قال الله تعالى﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9]. 

ويلاحظ أمر عجب!

ذلك أن جميع الأفعال الواردة في الآية الكريمة قد جاء مفعولها، ظاهرا أو نائبا عن فاعله، ماعدا الجملة الفعلية ﴿وَيُؤْثِرُونَ﴾! فإنها قد جاءت مستترة المفعول به!

أزيد بيانا فأقول:

إن الفعل الماضي(تَبَوَّءُوا) قد جاء مفعوله كلمة (الدَّارَ)!

والفعل المضارع(يُحِبُّونَ) قد جاء مفعوله الاسم الموصول(مَنْ)!

والفعل المضارع(وَلَا يَجِدُونَ) قد جاء مفعوله كلمة(حَاجَةً)!

والفعل الماضي(أُوتُوا) قد جاء مبنيا للمجهول ، وجاء مفعوله الذي كان مفعولا نائبا عن فاعله!

إذ الأصل أن الكلام هكذا( مما أتى اللهُ الناسَ)!

والفعل المضارع(يُوقَ) قد جاء متعديا لمفعولين، أولهما مستتر وصار نائبا عن الفاعل، وثانيهما هو المفعول الثاني وهو كلمة (شُحَّ)!

لكن الفعل المضارع(يُؤْثِرُونَ) قد جاء خاليا عن مفعوله، مع أنه فعل متعد لمفعوله!

وعلى قاعدة أن القرآن العظيم محكم البيان، فلابد إذن أن يكون لذلك غاية، ويلزم إذن أن يكون لذلكم مقصد وبرهان!

بيد أني أجول فيما أراه ضابطا في المسألة، وعاملا مساعدا لاستكناه ما وراء النص، فعسانا أن نوفق لاستكناه مرادات الله تعالى من نظمه، ولاستبيان ماحواه كلامه من بيانه!

ذلك أن أعمال الخير، والتي يتميز بها كل عبد مسلم، وبالأخص حين يكون الكلام عن الأنصار، وما حباهم به ربهم الرحمن سبحانه من إيثار، فلزم إضمار المفعول به، كيما لا يكون موجها لفئة دون أخرى من الإيثار، وكيما يكون الإيثار منسابا إلى كل صوب، وإلى كل حدب، فيهل على كل بحسبه، وينهمر على كل مما أفاء الله تعالى به عليه، ومما أنعم به عليه، فضلا منه ونعمة ورحمة وهبة ومنحة وجودا وعطاء!

وإن كان من سببه أن قوما قد آثروا غيرهم ، وهم في الحقيقة ليسوا أي أغيار بل هم إخوانهم في الدين !

ودل إذن على أن أخوة الدين لها حقوقها الواسعة الفضفاضة، والتي يكفي أن نقول إنها حقوق الأخوة في الدين!

ولخيال أن يسرح، ولفؤاد أن يصدح في مآلات ذلكم الحب الإيماني، الذي كان من شأنه أن كان الإيثار إحدى نتائجه، وأن كان من موجبه سخاء نفوس قد تجردت من شحها المفطورة عليه طبيعة وجبلة!