أحد روايات أصل اسم فلسطين هي أنها تعود على المهاجرين من جزيرة كريت اليونانيه بعد أن حاولوا غزو مصر، لكن رمسيس الثالث تصدى لهم في معركة دلتا النيل.رمسيس اتفق معهم أن يستوطنوا منطقة جنوب فلسطين تسمى بلست،  ومن هنا جاءت تسميت الشعب الساكن للمنطقة بالبلستينيين. اختلط نسب الكريتيين هناك بالكنعانيين اثر الإحتكاك المباشر و اصبحوا شعب واحد, هو الشعب الفلسطيني اليوم.

Image title
صوره من معركه رمسيس مع الكريتيين و شعوب البحر الاخرى


أعتذر على العنوان المضلل لكن إرتباط الكريتيين بالكنعانين ليس محور الحديث هنا، إنما سؤال مقالنا هذا هو:  ما هي كريت؟ و ما هي أهميتها في التاريخ البشري؟ إن كانت هذه الأسئلة تثير فضولك الآن فسأحاول أن أقدم لك نبذة بسيطة عن هذه الحضارة.

آمل أن جوابي لسؤال هذا المقال سيلهم عشاق السياحة و المهتمين بالتاريخ أن اليونان ليست عبارة عن شخص مفتول العضلات يركل كل من يخالفه للهاوية صارخا "THIS IS SPARTA". أخي السائح هدفي في هذا المقال أن أنجح بإقناعك بأن تضيف هذه الجزيرة العريقة لقائمة المزارات السياحية إذا قررت السفر لليونان.

هنريك شليمان (Heinrich Schliemann)، تاجر ألماني مهتم بالآثار هو مكتشف مايسيني(Mycenae) المدينة المحورية في الروايات الشعرية لؤمر(Homer). وفقط لأضعك في الصورة، شعر أومر بالنسبة لليونانيين الأوائل، مع فارق التشبيه، كما القرآن لنا كمسلمين أو الأنجيل للمسيحيين أو العهد القديم لليهود، أو .. خلاص وصلت الصورة. كُتب أومر تحوي قصص الأبطال الأولين بالنسبة ليونانيي العصر الكلاسيكي(القرن الرابع قبل الميلاد)، من هؤلاء الأبطال بطل يدعى أوديسيس(Odysseus). في حوار بين أوديسيس و زوجته قال أوديسيس : "هناك في البحر العميق المعتم توجد أرض تدعى كريت، أرض جميلة  و غنية محاطة بالبحر من كل جانب. هذه الأرض تضم تسعين مدينة، منهم مدينة تدعى كونوسوس يحكمها الملك مينوس الذي ينعم بعلاقة ممتازة مع جلالته زيوس ". هذه الإشارة و الإشادة من أوديسيس كانت كفيلة لتدفع شليمان ليتوجه لهذه الجزيرة لينقب فيها و يبحث عن بقايا قصر مينوس. البحث عن القصر بالذات لم يكن قرارًا عشوائي فالأركيولوجيون(علماء الآثار) يعلمون أن أي حضارة قارئة لابد أن تحتفظ بألواح مكتوبة في القصر، و إيجاد مادة مكتوبة سيعطي الكثير من الدلائل عن تلك الحضارة.  قرر شليمان أن يستعين نفس النهج الذي ساعده باكتشاف مايسيني من قبل وهو الاستعانة بنصوص شعر أومر لإيجاد مفاتيح تساعده على اختيار أماكن التنقيب. شليمان اختار المكان المناسب للتنقيب غير أن إصدار تصاريح للتنقيب كانت من أصعب العواقب، لكن لحسن الحظ كون شليمان رجل أعمال ثري كان نعمة عليه لأنه باستطاعته شراء أرض موقع البحث. مالك، أو ملاك, الأراضي المعنية قدَّروا أن أشجار الزيتون في تلك الأرض لابد أن تُسعَّر. فعلا أتفق شليمان على مبلغ للأرض بما فيها من أشجار زيتون و في هذه المرة كون شليمان رجل أعمال ثري كان نقمة عليه لأن عقليته التجارية لم تسمح له إلا أن يلغي العقد بعد أن اكتشف أن الأشجار في العقد أكثر بكثير مما هي عليه في الواقع، و أشعره ذلك بالإهانة. بهذا أضاع شليمان على نفسه فرصة أن يكون أول من يكتشف تاريخ هذه الأرض ليأتي آرثر إيفنز من بعده وينال ذلك الشرف.

إيفانز كان أول من سمى الكريتيين بالمينوان (Minoans)، و أعتقد أنك تستطيع أن تحزر سبب هذه التسميه. نعم، التسمية تعود على الملك مينوس الذي حكم الجزيرة وبالتحديد مدينة كونوسوس. مينوس كما تقول الأسطورة هو ابن زيوس من يوروبا، و تشابه اسم يوروبا باسم القارة العجوز ليست مصادفة فعليها سميت القارة. المثير هنا أن يوروبا ليست حتى من سكان أوروبا، فزيوس إختطفها من فينيقيا(على الأرجح من أحد شواطئ لبنان) متنكرا على شكل ثور زهيَ الملامح لتقترب منه يوروبا وما إن امتطته حتى سارع زيوس بالركض ولم يقف حتى وصل لجزيرة كريت. إن تبادر لذهنك الآن سبب توقف زيوس في كريت عن غيرها من البقاع وهو يملك الأرض بما فيها(كما تعتقد الديانة الإغريقية القديمة)؟ فالجواب لن يكون صعبًا إذا علمت أن زيوس نشأ و ترعرع في هذه الجزيرة التي آوته من المصير الذي أصاب كل أشقاءة. فوالد زيوس، العملاق كرونوس كان يأكل جميع أبناءة حتى ضاقت والدة زيوس ذرعًا و لم تعد تحتمل هذا الفعل فقررت أن تخبأ زيوس في كهف في كريت و أن تعطي كورونوس العملاق حجرًا ليأكله بدلا من ابنها زيوس. كبُرَ زيوس لاحقا وقتل أباه كرونوس.

يبدوا أن مينوس ابن زيوس قد ورث روح الإنتقام من أبيه حين أحل على الأثينيين أبشع عقوبة إنتقاما من ملكهم إيجيوس. حيث كانت مدينة أثينا تستضيف حدث رياضي طقوسي كل أربع سنوات و في أحد تلك السنيين حل أحد أبناء مينوس ضيفا على أثينا للمشاركة في هذا الحدث، أبهر ابن مينوس الجميع بمهارته في كل منافسة يشارك بها حيث لم يهزمه أحد فقرر الملك إيجيوس أن يضع حدًا لابن مينوس. لكن حتى إيجيوس لم يكن ندًا له فما إن انتهى الحدث الرياضي إلا و إيجيوس قد خسر جميع منافساته ضد ابن مينوس. فاجتاظ إجيويس غضبًا و قرر الإنتقام، فطلب منه أن يقود الحشد الأثيني ليقتل وحش ماراثون( ثور ماراثون). قَبِلَ ابن مينوس الطلب و ذهب ليصتاد الثور لكنه لم يفلح و قتله الثور. عند علم مينوس بهذا الخبر غضب غضبًا شديدًا و أعلن الحرب على أثينا، حشد مينوس أقوى جيوشه و باغت الأثينيين و ألحق بهم شر هزيمة.لكن انتصاره لم يكن كافيًا ليشفي غليله، فاشترط على إيجيوس أن يرسل سبعة من خيرة رجال أثينا و سبعة مثلهم من النساء لقصره في كريت ليتم قتلهم جميعًا على يد وحش كريت الميناتور(Minotaur).

Image title
الميناتور من لعبة سوني God Of War

كان لقصر مينوس دور كبير في نجاح عقوبته التي أراد منها أن تكون عقوبة جسدية على مقتل ابنه و عقوبة "سيكولوجية" على الأسى الذي أصابه على فقدان ابنه. فكان تصميم القصر معقد للغاية مما يشبه المتاهة و بذلك دور في إحباط الضحايا من إيجاد مفر للهرب من الميناتور. تصميم القصر المعقد ليس الأمر الوحيد المثير للإعجاب بهذا القصر، فهو أيضًا يحوي أول نظام تصريف للمياه في قارة أوربا بأكملها حيث لم تكن تملك أي من مدن اليونان نظام تصريف مشابه. فالقصر يقع على ارتفاع كافي من نهر كايراتوس(Kairatos) فكانت المجاري مصممه بحيث تجري مياه التصريف إلى اسفل القصر حتى تصل للنهر. لكن مجرى التصريف صمم على شكل متعرج بحيث يكون هناك مجال للتحكم بسرعة تدفق المياه مما يمنع من حدوث أي فيضانات.[ خارج النص: من هنا أقدم دعوة لأمانة مدينتي جدة للإطلاع على مخطط تصميم مجاري تاريخه قد يصل للقرن العشرين قبل الميلاد، علّه يكون ذا فائدة].

Image title
المدخل الشمالي لقصر مينوس . بتحكم من مالك الصورة Bernard Gagnon

بعد القراءة عن الكريتيين و حضارتهم التي تعتبر الحضارة الأم لليونان و الأخيرة هي الحضارة الأم لأوربا أكملها، خطر على ذهني السؤال الذي يخطر على ذهن أي عربي بعد القراءة عن شعب مُبهر: هل لنا نحن العرب أي تأثير عليهم؟ و بالمناسبة هذه عادة سيئة فينا نحن العرب فمازلنا ننبش في التاريخ عن أمجاد لنا عوضًا عن صنع أمجاد لليوم، لكن هذا موضوع مقال آخر. جوابًا على تساؤلي السابق  فنعم. أولًا بالنظر لأدوات الزراعة و بعض المحاصيل الزراعية استطاع علماء الآثار تحديد اتصال مباشر بين الكريتيين و المصريين، و كون الحضارة المصرية هي حضارة أقدم فالأرجح أن سكان كريت إما كان بعضهم مهاجرين مصريين أو تعلموا أسلوب الزراعة من المصريين أو الإثنين معًا.عمومًا، المصريين لهم أثر كبير في الحضارة اليونانية بشكل عام وهذا واضح من الآثار القديمة لكن الجديد بالنسبة لي كان هو أصل هؤلاء الكريتيون. الزي الذي كان يرتديه الكريتيون كما تُصَور لنا التماثيل الأقدم في المنطقة، يطابق تمامًا الأزياء التي كان يرتديها الليبيون في تلك الحقبة الزمنية. خلاصةً، هم شعب تكون من مهاجريين جلبوا معهم أسلوب حياة الأمم الأكثر تطورًا وقتها، سكنوا في جزيرة آمنة مليئة بالموارد  بعيدًا عن الحروب التي كانت في أوطانهم الأم فصنعوا حضارة تصدرت الجميع لاحقًا. الآن اقرأ الجملة السابقة على شخص لم يقرأ المقالة من بدايتها و سيقول لك، عرفت الجواب: أمريكا...   تقريبًا!! أمريكا نوعًا ما هي كريت هذا العصر.

ملاحظة: رغم أن المصريين و الليبين لم يكونوا عرب حينها لكني أخاطب في هذا المقال كل عرب اليوم. فكما أن كلمة أثيني كانت وصف لكل متبني للفكر الأثيني، فكلمة عربي بمعنى اليوم هي وصف حضاري و ليس وصف عرقي.

ختامًا آمل أني بهذا أكون قد أقنعتك أيها السائح لليونان أن كريت هي وجهة أساسية في رحلتك و أعتذر مجددا على العنوان المضلل، لكن كون كريت مدينة غير معروفة في عالمنا العربي فكان لابد مني أن أستعمل بعض الخبث في استدراجك عزيزي القارئ. لكن إن كان الموضوع الأول يثير فضولك فسأحاول يوما ما أن أكتب عنه بعد أن أكون قد جمعت مايكفي من المعلومات للكتابة، أو ربما أكون نجحت لألهمك أن تقرأ عن ذلك الموضوع و تكتب عنه و تشاركني شرف أولوية قراءته حينها.


المصادر

طارق السويدان. فلسطين.. التاريخ المصور

Leonard Gottrell. The Mystery of Minoan Civilization

Robin Sowerby. The Greeks