ومنه كانت تفردات الكتاب المجيد حين أشار إلى مسائل التاريخ عموما كونها من جملة ما يؤثر في الوسط المحيط أو يتأثر به، وذلكم على مدى الأزمنة الثلاثة المعروفة الماضي منها والمضارع والأمر، كما ينسحب ذلك بضرورة المقال إلى الزمن المستقبل، كون أن الفرق بين المضارعة الآنية والإستقبالية إنما كان في مثل حرف السين وكفى.

وإنما قلت إحاطة الكتاب المجيد للزمان الأمر، فكما قال الله تعالى ربنا الرحمن سبحانه(قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ)[يونس:101]. وهو ما ينسحب على الزمان المضارع أيضا من مقتضى قوله تعالى(وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ).

وإذا كان الفعل الماضي يدل على زمن حدث في الزمن الماضي, كما في قوله تعالى (قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ)[ الأعراف:116] ، فإن الفعل الماضي يفيد وقوع الحدث, أو حدوثه بشكل مطلق, فهو يدل على حدوث شيء قبل زمن التكلم, وذلك من مثل قولنا : درسَ, نجحَ, علم ... الخ.

ولكن الفعل الماضي قد يدل على الحال والاستمرار أو الاستقبال.

فقد يأتي الفعل الماضي للدلالة على الحال عند وجود قرينة، كما قال تعالى(الآن حصحص الحق).[ يوسف: 51].وكذلك قوله تعالى ( الآن جئت بالحق ).[ البقرة:71].

فالفعلان حصحص وجاء , يفيدان الحال, وإن جاءا بصيغة الماضي.

وقد يأتي الفعل الماضي ليدل على الاستمرار والتجدد في الأزمنة الثلاثة، كما قال تعالى(إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا). [النساء:103]. فالفعل كان في هذه الآية يفيد أن الصلاة مفروضة من زمن نزول النص، وهو الزمان الماضي, و الآن وهو الزمان المضارع, وما بعد الآن إلى يوم القيامة، وهو الزمان المستقبل.

ومن دلالة الفعل الماضي على المستقبل مجيئه على صيغة الزمان الماضي, إلا أن وقوع الحدث  يكون في المستقبل, وههنا يفيد التحقيق, ومنه قوله تعالى(وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا).[النبأ:20]. وقوله تعالى أيضا(إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا). [النبأ:21].

وإنما جاء الفعل بصيغة الماضي، لتحقق وقوعه لا محالة فجعل بمنزلة الماضي.

كما أن الزمن الماضي قد يأتي للدلالة على الاستمرار, ومنه قوله تعالى(وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا). [النساء:111]. وقوله تعالى(فَأُولَٰئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا).[النساء:99].

وتلك شارة أخرى من شارات الإعجاز في الكتاب المجيد كونه جاء ملائما لكل زمان، وكونه نزل محيطا بكل زمان ومكان، وتلكم هي معجزته ولاسيما حين ينظر إليه وهو بهذا الشمول، وهو ذلك العموم أيضا، وقد نزل في بيئة صحراء جرداء هي أرض الجزيرة العربية آنذاك، وكان أقوامها وبالتبع هم أهل بداوة، وليس لهم من رصيد علمي إلا تيكم اللغة العربية التي نزل بها القرآن المجيد والذكر الحكيم، كونه معجزا لهم، وبكل حال، كما وأنه معجز لكل زمان أهله، ولكل مكان معاصروه.

ومنه أيضا يمكن القول إن عموم القرآن الكريم لكل زمان، وعمومه لكل مكان، مع كونه نزل في بيئة صحراوية هو ما يؤكد مرة أخرى على إعجاز هو منه أخذه بالقلوب حين تتلوه وهو يقول (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا [النور:40]. ليقول أحدهم (دورجاروا) عن هذه الآيات القرآنية: إن هذا لا يمكن أن يكون علما بشرياً!.

إن القرآن الكريم يُعدّ التاريخ وحدة زمنية لا ينفصل فيها الماضي عن الحاضر أو المستقبل. وكما أسلفت آنفا. 

وليس يكون ممكنا من خلال ذلكم تقديم إلا أن تكون حركة التاريخ إنما هي تعبير عما أراد الله تعالى  أن يكون،  وتلك عقيدة أهل الحق في تسيير الله تعالى لكونه، تمشيا مع النص القرآني المبين الذي يحكم ذلكم وغيره، حيث قال الله تعالى(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)[القمر:49]. وذلكم أيضا تأسيسا على أنه تعالى وحده هو مالك هذا الكون ومدبره!

وهي حقائق لاشك منبثقة عن قدرته تعالى المطلقة، وعلمه المحيط الذي وسع كلَّ شيء، كما قال تعالى(أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ ۗ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ)[فصلت:54]. وعن أوامره تعالى التي منها تكون الوقائع والأحداث التاريخية، ومن ثم وضعها في سياقها المرسوم لها أزلا من لدنه سبحانه. ويكون ذلك قائما على مستوى التاريخ البشري كله، كما أنه يكون قائما أيضا على مستوى التاريخ الكوني القدري، مما كان حاصله تناغمهما معا مع الأمر الشرعي الذي سنه الله تعالى كيما يكون نظاما للكون ليسير الناس عليه مطمئنين إلى غد واعد بالخير واليمن والبركات، ذلك لأنه تعالى قال(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[الأعراف:96].

وإنما تكتسب حركة التاريخ أهميتها في القرآن الكريم ليس بإحاطتها لوقائع التاريخ بأبعادها الزمانية فحسب، بل ببعدها الذي يغوص في أعماق النفس البشرية فيلامس فطرة الإنسان وتركيبه الذاتي، والحركة الدائمة في كيانه الباطني، ثم يمتد إلى نموِّ مداركه وقوة أحاسيسه، وإرادته المسبقة، وما تؤول إليه هذه جميعًا من معطيات حتى تعطي حركة التاريخ أبعادها الحقيقية وتجعلها منصهرة في العلاقات الشاملة مع المصير المرسوم للكون والحياة والإنسان.

وباعتبار أن القرآن الكريم عبر عن هذه السنن التي تسيّر عملية الحدث التاريخي في نطاقه الزماني كما في نطاقه المكاني، فإنما كان على الإنسان إذن أن يعي تلك السنن حتى يدرك ماهية حركة التاريخ، ويفيد منها ليكون له دوره الفاعل والمؤثر تعبيرًا عن وجوده الإنساني. ذلك لأنه تعالى من إكرامه لعبده أن جعل له مشيئة ظهرت أبعادها فيما ملكه ربه تعالى الرحمن من إرادة واختيار!