العدد السّابق 

الذكريات..الذكريات هي ما تجعلنا بشرا في النّهاية..هي تجعلنا ما نحن عليه الآن.

الذّكريات تمتلك روائح مميّزة..تلك الرّوائح تعمل مثل زناد المسدّس، فور تحسّسنا لرائحة مميّزة داخل أنوفنا تنفجر الذكرى الخاصّة بها داخل وعينا للحظات مخلّفة وراءها سحابة من أحاسيس الحنين إلى الماضي الجميل و الدافئ. إحدى تلك الرّوائح كانت رائحة الأرض بعد تساقط الأمطار...كانت مميّزة بالنّسبة لأحدهم.

كان في سنته الأولى في المدرسة، كان ولدا مختلفا عن بقيّة أترابه، كان يتوتر بسرعة و يخاف أسرع.

في ذلك اليوم الممطر تأخّر والده عن إصطحابه من المدرسة.كان يجلس هناك وحيدا أسفل سقف السّاحة محتميا من قطرات المطر الباردة، محدّقا حينا في السّماء الرّماديّة و حينا في الأرض المليئة بالبرك و حينا آخر في بقيّة الأطفال الذين يأتيهم آبائهم لاصطحابهم سواء على أقدامهم أو في سيّارتهم.

كان يحيك داخل عقله الصّغير سيناريوهات بسيطة تختفي بنفس سرعة مجيئها: ماذا لو كان والده يمتلك سيّارة مثل آباء أولائك الأولاد ؟ هل كان ليأتي بسرعة ؟ ماذا لو ذهب الجميع و بقي لوحده ؟ هل سينام على أرضيّة المدرسة حتّى الصّباح ؟ ماذا لو ظهر وحش ما من وسط الظلام و التهمه ؟ ماذا لو نسيه والداه ؟

مع مرور الوقت تضاءل عدد الأطفال و ازداد تساقط الأمطار قوّة لكن الأسوأ من كلّ ذلك كان توتره الذي بدأ يزداد سوءا مع مرور كلّ ثانية و تساقط كلّ قطرة.

بدأت تلك الأفكار تعتصر قلبه عصرا جاعلة الدّموع الدّافئة تغرق عينيه ببطء ثمّ أتت إحدى عاملات التنظيف جالسة بقربه، كانت في الأربعين من عمرها، ذات أعين سوداء و وجه بشوش، نُقشت على الجبين و أسفل العينين تجاعيد خفيفة لم تستطع أن تطفئ جمال إبتسامتها. ربّتت على كتفه محاولة تهدأته قائلة :

- "لا تقلق..إنّه سيأتي قريبا..إصبر قليلا."

- "لكن..م-ماذا،ردّ الولد ماسحا دموعه بكفّ يده، ماذا لو نسيني ؟"

- "لا لا، أجابته ضاحكة، هو لم ينسك..لا تقلق" 

- "كيف تعرفين ذلك ؟"

- "أنا فقط أعرف..ثق بي" ثمّ أضافت محدّقة في السّماء الرّماديّة :

- "أتعلم ؟..أولائك الذين يصبرون تحدث لهم أشياء جيّدة"

- "حقّا ؟"، قال الولد قافزا من مكانه في فرح.

- " نعم بالتّأكيد"

فجأة ظهر شخص ما مرتديا معطفا أسود طويلا، عندها بدأ قلب الفتى بالخفقان بسرعة شديدة لكن فور إقتراب صاحب المعطف إنطلق نحوه صارخا : "بابا !" و احتضنه. أمسكت اليد السّمراء الكبيرة و الدّافئة يده الصّغيرة الباردة و قبل أن يخرجا من باب المدرسة إلتفت الولد إليها و حرّك يده مودّعا إيّاها بينما ابتسمت هذه الأخيرة هامّة بالوقوف ثمّ اختبأ أسفل المعطف الطّويل بينما عادت هي إلى عملها.

تساقطت قطرات المطر على الأرض فعمّت رائحة مميّزة المكان، عندها ابتسم شابّ ما ماضيا في طريقه.

-النّهاية-