قال الله تعالى ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾. [الأنعام: 45].  

وتحقق ظلم القوم آكد أنهم لم يرجعوا، إلى نور الحق، وضياء الهدى, كما وأنه آكد أنهم لم يفيئوا، إلى سواء الصراط، واستقامة السبيل.

ومنه فقد حقت عليهم كلمة ربك، أنهم لايؤمنون، ومنه فقد حقت عليهم سنته تعالى في الأخذ والنكال وقطع الأدبار والاستئصال.

وعاقل أن يفتح له باب توبة، ولا يتوب، فقد دل بعمله ذاك على طبع على قلبه، وقد أوجب بفعله ذلك على ختم على فؤاده، استحقاقا لمآل الظالمين، ونيلا لعاقبة أمر المدبرين.

إذ كيف يكون ذلكم إصرار، وربه الرحمن سبحانه يناديه سائرأيامه ولياليه، أن يتوب؟!

وهو لا يؤوب!

وتوبة امرئ سبيل دفع عقاب، وإنابة عبد موجب رفع عذاب .

قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عُبَيْدَةَ ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي مُوسَى ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ). [صحيح مسلم، كتاب التَّوْبَةِ، بَابُ قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنَ الذُّنُوبِ وَإِنْ تَكَرَّرَتِ الذُّنُوبُ وَالتَّوْبَةُ،  حديث رقم: 5083].

ذلك لأن الله تعالى رحيم، ومن رحمته أنه تعالى أنه لا يريد عذاب أحد ممن خلق إلا بذنب. كما قال تعالى ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [العكنكبوت:40].

ولذا فبباب التوبة لجميع خلقه لمفتوح، مالم يغرغر عبد، أو أن تطلع الشمس من مغربها.

عن عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال(إنَّ اللهَ يقبلُ توبةَ العبدِ ما لم يُغرغرْ).[ صحيح الترمذي: الصفحة أو الرقم: 3537].

وقال الألباني المحدث رحمه الله تعالى: حسن.

وإذا كان أخذ الظالمين وإذ لم يتوبوا ، وإذا كان قطعهم عن دابرهم فاستأصلوا عن آخرهم، فيفهم منه أيضا أنهم قد استأصلوا من أولهم، كيما لا تبقى لهم باقية!

وعدله تعالى مطلق. إذ لم يتجه عذاب الأخذ والاستئصال إلا للذين ظلموا وحسب، ذلك أن الله تعالى منزه عن حيف، وذلك لأنه تعالى مبرأ من ظلم.

قال الله تعالى ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ (49)

وقال تعالى ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: 46]

وإذ كان من ظلمهم شركهم. إذ ليس كل ظلم موجبا لأخذ، وإذ ليس كل ميل موجبا لاستئصال. فالتعدي على سلطان الله تعالى في الأرض، وإحلال أنظمة  لتشرع شرعا مغايرا أو مخالفا لما شرع الله تعالى في كتابه المبين وقرآنه الحكيم. وأخرى لتحكم بغير ما أنزل الله تعالى، هو ذلكم الظلم الذي يوجب أخذا، وهو ذلكم الخروج الذي يبرر استئصالا.

ومنه فاستؤصل القوم الذين عَتَوا عن ربهم، وكذّبوا رسله، وخالفوا أمره، من أولهم وعن آخرهم, فلم يترك منهم أحد إلا أهلك بغتةً إذ جاءهم عذابه . وإذ قد حل بهم انتقامه - سبحانه -.

بيد أن لطيفة يشير إليها نص الذكر الحكيم، إذ لما قال الله تعالى ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾، فدل على استئصال القوم من أصلهم بحيث لم يتبق منهم أحد، وبحيث لم يترك منه فرد لا والد ولا ولد !

وهو كناية عن عظيم ظلم ارتكبوه، وهو كاشف عن عمومهم في ارتكاب ذلكم الظلم واجتماعهم عليه! حتى كان من أخذ لهم أجمعين، تطهيرا للأرض من مثل أولاء قوم ظلموا أنفسهم بشركهم، وعتوا عن أمر ربهم بظلمهم.

وإذا كان قطعهم من دابر يعني استئصالا جامعا شاملا لأجمعهم.

وهذه واحدة.

فإنه يعني انقطاع نسلهم، لأنهم شرذمة فاسدة مفسدة، ولسوف لا يتأتى من أصلابهم إلا من كان على شاكلتهم، أو هكذا يبدو لي من ظاهر قوله تعالى(فَقُطِعَ دَابِرُ)، ولأنه شيء طبيعي، ونتاج طبعي لمقتضى الأخذ الكلي، ولعامل الاستئصال الجمعي، إذ لم يتبق من أحد  يتناسلون، وإذ لم يترك منه أحد يتكاثرون!

وهذه ثانيتها.

وكلٌ من دلالات الذكر الحكيم ولطائفه، وتلك من إعجازاته ونكاته.

قال تعالى ﴿ واتَّبِع أدبارهم ﴾. [الحجر: 65].

وقال تعالى﴿ أنّ دابر هؤلاء مَقطوع مصبحين ﴾. [الحجر: 66].

قال الإمام أبو داود رحمه الله تعالى(حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ قَالَ : نا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ ، قَالَ : نا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَ هْدِيٍّ الْمَعْنَى قَالَ : سَمِعْتُ سُفْيَانَ بْنَ سَعِيدٍ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ ، عَنْ نَاسٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ، أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ : أَصْدَقُ الْحَدِيثِ كَلَامُ اللَّهِ ، وَأَوْثَقُ الْعُرَى كَلِمَةُ التَّقْوَى ، وَخَيْرُ الْمِلَلِ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ ، وَأَحْسَنُ الْقَصَصِ هَذَا الْقُرْآنُ ، وَأَحْسَنُ السُّنَنِ سُنَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَشْرَفُ الْحَدِيثِ ذِكْرُ اللَّهِ ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ عَزَائِمُهَا ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا ، وَأَحْسَنُ الْهَدْي هَدْي الْأَنْبِيَاءِ ، وَأَشْرَفُ الْمَوْتِ مَوْتُ الشُّهَدَاءِ ، وَأَعْمَى الضَّلَالَةِ الضَّلَالَةُ بَعْدَ الْهُدَى ، وَخَيْرُ الْعِلْمِ مَا نَفَعَ , وَخَيْرُ الْهَدْي مَا تُبِعَ ، وَشَرُّ الْعَمَى عَمَى الْقَلْبِ ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى ، وَمَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى ، نَفْسٌ تُنْجِيهَا خَيْرٌ مِنْ إِمَارَةٍ لَا تُحْصِيهَا ، وَشَرُّ الْعُزْلَةِ عِنْدَ حَضْرَةِ الْمَوْتِ , وَشَرُّ النَّدَامَةِ نَدَامَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَأْتِي الصَّلَاةَ إِلَّا دُبُرًا ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَذْكُرُ اللَّهَ إِلَّا مُهَاجِرًا ، وَأَعْظَمُ الْخَطَايَا اللِّسَانُ الْكَذُوبُ ، وَخَيْرُ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ ، وَخَيْرُ الزَّادِ التَّقْوَى ، وَرَأْسُ الْحِكْمَةِ مَخَافَةُ اللَّهِ ، وَخَيْرُ مَا أُلْقِيَ فِي الْقَلْبِ الْيَقِينُ قَالَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ : التَقَاهُ كَانَ الْيَقِينُ . وَالرِّيَبُ كَذَا قَالَ ابْنُ بَشَّارٍ مِنَ الْكُفْرِ ، وَالنَّوْحُ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ ، وَالْغُلُولُ مِنْ جَمْرِ جَهَنَّمَ ، وَالْكَنْزُ كَيُّ مِنَ النَّارِ ، وَالشِّعْرُ مَزَامِيرُ إِبْلِيسَ ، وَالْخَمْرُ جِمَاعُ الْإِثْمِ ، وَالنِّسَاءُ حَبَائِلُ الشَّيْطَانِ ، وَالشَّبَابُ شُعْلَةٌ مِنَ الْجُنُونِ ، وَشَرُّ الْمَكَاسِبِ كَسْبُ الرِّبَا ، وَشَرُّ الْمَآكِلِ أَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَالسَّعِيدُ مَنْ وَعِظَ بِغَيْرِهِ ، وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ ، وَيَكْفِي أَحَدَكُمْ مَا قَنَعَتْ نَفْسُهُ ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ إِلَى مَوْضِعِ أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ , وَالْأُمُورُ بِآخِرِهَا , وَأَمْلَكُ الْعَمَلِ خَوَاتِمُهُ ، وَشَرُّ الرَّوَايَا رَوَايَا الْكَذِبِ ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ ، وَسِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ ، وَأَكْلُ لَحْمِهِ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ ، وَحُرْمَةُ مَالِهِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ ، وَمَنْ يَتَأَلَّى عَلَى اللَّهِ يُكَذِّبْهُ ، وَمَنْ يَغْفِرْ يَغْفِرِ اللَّهُ لَهُ ، وَمَنْ يَعْفُ يَعْفُ اللَّهُ عَنْهُ ، وَمَنْ يَكْظِمِ الْغَيْظَ يَأْجُرْهُ اللَّهُ ، وَمَنْ يَصْبِرْ عَلَى الرَّزَايَا يَعْقُبْهُ اللَّهُ ، وَمَنْ يَعْرِفِ الْبَلَاءَ يَصْبِرْ عَلَيْهِ ، وَمَنْ لَا يَعْرِفْهُ يُنْكِرْهُ ، وَمَنْ يَسْتَكْبِرْ يَضَعْهُ اللَّهُ ، وَمَنْ يَبْتَغِ السُّمْعَةَ يُسَمِّعِ اللَّهُ بِهِ ، وَمَنْ يَنْوِي الدُّنْيَا تُعْجِزْهُ وَقَالَ : عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ : يَعْجَزْ عَنْهَا وَمَنْ يُطِعِ الشَّيْطَانَ يَعْصِ اللَّهَ ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ يُعَذِّبْهُ . قَالَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ : أَصْدَقُ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ ، وَأَوْثَقُ الْعُرْي كَلِمَةُ اللَّهِ . وَقَالَ : عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ : نَا سُفْيَانُ قَالَ : عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ قَالَ : حَدَّثَنِي نَاسٌ ، عَنْ عَبْدِ اللَّه) . [الزهد لأبي داود مِنْ خَبَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ :160].

 وأورده مجد الدين المبارك بن محمد/ابن الأثير الجزري، في النهاية في غريب الحديث والأثر. [ج2/92].

والشاهد قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَأْتِي الصَّلَاةَ إِلَّا دُبُرًا) أي في آخر الوقت .فدل علن أن الدابر هو الأخير من الشيء.

والمعنى هنا قطع خلفهم من نسلهم وغيرهم، فلم تبق لهم باقية.

ومنه التدبير لأنه إحكام عواقب الأمور .