(1)
قال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9].
هذه هي الآية التاسعة من سورة الحشر، وهي تحكي سيرة قوم صدقوا ما عاهدوا الله تعالى عليه، إيمانًا به وتسليمًا بأمره، وتصديقًا برسوله وخبره، حتى كان من شأنهم أن يتلى فيهم قرآن كريم، وحتى كان من رفعتهم أن أنزل الله تعالى في ثنائهم ذكرًا مسطورًا في الكتاب المبين، وإلى يوم الدين، كيما يكون شارة على كل مثال سامق، وكيما يكون دليلًا على كل خلق حميد.
ولقد كان من شأن خبرهم أن إيمانهم قد أصقلهم بحميد الأخلاق، وأن إسلامهم قد أصبغهم بجميل الشيم وحسن القيم.
وكان من خلقهم ذلكم الإيثار، ولو لم يكن قد بلغ منهم مبلغًا يستحق الثناء، فما أُنزل فيهم قرآنٌ، وما حُكي من خبرهم بيانٌ، لكنها البركة يوم أن ينعم الله تعالى على قوم ممن قد رضي عنهم بلباس الهدى والتقى والعفاف والغنى، تراهم عنوانًا لكل خير، وتحسبهم دليلًا على كل هدى ورشد.
وهذا هو شأن القرآن المجيد يحكي لنا خبرهم، ويقص علينا أمرهم، كيما نكون إذًا مثلهم، أو لنكون إذًا على دربهم سائرين، ومن مَعينهم متضلعين، وبسبيلهم مستمسكين، وفي طريقهم سالكين، فتشرق لنا أنوار الهداية، وتتاح لنا منارات الريادة، ويفسح الله تعالى لنا آفاق السيادة.
وهم أولاء قوم جمعوا كل جميل، حتى لم يتبق من طرقات الخير من سبيل إلا ولجوه، وحتى لم يتركوا لباب من هدي منفذًا إلا دخلوه، كيما يحوزوا الخير كله، دقيقه وجليله، ذلك لأنهم وضعوا نصب أعينهم قول رسولهم صلى الله عليه وسلم: (مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَتِرَ مِنَ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَلْيَفْعَلْ)؛ [صحيح مسلم، كِتَاب الزَّكَاةِ، بَابُ الْحَثِّ عَلَى الصَّدَقَةِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، أَوْ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ، حديث رقم: 1761].
وذلك لأنهم عايشوا ما ورد في صحيح الإمام البخاري رحمه الله تعالى: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ بَلَغَ بِي مِنَ الوَجَعِ وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلاَ يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: لاَ فَقُلْتُ: بِالشَّطْرِ؟ فَقَالَ: لاَ ثُمَّ قَالَ: الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَبِيرٌ - أَوْ كَثِيرٌ - إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ، إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِيِّ امْرَأَتِكَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي؟ قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا صَالِحًا إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً، ثُمَّ لَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ، وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ، اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ، وَلاَ تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، لَكِنِ البَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ)؛ [صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب رثاء النبي صلى الله عليه وسلم سعد ابن خولة، حديث رقم: 1247].
والشاهد قوله صلى الله عليه وسلم لسعد رضي الله تعالى عنه: (وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي؟ قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا صَالِحًا إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً، ثُمَّ لَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ، وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ).
وفيه استجاشة ما في دواخل النفوس من خير، هي في الأصل عليه قد فطرها وليُّها ومولاها، وهو في الأصل استدعاء لدواعي النفع، فيما قد جبلها عليها ربها وأوعاها.
حتى كان من شأنهم أن الخير فيهم جار، كما الدم في عروق الأطهار، وكما المسك هو عبير الأخيار. وإن شئت قلت: هم أهل الإيثار، وإن شئت فقل: إنهم لغيرهم من إخوانهم لغطاء ودثار. وإن شئت قلت: إنهم لفي معزل عن أثرة واستئثار.
بيد أن شارة إيثارهم قد سمت، وغير أن دالة تفضيلهم إخوانهم عليهم قد علت؛ ذلك لأنهم فعلوا ما لم يسطر تاريخ مثلما فعلوا، وذلك لأنهم آثروا بأموالهم أنصافها، لا أقل من ذلك، وذلك لأنهم وكأنهم قد تهادوا بأهليهم، وهو أمر في النفوس عزيز، ولذا كان من شأن فعلهم عزهم، وكان من جميل خلقهم مجدهم، وكان من شيم نفوسهم مدحهم، في قرآن كريم يتلوه التالون إلى يوم الدين؛ قال الله تعالى عنهم فيه: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9].
فهي نعوت متوالية، وهي صفات سامقة متتالية، تشرئب أمامها الأعناق، ويتشوف إليها ذوو الهمم والمروءات.
فهم أولاء قد جاء ذكرهم بالاسم الموصول تقريرًا واهتمامًا وذكرًا وثناءً ومدحة وبرهانًا، على كريم الشيم، ودليلًا على حميد القيم.
وهم قد تبوؤا الدار، فدل على أنهم كلهم قد تحلَّوْا بنفيس من خلق، وهي شارة عز أن يوصف مجتمع بأسره بها، لولا أنها كانت حقًّا لهم جميعًا نعتًا، ولولا أنها كانت فيهم كلهم وصفًا.
فلم يشذ واحد من القوم، وكأنما قد اجتمعوا على أن زينتهم الفضل، وكأنما قد توافقوا على أن شارتهم الإيثار.
ودونك مجتمع هذا شأنه، قد جاء ذكره في كتاب خالد، هكذا قد أوقفنا على السر، وقد أتانا بالبرهان، إذ هم القوم كلهم، وكأنما قد تواتروا على جميل إيثار كلهم، في مقابلة إخوان لهم في الدين، قد جاؤوهم مهاجرين إلى الله تعالى ورسوله.
وكأنما قد كان في لوحه تعالى المحفوظ أن قومًا سيهاجرون إلى الله تعالى ورسوله، سيجدون من يفتح لهم الأبواب، وسيألفون قومًا قد آثروهم بأموالهم وأهليهم، فهو رضا من فوق رضا، وهو فضل من بعد فضل للمهاجرين إلى الله ورسوله، بإغداق إخوانهم عليهم، وفضل من بعد فضل، لإخوانهم الأنصار أن قد تضافروا على ألا حاجة لإخوانهم أمامهم إلا قضوها، وكيف لا وهاهم إخوانهم في الإسلام قد جاؤوا، وكيف لا وهاهم أولياؤهم في الإسلام قد حلُّوا. وكيف لا وهاهم أخلاقهم عالية، وكيف لا وهاهم مناقبهم سامية وهم كلهم قد آثروا، وهم كلهم قد تبوؤا الدار كلها. وهم كلهم قد تبوؤا الإيمان كله. فكان من إيمانهم إيثارهم.
وهي منظومة يَعجِز خيال عن تخيُّلها، لولا أنها جاءت هكذا في الذكر الحميد، ولولا أنها هكذا قد تليت في القرآن الحكيم، فأن يُقدِّم المرءُ غيرَه على نفسه في جَلب النفع له ودفع الضر عنه، فتلك مدحة وإشادة، وأن يكفَّ الإنسان نفسه عن بعض حاجاته، كيما يبذلها لأخيه، فتلك زكاة نفس وسمو مجد، وأن يقدم الإنسان غيره على نفسه في حظ من حظوظه الدُّنيويَّة رغبة فيما عنده تعالى، وهو خير وأبقى، فذلكم إطراء وثناء، وإن ذلك لينشأ أول ما ينشأُ عن قوَّة في اليقين، وعن صدق في المحبَّة، وعن صبر على المشقَّة؛ وكل ذلك مصداق لقوله تعالى: ﴿ لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 92]، كيما يصدق عليهم فعل الأبرار، وهم أولاء المنفقون مما يحبون، لا من حيث لا ترمه قرائحهم، ولا من حيث تعافه نفوسهم، فيجودون بأغلى النفيس، وينفقون مما تحبه ذوات أنفسهم، وتلك شارة أهل الفضل والإحسان، وتلكم علامة ذوي العطاء بلا امتنان.
ومنه فقد نالوا برَّهم، وأدركوا سبل الخيرات، وهاهم يرمقون بأعينهم طريقهم إلى الجنات؛ من حيث قد أنفقوا مما يحبون، ومن حيث قد آثروا بأطيب ما يملكون من أموال وأهلين؛ ذلك لأنه ليس بفاعل فعلهم، إلا من زكت نفسه، وإلا من علت رُوحه إلى آفاق الصالحين والمخبتين والراجين رحمة ربهم وعفوه ورضوانه.
فنفوسهم عالية، وأرواحهم سامقة، وأخلاقهم حميدة، وقلوبهم رحيمة، وخبيئتهم زكية، وظواهرهم ندية، وفي صحيح الإمام مسلم رحمه الله تعالى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ فَقَالَ: أَمَا وَأَبِيكَ لَتُنَبَّأَنَّهُ أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَخْشَى الْفَقْرَ، وَتَأْمُلُ الْبَقَاءَ، وَلَا تُمْهِلَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ، قُلْتَ: لِفُلَانٍ كَذَا، وَلِفُلَانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُالْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِ جَرِيرٍ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ)؛ [صحيح مسلم، كِتَاب الزَّكَاةِ، بَابُ بَيَانِ أَنَّ أَفْضَلَ الصَّدَقَةِ صَدَقَةُ الصَّحِيحِ الشَّحِيحِ: 1787].
وقال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اتَّقُوا الظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ، فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ)؛ [صحيح مسلم، كتاب الْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالْآدَابِ، بَابُ تَحْرِيمِ الظُّلْمِ، حديث رقم: 4803].
ومن حديث الأبرار أنهم بفعلهم الإنفاق مما يحبون كانوا كذلكم أبرارًا، ومن حديثهم أيضًا أنهم بإطعامهم الطعام كانوا بعملهم كذلكم أبرارًا، بيد أن إطعامهم الطعام وهم محبون له، وذلكم شرط الإيثار، وتلكم علامة طيب النفوس، وشارة زكاء الأرواح، وإطعامهم الطعام على حب ذوات أنفسهم له، منضافًا إليه رغبتهم في الأجر والمثوبة من الله تعالى وحده، وليس من أحد سواه، لا في قليل من الأجر، ولا في كثيره، وهي دلالة إخلاص للعبد متناهية في الدلالة، بحيث لا يعوزها دليلٌ آخر يقويه، وبحيث لا حاجة معه لمستند غيره يعضده ويدنيه، ومنه يعلو الإخلاص فوق كل الأمارات، ويسمق التجرد، على سائر العلامات، فرياء لا تعرفه نفوسهم، ونفاق لا يعتري عملًا، ولو واحدًا من أفعالهم، هؤلاء هم الأنصار. فهلَّا اقتدينا بإخواننا الأنصار.
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/140942/#ixzz6Rj9ll6PW