قال الله تعالى﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9].
وكان من إيمانهم حبهم لإخوانهم المهاجرين إليهم.
وكان من إيمانهم إيثارهم!
فالإيمان إذن باعث على المحبة، كما أنه داع إلى الإيثار.
وهي منظومة، يعجز خيال عن تخيلها، لولا أنها جاءت هكذا ! قد جاءت في الذكر الحميد، ولولا أنها هكذا ! قد تليت في القرآن الحكيم!
فأن يُقدّم المرءُ غيرَه على نفسه في جَلب النفع له ودفع الضر عنه، فتلك مدحة وإشادة!
وأن يكفّ الإنسان نفسه عن بعض حاجاته، كيما يبذلها لأخيه، فتلك زكاة نفس وسمو مجد!
وأن يقدم الإنسان غيره على نفسه في حظ من حظوظه الدّنيويّة رغبة فيما عنده تعالى، وهو خير وأبقى، فذلكم إطراء وثناء!
وإن ذلك لينشأ، أول ما ينشأ، عن قوّة في اليقين، وعن صدق في المحبّة، وعن صّبر على المشقّة!
وكل ذلك مصداق لقوله تعالى﴿ لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾.[آل عمران: 92].كيما يصدق عليهم فعل الأبرار، وهم أولاء المنفقون مما يحبون، لا من حيث لاترمه قرائحهم، ولا من حيث تعافه نفوسهم، فيجودون بأغلي النفيس، وينفقون مما تحبه ذوات أنفسهم، وتلك شارة أهل الفضل والإحسان، وتلكم علامة ذوي العطاء بلا امتنان!
ومنه فقد نالوا برهم، وأدركوا سبل الخيرات، وهاهم يرمقون بأعينهم طريقهم إلى الجنات، من حيث قد أنفقوا مما يحبون، ومن حيث قد آثروا بأطيب ما يملكون من أموال وأهلين.
ذلك لأنه ليس بفاعل فعلهم، إلا من زكت نفسه، وإلا من علت روحه، إلى آفاق الصالحين والمخبتين والراجين رحمة ربهم وعفوه ورضوانه.
فنفوسهم عالية، وأرواحهم سامقة، وأخلاقهم حميدة، وقلوبهم رحيمة، وخبيئتهم زكية، وظواهرهم ندية.
قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى(حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، يَقُولُ : كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ ، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ المَسْجِدِ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ ، قَالَ أَنَسٌ : فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ : { لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ : { لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ ، أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ ، قَالَ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بَخٍ ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ : أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ ، تَابَعَهُ رَوْحٌ ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى ، وَإِسْمَاعِيلُ : عَنْ مَالِكٍ رَايِحٌ)[صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب الزكاة على الأقارب، حديث رقم: 1403].
وقال الإمام مسلم رحمه الله تعالى(وحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، وَابْنُ نُمَيْرٍ ، قَالَا : حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ ، عَنْ عُمَارَةَ ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا ؟ فَقَالَ : أَمَا وَأَبِيكَ لَتُنَبَّأَنَّهُ أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ ، تَخْشَى الْفَقْرَ ، وَتَأْمُلُ الْبَقَاءَ ، وَلَا تُمْهِلَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ ، قُلْتَ : لِفُلَانٍ كَذَا ، وَلِفُلَانٍ كَذَا ، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ ، حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ ، نَحْوَ حَدِيثِ جَرِيرٍ ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ : أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ). [ صحيح مسلم، كِتَاب الزَّكَاةِ، بَابُ بَيَانِ أَنَّ أَفْضَلَ الصَّدَقَةِ صَدَقَةُ الصَّحِيحِ الشَّحِيحِ : 1787].
وقال رحمه الله تعالى أيضا( حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ يَعْنِي ابْنَ قَيْسٍ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : اتَّقُوا الظُّلْمَ ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ ، فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ ).[ صحيح مسلم، كتاب الْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالْآدَابِ، بَابُ تَحْرِيمِ الظُّلْمِ، حديث رقم: 4803].
فوجود الإيمان هو الضمان لإنفاق المرء مما يحب، وتوافره هو الداعي للمرء أن يؤثر بما تحبه نفسه طبيعة وفطرة!
ومن حديث الأبرار أنهم بفعلهم الإنفاق مما يحبون كانوا كذلكم أبرارا!
ومن حديثهم أيضا أنهم بإطعامهم الطعام كانوا بعملهم كذلكم أبرارا!
بيد أن إطعامهم الطعام وهم محبوه! وذلكم شرط الإيثار، وتلكم علامة طيب النفوس، وشارة زكاء الأرواح!
وإطعامهم الطعام، على حب ذوات أنفسهم له، منضافا إليه رغبتهم في الأجر والمثوبة من الله تعالى وحده، وليس من أحد سواه، لا في قليل من الأجر، ولا في كثيره!
قال الله تعالى ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ۞ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾ . [الإنسان:8،9].
وهي دلالة إخلاص للعبد متناهية في الدلالة، بحيث لا يعوزها دليل آخر يقويه، وبحيث لا حاجة معه لمستند غيره يعضده ويدنيه !
ومنه يعلو الإخلاص، فوق كل الأمارات، ويسمق التجرد، على سائر العلامات!
فرياء لا تعرفه نفوسهم، ونفاق لا يعتري عملا، ولو واحدا من أفعالهم!
﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾ فهؤلاء الأنصار من صفتهم أنهم يحبون!
وهم إذ اختصوا بحبهم إخوانهم المهاجرين!
وهو وصف لصيق بهم منَّا من الله تعالى به عليهم، وفضلا منه سبحانه إليهم!
إذ بتوافر قلوبهم على المحبة كان منهم بعد ذلكم ما كان من إيثار، ومن عدم وجد على إخوانهم مما أوتوا!
وهو وصف أيضا قمن أن يتوافر عليه أصحاب الدعوات، لأنهم به يذودون عن حياض دينهم بصدق، ولأنهم به يدافعون عن بيضة إسلامهم بإخلاص!
فالحب هو قاعدة الانطلاق الأولى نحو تحقيق الأهداف المبتغاة من وراء دعوة الإسلام الحق!
وبدونه لايمكننا القول بضمان التعاون أو التعاضد أو التكاتف لإعلان شأن الدين وتحقيقه في واقع الناس.
ولذا فقدم الله تعالى به توافرا أولا، ومن ثم جاء ذكر ما يليه من رضا بقسمة النبي ﷺ الغنائم على إخوانهم المهاجرين، ابتلاء للصف كله - مهاجريه وأنصاره - واختبارا!
فهم إذن قد تضافروا على أنهم يحبون من هاجر إليهم.
وهم إذن قد توافروا على أن أحدا منهم لم يجد في نفسه شيئا مما يمكن أن يجده غيرهم من وجد أو من حنق على إخوانهم جراء إعطائهم الغنائم من دونهم!
وهم أيضا قد تمالؤا كلهم على الإيثار، ولو كان بهم خصاصة أي شدة حاجة من الحوائج المتعددة التي لا تنفك عنها نفس بين جنبيها!