استجاشة للضمائر نحو القبول، كما أنه دل بنسيمه على مدى الحفاوة باستدعاء النفوس كيما تقبل وتركن راضية مرضية!

وأقول أيضا: إن ذكر الأمر بفعل الخير، ومجيئ الخير معرفة، ليشمل كل أفراده، بحيث لايبقى خير حسُن فعله إلا ووجب فعله. كيما يكون المجتمع المسلم هو ما يمكن أن يطلق عليه (مجتمع الخير)! وتلك إضافة حسنة جميلة تضفيها الآية الكريمة على الجو العام للسياق القرآني الحكيم.

وكان من لطفه تعالى تقديم المنحة بالفلاح لمن قام بأصول الهدايات، ولمن جاء بعموم الخيرات، أنه من المفلحين، جائزة من الله تعالى. ذلك لأن الله تعالى ﴿لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران:171].