في فيلم قاهر الفرسان، رفض فارس الشراديحي (وحيد سيف) (1939-2013) تبسط ابنته روضة (دلال عبد العزيز) (1960) مع الخدم بالقصر، ورفض أيضا زواجها من مختار (يونس شلبي) (1941-2007) الذي تحبه بسبب (البرستيج) والعزة والفخامة، فقالت له روضة إن جده الشراديحي باشا كان بائعا للفول، ولكن فارس ظل على موقفه من التكبر والاستعلاء على الناس بسبب الغنى والمال الوفير؛ وهذا حال كل حديثي النعمة والأصل رديء[1]!
والله -عز وجل- قد خلق الإنسان في أحسن تقويم، وقد هداه طريق الخير والشر، وزرع في قلبه ما يسمى بالضمير، والضمير في الإنسان عبارة عن سراج منير لصاحبه يدله على الخير ويبعده عن الشر ويؤنبه إذا ما خالف الحق والعدل والصراط المستقيم.
وحقيقة الإنسان ومعدنه جيدة وفي أحسن حال، ولكن الإنسان هو الذي يغير من طبيعته إلى الأحسن أو إلى الأسوأ، والإنسان الذي يريد أن يبتعد عن الحق يطمس ذلك الضمير بالتدريج حتى لا يكون له ثمة أثرٍ في أي توجيه أو تأنيب أو توبيخ؛ لذلك تتباين معادن الناس ودرجاتهم وصفائهم وكدرهم؛ يقول الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، والأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف"[2].
ويتضح معدن الإنسان في الابتلاءات؛ سواء بالخير (بمنصب أو بمال أو جاه أو سلطان أو بعض أو كل ما سبق)، أو في الشدة والمحن والمصائب، قال تعالى في سورة الأنبياء: { ... وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَة (35)}، وقال تعالى في سورة يونس: { ثمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُون (14) }، يقول الطبري في تفسير هذه الآية: "ثم جعلناكم، أيها الناس، خلائف من بعد هؤلاء القرون الذين أهلكناهم لما ظلموا، تخلفونهم في الأرض، وتكونون فيها بعدهم لينظر ربكم أين عملكم من عمل من هلك من قبلكم من الأمم بذنوبهم وكفرهم بربهم، تحتذون مثالهم فيه، فتستحقون من العقاب ما استحقوا، أم تخالفون سبيلَهم فتؤمنون بالله ورسوله وتقرّون بالبعث بعد الممات، فتستحقون من ربكم الثواب الجزيل."[3]
والإنسان صاحب المعدن النفيس سيثبت في محنة الخير حينما يفيض الله عليه بالمال الوفير والصحة والعافية، فلن نجد منه تكبرا على الناس، ولا أذى لهم، ولن نجد أيضا استخفافا ولا تحقيرا ولا همزا ولا لمزا من شعب لشعب آخر كما نسمع في الآونة الأخيرة من بعض المواطنين في دول الخليج عامة وفي دولة الكويت خاصة (ضد المصريين)!
والمال عرض زائل، ولا يقيم للإنسان وزنا بدون قيم ولا مبادئ ولا أخلاق، والبترول من الثروات التي ستنفد يوما ما؛ فما هو الحال بعد نفاده؟!
والإنسان صاحب المعدن النفيس سيثبت حين يبتلى بمنصب أو كرسي الحكم؛ لذلك لن نجد منه ظلما لرعيته ولا طغيانا ولا جبروتا ولا قطعا لرقاب المعارضين كما هو حال أغلب دول الوطن العربي حيث نجد السجون والمعتقلات للمعارضين أو حتى للساكتين عن النفاق سواء كان الحكم جمهوريا أو ملكيا، وحتى في بعض تاريخنا الإسلامي، نجد الحاكم يلقي بكيس الدنانير الذهبية لشاعر مدحه، ونجد في ذات الوقت، المقصلة وما برحت تقطع رقاب آخرين ذموه أو عارضوه!
والشبكة العنكبوتية في عصرنا الحديث، جعلت العالم وكأنه قرية واحدة، وفصلت الحدود بين الشعوب، ووباء فيروس كورونا كوفيد- 19 جعل الشعوب تتألم لبعضها البعض؛ فالمسلم يتألم لمعاناة أخيه المسيحي أو اليهودي، أو حتى البوذي أو الوثني أو الهندوسي في أي بلد، وغير المسلم من أي دين سماوي أو غير سماوي يتألم لأخيه في الإنسانية في أي بلد؛ فالألم واحد، والمعاناة واحدة، والموت متربص بالكل ويحصد الأرواح حصدا، ووسط كل هذه المحنة نفاجئ بكويتية تسب المصريين وتحتقرهم؛ ما هذا السلوك غير اللائق وغير المتحضر والبعيد عن الدين وعن الأخلاق وفي وقت محنة يجب على الجميع أن يتحدوا للمرور منها بسلام.
ولماذا سب المصريين في هذا التوقيت بالذات، ومصر والمصريون لهم الأيادي البيضاء على الجميع من ثورة الجزائر في الستينيات غربا إلى كل دول الخليج شرقا؛ فالبعثات التعليمية كانت تذهب إلى مصر سواء في الدراسة الثانوية والجامعية، وكسوة الكعبة المشرفة وإطعام الحجيج والمعونات الغذائية (مثل الدقيق) وغير الغذائية كانت تذهب إلى السعودية في التكية المصرية وغيرها، والبعثات التعليمية كانت تخرج من مصر إلى دول الخليج وخاصة السعودية بمرتباتها حتى الخمسينيات من القرن العشرين، وأغلب دساتير الدول العربية صاغها عبد الرزاق السنهوري باشا (1895 - 1971)، والمديريات المختلفة (الوزارات فيما بعد) أنشأتها مصر في كثير من دول الخليج، والنشيد الوطني للجزائر لحنه الفنان محمد فوزي (1918-1966)، وحتى الفنانون منْ أراد منهم أن يبدع يأتي إلى مصر (فريد الأطرش السوري (1910- 1975) ووردة الجزائرية (1939- 2012) ولطيفة التونسية (1961) وإلياس مؤدب السوري (1916-1952) وصباح اللبنانية (1927-2014) ومحمد عبده السعودي (1949) وغيرهم الكثير والكثير من العرب وغير العرب.
والعجيب أن الشبكة العنكبوتية جعلت الزواج أضحى دوليا ويتعدى الأقطار والحدود والفواصل بين الدول، والزواج بين الشعوب المختلفة هو الذي يوحد بين الشعوب بعدما فصلت السياسة وألاعيبه بينهم؛ ومع ذلك نجد النعرات الطائفية والقبلية المقيتة والتي حاربها الإسلام منذ مهده، فحينما كَسَع (ضرب) رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا ما بال دعوى الجاهلية؟ دعوا الكسعة فإنها منتنة)[4]، وقد روى الترمذي (3270) عَنْ ابْنِ عُمَرَ : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَالَ : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا ، فَالنَّاسُ رَجُلَانِ بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ ، قَالَ اللَّهُ : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ )، ثم نجد أيضا نعراتٍ طائفية قبيحة من الشيعة في لبنان ضد الُسنة، وحتى سبوا السيدة عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها؛ فأي تشيع هذا؟ أي دين هذا؟!
ومصر حاربت عن الدول العربية في ثلاثة حروب (1956 و 1967 و 1973)، وضحت بأرواح أبنائها فداء للوطن؛ وبالتالي تدهور الاقتصاد المصري، وخاصة مع الحكم العسكري غير الرشيد وتولية أهل الثقة وليس أهل الخبرة، أما دول الخليج فهي التي جنت ثمار حرب 6 أكتوبر 1973 واغتنت بعدما وصل سعر برميل البترول من 7 دولار إلى 40 دولارا؛ فلا داعي للمعايرة والسباب فمصر لها الفضل على الجميع حتى في حروبها.
إن القوى الناعمة هي التي ستبقى في الأمم؛ فمجلة العربي ومجلة عالم الفكر وكتاب عالم المعرفة وغيرهم من روافد الثقافة هم الذين سيبقون في الكويت، أما المال والتكبر به على خلق لله، ونظام الكفالة البغيض، والسباب ضد مصر وللمصريين فإلى زوال، قال تعالى في سورة الرعد: {...فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)}.
إن الخسيس سيظل خسيسا مهما تزين واكتسى بالمال ومتاع الدنيا الزائل، وعندما يغتني الخسيس ويزداد أموالا على أموال فإنه يزداد خسة على خسة؛ لأنه لن يصبر على فتنة المال بسبب معدنه الخسيس والوضيع.
والأصيل سيظل أصيلا مهما اغتنى أو افتقر؛ لأن معدنه نفيس، ويزداد لمعانا على لمعان وخاصة في الشدائد وفي فتنة المال.
[1] https://elcinema.com/work/1844040/ فيلم قاهر الفرسان موقع السينما
[2] أخرجه مسلم،عن أبي هريرة (ض) في كتاب البر والصلة والآداب، باب الأرواح جنود مجندة، رقم: (2638
[3] http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/tabary/sura10-aya14.html انظر لتفسير الطبري لسورة يونس
[4] رواه الإمام أحمد3/385
https://www.alukah.net/sharia/0/77111/#ixzz6PHDIIVo3