﴿وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾!

أقول إن الشح طبع في النفوس ولاشك. وهو من ابتلاء الله تعالى للناس واختبارهم به، كيما يجاهدوا أنفسهم للفكاك من إثمه، وكيما يدافعون به هذه النفوس للانعتاق من شره!

وذلكم لأن الشح مدمر للفضائل الكامنة في النفوس أيضا كما هو قد كمن فيها. والموفق من جاهد نفسه لإعتاقها من ذلكم وبال، كان من شأنه إذا استشرى في نفس أن يبدا بحرقها هي الأولى قبل أن يمتد شرره للآخرين اعتداء وعدوى بذلكم داء لطالما كان من الخطورة أن يدمر مجتمعا بأسره كان قد تمكن منه والله المستعان!

ومن هنا كان حقا على كل نفس قد أنعم الله تعالى عليها أن تجردت منه، وأن عوفيت من شره، أن تشكر الله الذي يتولى الصالحين، أن عافاها، وأن تثني عليه الخير كله، أن كان وليها ومولاها!

وكون أن القرآن الكريم يدخل في أعماق النفس البشرية، ليوقفنا على ما فيها من داء الشح، فهذا من إعجازه، وذلكم من بيانه، البالغ في الأداء والعميق في الدلالة، وهو يغوص في دواخل النفوس البشرية، ليرينا كيف أن الله تعالى مطلع على كل خبيئة من نفس، كما أنه تعالى قد حكى عن نفسه من ذلكم، كيما يتأصل وكيما يتأكد، وكيما يتعمق في أفهامنا لنخر لله تعالى سجدا داخرين لعلمه، ومخبتين في الوقت نفسه لإحاطته!

قال الله تعالى ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ۚ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [الحديد: 6] .

وقال تعالى أيضا ﴿أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ ۗ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ﴾ [فصلت: 54].

وقال تعالى ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق: 12].

وهو سبق للإسلام على كل حال، في مجال الدراسات الإنسانية، وبه جرى البيان.

وهكذا يكون القرآن الحكيم  قد أثنى على الأنصار، بما يشي تخلص نفوسهم من حسد، وبما يعني طهارة أفئدتهم من شح، وهما عاملان كما قلت يقوضان بناء أي مجتمع ليهوى إلى القاع، ومن حيث قد ابتلي أفراده بذينك الداءين العظيمين داء الشح وداء الحسد، أحدهما أو كلاهما.

وهو ما يمكن القول تأسيسا عليه، إنه لا بناء لمجتمع على أساس متين مالم يكن صحيحا معافى من هذين المرضين معا، ولذا كان من قوام مجتمع المدينة ألا يكون إلا خاليا منهما، وكانت صورة الأنصار هي المقياس لذلك!

وليس يعني أن تتحقق المثالية. بمعنى أنه ليس يعنى يكون صحيحا كله فردا فردا، وإنما يكفي أن يكون صحيحا في مجموعه، ذلك أن القول بضرورة أن يكون مجتمع ما صحيحا فردا فردا، فتلك مثالية تتأبهاها وقائع الحال، وإن كان النداء بها واقعا واجبا!