قال الله تعالى﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ﴾[الأنعام:42].

هذا وعيد من الله تعالى لكل من تنكب الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله تعالى عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

ولقد كان ذلكم الوعيد له مبرره، ولقد كان هذا التهديد له موجبه، فإن قوما كُثُرا يشركون ويعدلون مع الله تعالى غيره في مقتضى ألوهيته تعالى، ذلك أنه وإن آمن قوم بالله تعالى ربنا الرحمن إيمانا في جانب ربوبيته من كونه هو الخالق الباريء المصور، ومن كونه هو المحيي والمميت، ومنزل الأمطار ومجري السحاب.

غير أن الإيمان به تعالى على ذلكم نحو ليس بكاف أن يكون صاحبه عتيقا من النار يوم الحساب.

وإنما كان إشراكهم ليس من ذلكم جانب، أعني جانب الربوبية فقد كانوا فيه على وجه حسن، وبنص القرآن المجيد، من حيث قال الله تعالى﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۚ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾[العنكبوت : 63].

وقال تعالى ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ﴾ [الزخرف :9].

فدل على أن توحيده تعالى المقصود من العبيد أن يأتوه على وجهه هو توحيد القصد والإرادة، من حيث لا يعبد بحق سواه تعالى، وإن من مقتضى ذلكم إحقاق حقه تعالى في الأمر والنهي دقيقه وجليله. ليأتي العبيد أوامره، وينتهوا عن زواجره.

لكن الله تعالى دائما، ومن مقتضى حكمته ألا يأخذ إلا بذنب، ومن موجبات رحمته ألا يعاقب إلا بجريرة. لكنه سبحانه أيضا لا يؤاخذ الناس بظلمهم هكذا، وإن كان حقا، وإن كان عدلا، إلا أنه تعالى يمهل الناس رحمة منهم وفضلا، ولما أن يؤبوا!

قال الله تعالى﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾.(النحل: (61))

ومن إمهاله تعالى ما نحن بصدده الآن أمام آيتنا محل البيان، إذ إنه تعالى يأخذ الناس بالبأساء، وهي شدة الفقر والضيق في المعيشة، كما أنه تعالى يأخذهم بالضراء، وهي الأسقام والعلل العارضة في الأجسام، لعلهم أن يفيقوا، وعساهم أن يرجعوا إلى الإيمان بالله تعالى ربهم، من حيث كونه تعالى ربا مدبرا، وإلها خالقا وحاكما وآمرا وناهيا.

ولأنه تعالى رحيم، فإنما أخذ بالبأساء، وإنما أخذ بالضراء، من باب إتاحة الفرصة السانحة لاتباع الهدى والصراط المستقيم. وهو من باب الإمهال الذي ما انفكت سننه تعالى عنه أبدا.

وهو ما يختلف فيه الرب الرحمن الرحيم سبحانه عما سواه من العبيد، إذ يمكن أن يكون عذاب بعضهم لبعض تشفيا أو هوى أو كيدا، والله سبحانه قد تعالى عن كل ذلك علوا كبيرا!

وإنما قد فعل الله تعالى بهم ذلك ليتضرعوا إليه تعالى, ويخلصوا إليه العبادة, ويُفْردوا رغبتهم إليه دون غيره سبحانه، بالتذلل منهم له بالطاعة، والاستكانة منهم إليه بالإنابة.

وهذا مثال لأخذه تعالى قوما استكبروا، وقوما عتوا عن أمر ربهم، حتى أخذهم العذاب وهم ظالمون!

قال الله تعالى﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ۞ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَٰذِهِ ۖ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَىٰ وَمَنْ مَعَهُ ۗ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ۞ وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ۞ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ۞ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ ۖ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ۞ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ۞فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾[ الأعراف: 130 – 136].

وقس على كل أمة هجرت أمر ربها، فإنما كان عذابها نكالا، وإنما كان عقابها استئصالا!

وليس يبعد أن يأتي الله تعالى بعذاب آخر يحل بالمعاندين. وليس يحال أن يصنع الله تعالى بالعصاة والمذنبين مالم يخطر على بال أحدنا!

وانظر إلى عالم الفيروسات التي ليست ترى، وانظر إلى علمها، وهي تتحور وتتشكل وتتطور كيما تفلت من عقار، وكيما تفتك بعائلها، من صغار أو كبار، في قدرة نافذة، لا يحدها إلا من خلق ذلكم المخلوق العجيب الغريب المذهل، والذي قد استطاع لا بجرة من قلم أن يحبس العالم كله في منازله، متحديا: 

ألا من أحد ينازله ؟!

ومنه فحذر واجب من كل عاقل رشيد أن يأخذ على يد نفسه مخافة العقاب، وأن يشد من عزيمة خاصته كيما ينجو من عذاب، وكيما يفوز برضوان العزيز الوهاب.

ومصالحة مع الله تعالى ربنا هي الترياق، واستقامة على الطريقة هي طوق النجاة، وبغير ذلكم فلا ندري ما الله تعالى فاعل بنا من بعدها!

فإنما هي نذر، وإنما هذه من أخذ واستمهال ، وإنما هي من كيد واستدراج!

والله تعالى ندعوه أن يربط على قلوبنا، وأن يثبت على الخير خطانا، وأن يلهمنا رشدنا، كيما نعود جميعا إلى صوابنا، دفعا لكل مكروه ومرهوب، ونيلا واستحقاقا لكل خير ونفع وصلاح ومرغوب.

ولئن كان الله تعالى يؤدب عباده بالبأساء والضراء وبما شاء فإنه سبحانه ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء :23].

وليس لأحد أن يتأتى له أن يفعل فعل ربه. فإن هذا تجاوز لمعاني العبودية لله تعالى.

وأقول هذا لأن قوما يمكن أن يروح بهم أن يعذبوا أنفسهم بالبأساء فقرا، وبالضراء مرضا، أو أن يحرموا أنفسهم مما أحل الله تعالى، كيما يؤدبوا أنفسهم! وهكذا يزعمون!

وإن هذا خلاف السنن، وذلكم يناقض الهدي، وينافي معاني العبودية كما قلت، لأنه يدخل المرء في متاهات أن يفعل فعل الله تعالى، وهذا فيه ما فيه من التجوز الذي لايليق بالعباد أدبا مع ربهم سبحانه.

ولئن رأينا قوله تعالى﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾[البقرة : 172]. لعلمنا أننا مأمورون بتناول ما أحل الله على الوجه الطيب الحلال، وهو ما نفهم منه أنه تعالى ليس يريد لأحد تعنيتا بقدر ما إنه تعالى يريد منا أن نعبده وحده بلاشريك.

ويؤكد هذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال مخافة الضعف على الأبدان.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ قَالُوا: فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ ، يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ:إِنَّكُمْ لَسْتُمْ فِي ذَلِكَ مِثْلِي، إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي ، فَاكْلَفُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ) [صحيح مسلم:1924].

ويؤكده أيضا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال بكل وجه يمكن أن يفهم منه أنه إضاعة المال، تبذيرا أو إسرافا أو مقامرة أو ربا أو رشا، أو غير ذلك من الصور التي حرمتها الديانة ولم تجزها الملة.

وكل هذه من موجبات غضبه تعالى وحلول نقمه، مما يحدو بآحاد الناس ألا يقع تحت سطوتها لأنه لاطاقة لأحدنا بتحمل عذاب ولو كان مسا, والله المستعان.

كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ:أَنِ اكْتُبْ إِلَيَّ بِشَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثًا :قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ المَالِ ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ).[صحيح البخاري:1419].