أنا لا أذكر الكثير ممّا حدث في تلك اللّيلة...لقد حدث كلّ شيء بسرعة. كلّ ما أذكره هو وجهها...لقد..لقد كان أجمل وجه رأيته طوال حياتي...
أوه! انتظر، أنت لم تفهم أيّ شيء ؟ معك حق.
لطالما أخبرني أصدقائي أنّني أسوء راوِ قصص على الإطلاق. سأحاول أن أبدأ هذه القصّة على نحو جيّد لذا عليّ أوّلا أن أعرّفك بنفسي..أنا..أنا نكرة..أنا لست فردا من "مجتمعك" فأمثالي لا يعيشون بقواعدكم.
"النّاجحون" في مجتمعكم يعيشون أسفل ضوء النّهار باحثين عن القوّة و التي هي بالنّسبة لكم تتمثّل في المال و السّلطة.
في الجهة الأخرى..هناك نحن، "الفشلة" الذين يعيشون في ظلام اللّيل حيث يحتضننا الشّارع، إنّه أرضنا المقدّسة التي لم و لن تعلموا بها طالما أنتم تعيشون داخل فقّاعة مجتمعكم و إن كنت تتساءل فيم تتمثّل القوّة بالنّسبة لنا فالجواب سيكون في القوّة نفسها مثل ما كانت قبل آلاف السنين..نقيّة بدون أيّ فلسفة أو تعقيد.
دعنا من كلّ هذا الآن و لنبدأ هذه القصّة..لقد حدثت في ليلة ممطرة سنة 1997 على ما أظنّ...
كنت هاربا من قتال ما في أحد الأزقّة و يمكنك تسميته بالهروب التّكتيكيّ نظرا لسماعي لصوت صافرات الشّرطة.
في ذلك الوقت اشتدّت الأمطار و لم أجد أيّ مكان أحتمي منه من لسعات الماء الباردة سوى مبنى قديم (بدا لي مهجورا وقتها) محشور بين مبنيين حكوميّين. لم أجد وقتا لأتثبّت من ماهيّة ذلك المبنى جيّدا لذا دخلت إلى هناك مباشرة، ظللت أتمشّى داخل رواق مظلم لعدّة لحظات مخلّفا ورائي بركا صغيرة إلى أن عثرت على ضوء ضعيف يصدر من باب خشبيّ عملاق و مع اقترابي منه بدأت أسمع صوتا لم يسبق لي سماعه على الإطلاق، صوتا يجمع بين العديد من الأصوات البشريّة المختلفة و المتناغمة على متن إيقاع واحد.
(لسماع الصّوت إضغط هنا)
دفعت الباب ببطء فأصدر صريرا صاخبا بينما منعني الضّوء الباهر من الرّؤية للحظات ممّا جعلني أضع ظهر يدي فوق عينيّ على الفور ثمّ بدأتُ باختلاس النّظر ببطء حتّى ظهر أمامي ذلك المشهد لأوّل مرّة.
لقد كانت هي، أجمل وجه رأيته طوال حياتي..لن أستطيع أن أصفها لك سوى كونها أجمل وجه في الكون بأسره. ظللت أنظر إليها دون حراك غير مدرك لوجود أشخاص آخرين بجانبها بل حتّى أنّني لم أدرك ماهيّة ذلك المكان أصلا، كأنّ العالم قد حلّت به عاصفة كونيّة ما جعلته يختفي تاركا إيّاي معها، وحيدين في الفراغ.
كنتُ غارقا في تفاصيل ذلك الوجه بعيونه الرّماديّة و بشرته الشّاحبة بينما بدأت هي بالاقتراب منّي ببطء حتّى وصلت بالقرب منّي على بعد عدّة أقدام فلاحظتُ قلادة فضيّة تلمع على صدرها و قبل أن أستطيع إدراك ما تقوله بدأ إحساس غريب (يجمع بين الغثيان و التّنميل) بالإنبعاث من كلّ مكان في جسدي فركعت على الأرض محدّقا بالسجّاد الذي تلوّن بقطرات دماء حديثة العهد ثمّ أدركت أنّ تلك الدّماء كانت تصدر من جرح في جانبي الأيسر فوضعت تلقائيّا يدي على الجرح لكنّ الأوان كان قد فات فقد اختفت الأصوات من رأسي و غرق العالم في الظّلام...إن كنت تتوقّع منّي بأنّني سأخبرك بأنّني حلمت بشخص أو بشيء ما من الماورائيّات أنا آسف فلم أحلم بأيّ شي من ذلك، كنت غارقا في الظّلام و حسب.
بدأت بفتح عينيّ ببطء محاولا رفع الجزء العلويّ من جسدي إلى أن لسعتني إصابتي مجبرة إيّاي أن أعود إلى التمدّد ثمّ أدركت أنّ جرحي قد تمّ تقطيبه و تضميده جيّدا.
جُلت بنظري في المكان لأجد نفسي على سرير قديم داخل غرفة بحيطان حجريّة و نافذة في الجدار المقابل لي، يصدر منها شعاع شمس صباحيّ يلامس نهاية السّرير حيث وُضعت سترتي الجّلديّة هناك.
ظللت أنظر إلى السّقف محاولا مراجعة ما حدث في اللّيلة السّابقة ثمّ لمعت في ذهني ذكرى ذلك القتال حيث هاجمني الخصم بسكّينه فأصابني في جانبي.
"تبّا، قلت في نفسي، كيف لي أن أنسى أمر تلك الإصابة ؟ يالني من أبله ؟..و الآن أين أنا ؟ عليّ الذّهاب من هذا المكان ؟"
-" أوه !..يبدو أنّك أفقت أخيرا، قال صوت أنثويّ ما تميّز يايقاع هادئ يحمل بين نوتاته بحّة خفيفة، فلنحمد الرّب على سلامتك."
-" ماذا ؟ من هناك ؟"، أجبت ملتفتا إلى جانبي لأجدها هي جالسة على كرسيّ خشبيّ على بعد عدّة سنتيمترات منّي، واضعة بين يديها كتابا ما.
كانت ترتدي بلوزة بيضاء مع تنّورة قرمزيّة ثمّ انتبهت إلى قلادتها الفضيّة فصرخت في نفسي : "هل هذا صليب؟!..انتظر لحظة، ذلك المبنى القديم..هل هو كنيسة؟! أين أنا؟ هل يمكن أن تكون هذه الغرفة أسفل مبنى الكنيسة؟"
- " هل تستطيع سماعي؟، قالت الفتاة واقفة ثمّ تقدّمت نحوي تاركة الكتاب فوق الكرسيّ، هل أنت بخير؟"
- " أنا..نعم أنا بخير..أشكرك على صنيعك هذا ..أنا آسف على إزعاجكم عليّ أن.."، أجبتها رافعا الغطاء عنّي ثمّ نهضت متحمّلا لسعات إصابتي و التقطت سترتي فاتحا الباب لكنّها أوقفتني قائلة :
- " هيّا عُد إلى السّرير حالا ! إصابتك لم تُشفى بعد"
لم أصغي إليها و أكملت طريقي متجاوزا الباب و فجأة سمعت سعالا حادّا جعلني أتوقّف عن المشي فورا فعدت إلى الغرفة من جديد لأجدها راكعة على الأرض واضعة منديلا على فمها. ساعدتها على الوقوف ثمّ أجلستها على الكرسيّ بينما أعادت هي ظهرها إلى الوراء متّئكة على الحائط محاولة التّنفّس ببطء لكن فور رؤيتي لذلك المنديل حدثت صاعقة داخل رأسي، لقد كان مبلّلا بالدّماء.
بعد أن هدأت أنفاسها خرجنا من الغرفة بحثا عن مكان نستطيع أن نتنفّس فيه جيّدا. مررنا بالعديد من الممرّات المفتوحة على العشرات من الغرف إلى أن عثرت على باب عند نهاية درج يودي إلى شرفة تطلّ على الحديقة العموميّة حيث بدأت قطرات المطر بالتّساقط لتوّها.
ظللنا صامتين لعدّة دقائق دون أن نتكلّم و كم طالت تلك الدقائق و كم شعرت بالضّجر وقتها قائلا في نفسي : "ما الذي عليّ فعله الآن ؟ أنا في مكان لا يمكنني أن أنتمي إليه مع شخص لا أعرف عنه شيئا..هل عليّ أن أتركها هنا و أرحل قبل أن يزداد الموقف تعقيدا أم ماذا ؟"
عليك أن تعلم شيئا مهمّا عنّي..في ما يتعلّق بأمور الحديث و خاصّة إفتتاحه أنا الأسوء و زد على ذلك أنّ الشّخص الذي عليّ أن أحدّثه هو أًنثى لذلك سيحمل هذا الموقف رقما قياسيّا في الغباء عمّا قريب.
تذكّرت فجأة علبة السّجائر في جيب سترتي فقرّرت سحب سيجارة و تدخينها لإستعمالها على شكل تكتيك هروب من بدأ المحادثة لكن فور ملامستي للعلبة سقطت صاعقة ثانية على رأسي قائلا في نفسي:" ما الذي أفعله؟! الفتاة كانت تسعل دما قبل قليل و أتت إلى هنا من أجل بعض الهواء المنعش و أنا أهمّ بالتّدخين؟! حقّا هذا هو الغباء بعينه!" .
في النّهاية قرّرت إستجماع شجاعتي و بدأ الحديث محاولا الحفاظ على رباطة جأشي:
- " إذا..هل أنتِ بخير ؟" ثمّ صرخت في نفسي قائلا : "يا إلهي ! ما هذا السؤال الغبيّ ؟! بالطّبع هي ليست بخير !"
- " نعم..أنا بخير"، ردّت دون أن تلتفت إليّ.
- " أنا محمود بالمناسبة"، قلتُ لها مادّا يدي للمصافحة بينما كنت أقوم بجلد نفسي قائلا: "ما هذه المقدّمة ؟ هل نحن في المدرسة أو ما شابه ؟!"
- " أنا زينب"، ردّت مصافحة إيّاي و أيّ مصافحة كانت تلك، تلك اليد كانت أخفّ و أنحف و أنعم يد لامستها في حياتي حتّى أنّني حاولت أن أصافحها بأرقّ ما يمكن خوفا من أن أقوم بسحقها. كأنّ تلك اليد صنعت من زجاج مجوّف.
- " زينب ؟"
- " نعم، ردّت مبتسمة، والداي مسيحيّان لكنّهما أرادا أن يتأقلم إسمي مع بقيّة سكّان هذا المكان كما أنّ أبي يحبّ شجر الزّينب هل سمعت به من قبل ؟"
- " أنا..أجل لقد سمعت به"، أجبتها قائلا في نفسي : "لقد كان تجاوبها سريعا بالنّسبة لحديث بين شخصين غريبين" ثمّ أضفت:
- " إنّه جميل و طيّب الرّائحة أليس كذلك ؟"
- " نعم..هذا صحيح"، ردّت بابتسامة دافئة.
عدنا للصّمت من جديد ثمّ تجرّأتُ بالسّؤال قائلا :
- " إسمعي..أنا أريد أن أسألك سؤالا -و إن كان هذا ليس من شأني- هل أنت.."
- " سرطان الرّئة، قاطعتني معتصرة المنديل بأطراف أصابعها، المرحلة الثّانية"
- " و هل هو..أعني..هل هو في مرحلة خطرة ؟"
- " لا"، أجابتني بعد أن وقفت محدّقة في الفراغ ثمّ استدارت هامّة بالرّحيل مكملة:
- " يمكنك الذّهاب الآن..أنا بخير"
- " آ..انتظري..أنا لم أقصد أن.."
- " لابأس..أنا متقبّلة للأمر، أجابتني دون أن تستدير نحوي، أنا..أنا.."
اختنقت الكلمات بين دموعها فلم تستطع الخروج فوقفت متقدّما نحوها ثمّ وضعت يدي على كتفها.
هكذا بدأت قصّتي معها..شخص غير متوقّع يتعرّف بشخص آخر غير متوقّع في مكان و زمان أبعد ما يكون عن المتوقّع. أظنّ أنّ هذا ما يسمّى بأحجية الحياة.
صرنا نجتمع في الحديقة العموميّة مرّة أو مرّتين في الأسبوع بحجّة تفقّد ضمّاداتي فلقد علمت في ما بعد أنّها كانت تعمل ممرّضة بمستشفى المدينة قبل أن...
كنّا نجلس على إحدى المقاعد، نتحدّث في كلّ شيء و لاشيء، نصمت لثوان محدّقين بتفاصيل العالم و أحيانا نختلس النّظر للفوز بنظرة -و إن كان ذلك لثوان معدودة فقط- إلى وجوه بعضنا.
كانت تسألني أحيانا عمّا حدث لوجهي من جروح و كدمات فأحاول خلق عذر سخيف كي نبتعد عن مثل تلك المواضيع فهي لن تستطيع فهم الأمر أبدا، كلانا يعيشان في عوالم مختلفة و هذا المكان (الحديقة العموميّة) هو مجرّد نقطة مشتركة بين هذين العالمين، بين أرضي المقدّسة الغارقة في ظلام اللّيل و فقّاعة المجتمع "النّاجح" أسفل شعاع الشّمس.
مع مرور الأيّام، ازداد وجهها شحوبا و بدأت ملابسها تزداد إتساعا على جسدها الضّعيف لكن مع ذلك ظلّت جميلة، ظلّت إبتسامتها دافئة.
في إحدى المرّات انقلب الطّقس بسرعة هائلة و تساقطت الأمطار بغزارة فهربنا نحو شجرة عجوز في الحديقة، محتمين أسفل أغصانها وسط جوّ من الضّحك و البلل.
هناك حدث شيء ما، أنا لا أعرف، حرارة تنبع من قلب معدتك و تنتشر في بقيّة أجزاء جسدك، أنا فقط أحسست بأنّ عليّ أن أحتضنها بقوّة فقط و لحسن الحظّ هي لم تصفعني بل تقبّلت الأمر دون أن تقول أيّ شيء.
بعد مدّة من الجلوس في صمت، أحسست بشيء بارد يلامس كفّ يدي ببطء و دون أن ألتفت لأنظر ما بيدي ضغطت عليه فقط كأنّني كنت خائفا من أن يتسلّل و يهرب من يدي، ذلك الشيء كان يدها التي بدأت الحياة تنسلّ منها ببطء.
فور إنتهاء المطر قررنا الذّهاب ليعود كلّ واحد منّا إلى عالمه لكنّها أوقفتني للحظات مقدّمة لي قلادتها الفضيّة. رفضتُ أخذها عشرات المرّات قائلا:
-" أنا لستُ.."
لكنّها ظلّت تلحّ عليّ لمئات مقاطعة:
- "و من يهتمّ في ما تمثّله هذه القلادة لبقيّة العالم؟! أنا أريد أن يظلّ جزء منّي معك..هذا ما ستمثّله لنا وحدنا فقط"
لا يمكنني إنكار كيف نزلت دموعي فور قولها لتلك الكلمات، الدّموع التي لم تنزل منذ سنوات أو بالأحرى ذلك النّوع من الدّموع الذي لم ينزل مثلها أبدا، النّوع الذي يحدث عندما تخاف أن يحدث شيء ما سيّء لشخص آخر غير نفسك.
في النّهاية، وجدت تلك القلادة مسكنا جديدا حول عنقي.
عُدت إلى أرضي المقدّسة لكن هذه المرّة مع جزء من عالمها، يمدّني بالقوّة للنّجاة، فقط من أجلها...
أصبحت لكماتي أقوى من أيّ وقت مضى..صرنا نلتقي كلّ يوم و لا يفرّق بيننا سوى ساعات النّوم و جلساتها في المستشفى و التي كنت أذهب لأراقبها من الجانب الآخر للشّارع -دون أن تدري ذلك- ريثما تنتهي هي رفقة أمّها و تعودا معا إلى المنزل.
بعد سنة..ظلّ كلّ شيء كما هو تقريبا إلى أن قرّرت هي تعريفي لوالديها، بالطّبع رفضت في البداية لكنّها إستطاعت بطريقة ما جرّي إلى لقائهما و كان في الحقيقة -و على غير المتوقّع- لقاءا جيّدا، كانا شخصين طيّبين.
بعد عدّة أشهر وجدت نفسي متزوّجا، نعم، محمود المشهور بعدم قدرته على الحديث مع النّساء و الذي توقّع له الجميع -حتّى والدته- بالزّواج في سنّ الأربعين أو منتصفها (هذا إن نوى الزّواج أصلا) تزوّج من أجمل إمرأة في الكون بأسره، في سنّ السّابعة و العشرين خلال منتصف الرّبيع، أسفل تلك الشّجرة العجوز بحضور بعض أفراد العائلة و الأصدقاء.
إن أخبرني أحدهم هذه القصّة قبل سنة لم أكن لأصدّق سطرا واحدا منها. منذ ذلك اليوم الذي إلتقيت فيه بها تغيّر شيء ما بداخلي دون أن أعي بذلك..إلى أن أدركت ذلك في يوما ما فيما بعد، لقد أصبحت..إنسانا.
إنقطعتُ عن أرضي المقدّسة و بدأت بالسّير أسفل ضوء الصّباح بنسماته الباردة المنعشة..و كلّ هذا فقط من أجل شخص أحببته أكثر من نفسي، شخص جعلني أشعر بالخوف من فقدانه في أيّ لحظة، جعلني أستمتع بكلّ لحظة في الحياة معه..ذلك الشّخص ربّما لم يعد هنا، على أرض "فقّاعة المجتمع" أو على أرضي المقدّسة لكنّني أؤمن بأنّه في مكان ما أفضل بكثير.
لازلت أشعر بالوحدة أحيانا بعد كلّ هذه السّنوات لكنّ هذه الوحدة سرعان ما تتبدّد بفضل أربعة : المطر الذي جعلني ألتقي بها، قلادتها، إبنتنا التي تحمل كلّ تفاصيلها و إيماني بلقائها مجدّدا.