د. علي بانافع
أذكر أني تقدمت للدراسة بقسم الدراسات العليا التاريخية والحضارية في جامعة أم القرى ثلاث مرات، ولكني لم اتمكن من الاستمرار في الدراسة لأسباب ليس هنا مجال ذكرها فقد مضت وانقضت، وفي المرة الثالثة الذي قدر الله تعالى لي القبول ثم الدراسة كان القسم برئاسة طيِّب الذكر الشهم النبيل الدكتور عبد الله بن حسين الشنبري الشريف، ولن أنسَ دعمه وتسهيله العقبات لي ولجميع الطلاب بلا استثناء، وقد فاتني سماع الحلقة الخامسة من سلسلة "قصة نجاح" للمحاور الفطن الأستاذ الدكتور فهد بن عتيق المالكي، وحصل لي شرف الاصغاء لها مسجلة.
الحقيقة أن الدكتور عبد الله الشنبري أثناء رئاسته للقسم، في شكله ومضمونه صاحب مروءة وحس عالٍ في تعامله مع الطلاب، قد أكسبه إيمانه قوة المروءة وسخاء الطبع، ومن قوة المروءة مساعدة الطلبة وتسهيل العقبات لهم، والاغضاء عن عيوبهم وان رأى عيباً وعثرة جاوزها، ومن خلال سماعي للحلقة ولأستاذي الضيف الدكتور عبد الله الشنبري، الذي أتحفنا كعادته وأمتعنا بحصافته وبلاغته، وقد برهن وأكدَّ في هذا اللقاء على أهمية الجد في العمل -والأكاديمي منه على وجه الخصوص- وقال: اعمل ولا تلتفت إلى الوراء فتتأخر، استمع للنقد وقوِّم نفسك ولا تسترسل كثيراً في الدفاع عن نفسك، الاخطاء واردة في العمل لأنه اجتهاد فصحح وامضي لغيرها، وقبل كل ذلك وبعده راجع إخلاصك وصدقك، وأضاف: أننا كبشر قد نبخس زميل حقه لمبرر صحيح أو خطأ، فإذا فعل حسناً فعلينا أن نشهد له لها بذلك، وإذا قدم شيء للعمل فكذلك علينا أن نشهد له بذلك، فالعمل امتحان الصدق في القلوب، فعلينا أن لا نتبع أهواءنا بل نعادي أهواءنا ونرضي مولانا وإن كانت النفس كارهة فالنفس تُقاد ولا تقود.
واعترافاً بفضله وجميله عَلَيَّ -والفضل لله أولاً وآخراً- فأقول: ليس البخيل الذي يبخل بماله فقط، لكن البخيل الذي يبخل بإبداء مشاعر الشكر لمن أعانه أو أسدى إليه معروفاً أو وقف إلى جانبه في لحظة احتياجه وضعفه، فالناس ليسوا جميعاً بحاجة إلى الدعم المادي فقط، لكنهم يحتاجون في عديد من المواقف لابتسامة رضى وكلمة عرفان ومشاعر نبل، يحتاج من قام بواجبه أن نقول له أحسنت بما فعلت، ويحتاج الكثير من الجنود المجهولين في معركة الحياة والذين تعودت نفوسهم على الوفاء والشهامة وقضاء الحوائج أن يُقال لهم بصوت مرتفع أحسنتم، حتى الشخص الذي يقوم بخدمتك يحتاج إلى أن تقول له بين الحين والآخر أَنك تُقدر إخلاصه وجهوده وتعتذر عن ازعاجه، هي كلمات لا تُكلف قائلها شيئاً لكنها تفعل فعل السحر في غيره وتدفع به إلى المزيد من العطاء، فالمناصب والجاه والبروز والشهرة كثيراً ما تُصبح عبئاً ثقيلاً على صاحبها؛ إن لم يواكبها إحساس صادق بالمسؤولية وبالجهود المبذولة وعرفان بما يُقَدَّمُ له، ورغبة مُلحة لتقديم التشجيع والثناء لمن يستحقه؛ وأشد قُبحاً من كل ما مضى من يتنكر لمن أسدى إليه عوناً كان يحتاجه أو دافع عنه في لحظة ضعفه أو أخذ بيده وهو يتهاوى، إن من يفعل ذلك يُكَرِّسْ الجحود الممقوت والتعالي المذموم ويُصَوِّر للناس اسوأ مظهر للتعامل الإنساني، والحياة تمتلىء بالنماذج المُشرقة إلى جانب امتلائها بالمظلم القاتم منها، والنتيجة -التي قلما تختلف- أن المدركين لدورهم الإنساني يحيون حياتهم دون آلام أو مآسي، وغيرهم يعيش قلقاً لا يجد الاطمئنان سبيلاً إلى نفسه ولا الهدوء طريقاً إلى واقعه.
قليل هم من يستمع لهذه اللقاءات ليستفيد، وقليل هم من يتابع التعليقات ليستزيد ثقافةً وتنويراً، فلا يُؤخذ أي فَنٍ من فنون العلم إلا من أهله، فلك أستاذي المتمرس الفاضل الدكتور عبد الله بن حسين الشنبري الشريف جزيل الشكر والتقدير والعرفان من أحد طلابك اليوم، وهو يقف على عتبات الخمسين من العمر، يقف وهو مُدِرِكٌ أن ما بقي له قليل، وأن ما مَرَّ من عمره مديد وطويل، ينظر نظرة إلى الأمام فيرى أن عنده الكثير من المهام، وهي مهام ليست بالهيّنة، كيف يخرج من هذه الحياة بشهادة التوحيد، وكيف ينجو من عذاب القبر، وكيف يجتاز أجوبة الأسئلة الأربعة بنجاح ( الشباب + المال + العمر + العلم )، ينظر إلى الماضي فيرى قناديل تضيء عتمة الطريق ويحمد الله أن طريقه لم يكن مظلماً، وهذه القناديل هي هدي آيات الله تعالى وأحاديث رسوله الكريم ﷺ، ثمّ انظر إلى القادم من الأيام فيتملكني شعور بحب الحياة والاستمرار فيها، لأجل أن استدرك ما فات وأملأ الصفحات بالذكر والاستغفار والدعاء واكتساب الحسنات.