بين أسوار الحديقة العموميّة بمدينة "تيقاسلا"..قالت الشجرة العجوز بعد أن تحلّقت حولها الشّجيرات الصغيرة :

لقد عشت لسنوات طويلة في هذا المتنزّه و ربّما حتّى قبل أن يبنى هذا الأخير إن لم تخني الذاكرة.

لقد شهدت على الكثير من القصص، السّعيدة منها و المحزنة كذلك، لكن لطالما كانت قصص "أبناء المطر" المفضّلة لديّ.

هكذا قمت بتسميتهم، هم أشخاص يحبّون المطر، يجلسون على المقاعد بصمت تخترقه أصوات إرتطام قطرات الماء بالأرض ، بأوراقنا و بكلّ شيء آخر. يراقبون ذلك المشهد، يتأمّلونه، يستمعون إليه، يشتمّون رائحة الأرض و لا يصدر منهم سوى إبتسامة تختفي مع مرور الوقت ثمّ يرحلون و لا يعودون إلى الظّهور  في هذا المكان إلّا عند حلول المطر كأنّه يعيدهم إلى الحياة من جديد.

هذه المرة سأحدثكم عن "فتى النجوم".

لماذا قمت بتسميته هكذا ؟

لأنّه كان يمتلك، رغم صغر سنّه، بعض شعيرات بيضاء تلمع من بين شعره الأسود الكثيف، كأنّه يمتلك سماء أحد ليالي الصّيف الهادئة فوق رأسه و كنت أحسّ بشيء ما بداخله، شيء مختلف عن بقيّة الأولاد الذّين في مثل سنّه.

كان لا يأتي إلا في الأيام الممطرة فقط، يجلس بقربي متّكأً على جذعي، محدّقا بكلّ شيء حوله دون أن ينبس بأيّ كلمة لكنّ عينيه الفضّيّتين كانتا تقولان الكثير.

حسب ما تعلّمته عن البشر، فإنّهم يذهبون إلى شيء يسمونه "المدرسة" بصفة يوميّة تقريبا لكن عند حلول المطر فإنّ ذلك البشري الصّغير يمرّ من هنا و يتوقف عندي...

أتى هنا لأول مرة قبل 7 سنوات في يوم لم تتوقف فيه الأمطار عن الهطول.

جلس بقربي و ثيابه مبتلّة حيث بقي جسده الصّغير يرتجف دون توقف و بدأت الدّموع بالنّزول من عينيه مختلطة بقطرات المطر.

وددت وقتها إحتضانه بأغصاني لكن كما تعرفون يا أبنائي أغصاننا ليست ملكا لنا، لا يمكن لها سوى إتّباع النور فقط.

جلس مرتجفا لبعض الوقت ثم توقف فجأة بعد أن رأى ذلك المشهد...

مرّت تلك السنوات كأنّها أوراق تتساقط من الأغصان خلال فصل الخريف و بقي ذلك الولد يتردّد على هذا المكان عند كل نزول للمطر.

أصبح يأتي مستعدّا، مرتديا معطفه الأصفر الفاقع، حاملا آلة هارمونيكا...

 (لسماع اللّحن إضغط هنا )

بعد أن ينتهي تساقط المطر يتوقّف عن العزف ثمّ يرحل إلى أن يعود المطر من جديد...

لكن في يوم ما...

-"صباح الخير !"، حيّته بصوت مرح فتاة تبدو في مثل سنّه , ذات شعر أحمر ملتهب جعلته على شكل ضفيرة قصيرة و أعين زرقاء زادتا وجهها المنمّش جمالا.

-"ص-صباح الخير"، ردّ فتى النّجوم متردّدا بعد أن توقّف عن العزف.

-"أتعلم أنّ عزفك جميل جدّا ؟" 

لم يعرف كيف يجيبها فصمته الطّويل جعله ضعيفا إجتماعيّا لذا كلّ ما إستطاع قوله هو:

-"إمم..أجل".

جلست بجانبه قائلة:

-"ألن تعيد العزف مجدّدا ؟"

-"آ..أوه..حسنا"، أجابها و قد تورّدت وجنتاه.

عاد للعزف مجدّدا محدّقا في العشب المبتلّ...

منذ ذلك اليوم لم يعد ذلك الفتى وحيدا..عند حلول المطر أصبحا يأتيان معا مؤدّيين طقوس أبناء المطر من عزف و إستنشاق لرائحة الأرض المبتلّة و تحديق بذلك المنظر في صمت مقدّس.

مع مرور الأيّام بدأ الفتى بالتحدّث معها و بدأت تظهر إبتسامة تكافح للظّهور على وجهه...

-"ما الذي يجعلك تحبّ المطر ؟"، سألته ذات الظّفيرة الحمراء.

-"الصّوت و الرّائحة و..."

-"أعلم كلّ هذا لكن ما الذي يجعلك تحبّه حقاّ ؟"

صمت للحظات ثمّ قال:

-"منذ أن توفّيت والدتي كان والدي يخبرني بأن أتوقّف عن البكاء..و عندما بدأ المطر بالتّساقط رأيت السّماء..لقد خطر ببالي أنّ السّماء حزينة كذلك و أنّ قطرات المطر ما هي إلاّ دموعها.."

توقّف للحظات ثمّ نظر نحوها و قد إغرورقت عيناه مكملا :

-"عندها أدركت بأنّني أحبّ المطر لأنّ لا أحد يمكنه أن يعلم بأنّ قطرات المطر التي على وجهي هي دموعي أنا"

-"أنا أحبّه لأنّني أحسّ بأنّ كلّ قطرة تسقط عليّ هي قوّة إرادة الأرواح التي عاشت قبلنا و كأنّهم يحاولون إخبارنا بأن نعيش أقوياء من أجلهم."

كانت ذات الظّفيرة الحمراء فتاة مميّزة حقّا...كُنت أشعر أحيانا بأنّ تلك الفتاة تنظر نحوي ملامسة جذعي كأنّها تحيّيني. لقد إستطاعت بطريقة ما جعله سعيدا على نحو ما.

مرّت الأشهر و لم يتساقط المطر و لو لمرّة واحدة فقط لكن في يوم ما حلّ المطر مجدّدا بقوّة لم أرى لها مثيلا من سنوات، كأنّ السّماء تبكي بحرقة و غضب شديدين.

أتى فتى النّجوم كعادته متشوّقا لرؤية تلك الفتاة.

مرّت السّاعات دون أن تأتي.

تساقط المطر لمدّة أسبوع دون أن تحضر الفتاة فقرّر البحث عنها دون توقّف...لكنّه لم يجدها.

لكن في يوم ما...

بينما كان الفتى يعزف لحنه حزينا أتى رجل سمين ذو شعر أحمر و أعين خضراء قائلا :

-"مرحبا"

فحيّاه الفتى هو الآخر ثمّ قال الرّجل :

-"هل أنت (رين) ؟"

-"نعم أنا هو"

-"لقد أخبرتني (روبين) بأنّني سأجدك هنا..لقد أخبرتني عنك الكثير"

-"مهلا..هل أنت والدها ؟"

-"نعم"

-"عذرا يا سيّدي..هل-هل يمكنك أن تخبرني إلى أين ذهبت كلّ هذا الوقت ؟ "

-"في الحقيقة لقد..."

عندها إزداد صوت المطر قوّة...

لم يستطع (رين) البوح بأيّ كلمة، ظلّ جالسا واضعا رأسه بين ركبتيه و الدّموع تتساقط من عينيه في صمت.

-"لقد مرضت مرضا شديدا ممّا جعلنا نضعها في المشفى، قال الرّجل، صدّقني لقد أرادت حقّا رؤيتك"

-"لِمَ..لِمَ؟!، قال الفتى و هو يقف بصوت حزين مجروح أشبه بالصّراخ، لم كلّ من يقترب منّي يختفي ؟"

فاحتضنه والد (روبين) قائلا :

-"لابأس لابأس..أنا متأكّد أنّها في مكان أفضل الآن"

جلس الوالد و الفتى و ظلّا يتحدّثان عنها..عن جمالها و جمال روحها و إبتسامتها و حبّها للحياة...

بعد أن هدأت روح الفتى همّ الوالد بالرّحيل قائلا :

-"قبل أن تخضع (روبين) للعمليّة جعلتني أعدها بأن أبحث عنك و أخبرك بشيء واحد"

مشى قليلا ثمّ أضاف :

-"لقد طلبت منك أن تتوقّف عن حبّ المطر لسببك أنت..إنّها تريد منك أن تحبّ المطر لنفس سببها هي"

عندها إبتسم مودّعا الوالد ثمّ قال ملامسا جذعي :

-"إذا هي تريد منّي أن أحبّ المطر كي تستطيع قطرات روحها جعلي أعيش قويّا".

-النّهاية-

لقراءة العدد التّالي اضغط هنا.