د. علي بانافع
منذ بداية العصور الحديثة وأوروبا في تحرك مستمر، بدأً من اختراع الطباعة فالثورة الصناعية، فالرأسمالية كتطور اجتماعي من الإقطاع إلى البرجوازية إلى الرأسمالية، إلى ظهور القوميات اللادينية والحريات الليبرالية، وبالتالي ضعف الدين ومحاربته، ستة قرون من التطورات المستمرة التي شكلت أوروبا، انتهت بعد صراعات مستمرة إلى انقسامات وحروب طاحنة أزهقت الملايين من البشر، لكن أوروبا منذ عصر النهضة تصدرت وتسيدت العالم قوة وعلما وصناعة، في الوقت ذاته كانت الدولة العثمانية تتراجع يوماً بعد يوم في قوتها وجيشها وعقيدتها، وجمودها وعدم تطورها، فلا حركة صناعية، ولا تغيرات فكرية بل جمود وخرافة وتصوف وفقر وجهل ومرض، لذا من الطبيعي أن يدب التأثر في المسلمين بأوروبا إعجاباً وتقليداً.
لذلك بدأ ظهور حركات تحررية في البلاد التي كانت تخضع للدولة العثمانية متأثرة بالغرب، في الحريات ونظام الحياة والفصل بين الدين والحياة، فضلاً عن الفصل بين الدين والدولة، والدين في ذلك الزمان تقوده التوجهات الصوفية المنحرفة، فالغرب بماديته وتركه للدين، وبلادنا وأُمتنا بين والدجل والكسل الصوفي، لذلك من الطبيعي جداً أن تظهر بوادر تأثر بالغرب سواء في نظام الحياة ونظام الحكم، حيث لم يكن يمثل الإسلام إلا مجموعة جامدة لا تستطيع الوقوف أمام سيل الأفكار الغربية والتجربة الناجحة من التقدم والحضارة المادية، لذلك كان عملية إعادة النظر في الأفكار الإسلامية المطروحة في الساحة، فظهرت حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية وخشيت منها الدولة العثمانية، وكانت النواة الأولى للتأثير في إجراء إصلاح شامل في جميع شؤون الحياة للتخلص من حالة الجمود والتأخر عن بقية الأمم، لذلك عندما سقطت الدولة العثمانية نشأت دولنا متأثرة بالغرب فالنموذج العثماني أصبح لا يُحتذى به -وإن عارضت هذه التغيرات الدين- وأصبحت هذه الدول على تفاوت بينها تحذو أن تُكَوِنَ جيلاً يؤمن بالإسلام كتراث ويؤمن بالفكر الغربي كنموذج للحياة.
عندما ظهرت الرأسمالية بعد الثورة الصناعية ورغبتها الاستعمارية، وظهرت الإمبرالية في الغرب، ظهر ما يعاكسها ويكشف عيوبها وزيف أفكارها، فظهرت الاشتراكية الخيالية ثم الاشتراكية العلمية، وحصل جدل كبير في أوروبا وصراع، وتحول جزء من الغرب يتبنى هذا الفكر الذي تُوج بالثورة البلشفية في روسيا وظهور الحركة الشيوعية، وكان لهذا الأمر تأثيراً على عالمنا العربي والإسلامي الذي لم يأخذ ما ينفعه من الغرب بل نُقلت التجربة برمتها تقريباً، وتبنت أغلب الحركات القومية الفكرة القومية بشكلها الأجنبي كحزب البعث العربي الاشتراكي والحركة الناصرية، وظهرت الحركة الطورانية في تركيا، وفي إيران قاد رضا بهلوي الحركة القومية الإيرانية.
من جهة أخرى أصبح تبني العلمانية أمراً مألوفاً في دولنا العربية والإسلامية، ولم يكتفى بذلك بل انعكس الصراع بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي في أوروبا وأمريكا علينا نحن كذلك، وانتقل الصراع لا سيما بعد أن أصبحت شعوبنا ونخبها متأثرة بالرأسمالية وأخرى بالاشتراكية، لكن الغرب بعد سقوط الخلافة العثمانية كان ينظر إلينا كدول تابعة له مستعمرة بشكل مباشر أو شبه مباشر، أي لم تكن لنا سيادة حقيقة بل منقوصة بشكل كبير، لذلك أصبحت التنافس الغربي بين المعسكرين على أرضنا، وظهر ذلك بشكل جلي بعد الحرب العالمية الثانية عندما خرج الروس منتصرين محاولين التمدد بالفكر الشيوعي داخل البلاد العربية الإسلامية، مما جعل الغرب يخشى ذلك من استغلال الشيوعية للأوضاع المتردية اقتصادياً وثقافياً في بلداننا وفي بلدان أوروبا بعد خرابها في الحربين الأولى والثانية، لذلك أُسس مشروع مارشال لذلك، كان الغرب يسعى لدعم وجود الحركات الإسلامية كي تواجه المد الشيوعي، وكانت الدول العربية والإسلامية ذات المد الجمهوري والقومي تحارب الحركات الإسلامية وتعتبرها رجعية تأثراً بالفكر الغربي عموماً عندما واجه الكنيسة، أو تعتبرها حليفة للغرب في مواجهة المد الشيوعي الاشتراكي التحرري من الإمبريالية، لذلك تسمع كثير من التهم من قبل الأحزاب الاشتراكية والقومية للتوجهات الإسلامية بالعمالة للغرب، وكان هذا أثناء الحرب الباردة وقبل سقوط الشيوعية، ولم يكن الغرب وقتها يخشى إلا من الحركات الإسلامية كقوة، لكن الأمور لم تستمر هكذا فالمشروع القومي العربي بدأ بالتحطم بعد نكسة 1967م، وقُضي عليه بغزو العراق للكويت 1990م، وإثر انهيار وسقوط المعسكر الشرقي وضعف المد الشيوعي، أصبحت للحركات الإسلامية وجود مميز وعلاقة من نوع خاص بينها والغرب، وهذا موضوع آخر مختلف يقودنا إلى مواضيع أخرى شتى وكثيرة ..