ها قد أُسدل الستار عن الدورة الخامسة والعشرين لأيام قرطاج المسرحية ، ذاك المهرجان الذي لطالما اعتُبر رمزا للثقافة والإبداع في تونس والعالم العربي والإفريقي . إلا أن وهج هذا الحدث لم يخل من ظلال كثيفة ، تسللت بين ضجيج التصفيق وخفوت الأضواء . على منصات النقد العلني أو الكواليس المكتومة ، تعالت الأصوات ، فهناك من رأى في النتائج عبثا يعيد إنتاج نفس الوجوه والأسماء ، وهناك من انتقد سوء التنظيم والارتجال الذي طغى على تفاصيل الدورة ، بينما وجد آخرون في البرمجة إساءة صريحة لتاريخ هذا المهرجان الذي بني على أكتاف رواد عظماء.
في المقابل ، لم تخل المشاهد من كلمات شكر وتمجيد ، بعضها صادق ، وبعضها الآخر مدفوع بغاية في نفس يعقوب . وبين هذه التناقضات برز من قاطع في صمت ، معتبرا أن المشاركة أصبحت ترفا لا طائل منه ، في ظل مشهد باتت تحكمه المحسوبية لا الكفاءة.
لكن هل يكفي الغضب؟
وهل يمكن للصمت أن يكون حلا؟
الأكيد أن المسرح في تونس كما هي حال مؤسسات الدولة وهياكلها ، يمرّ بأزمة تتجاوز سوء تنظيم مهرجان أو ضعف عروضه . نحن أمام معضلة أعمق تتعلق بمفهوم الشفافية والعدالة ، وحاجة ملحة لإعادة هيكلة القطاع الثقافي برمته.
أيام قرطاج المسرحية ، هذا الحدث الذي يجب أن يكون واجهة للحرية والإبداع ، أصبح في كثير من الأحيان رهينة لوبّيات لا ترى فيه سوى وسيلة لترسيخ نفوذها . هنا ، لا بد من وقفة صريحة فهياكل الدولة ، بما فيها هذا المهرجان، ليست "لأمالي الدار" كما قالت إحداهن ، بل هي ملك للجميع ، لكل مبدع يحلم ، ولكل فنان يناضل ليصنع من خشبة المسرح منبرا للحق والجمال.
وأنا ، بصفتي مواطن تونسي وكمسرحي ، لن أصمت على أي فساد ، أو محسوبية ، أو استغلالٍ للمنصب . لن أكون شاهدا صامتا على محاولة اغتصاب مؤسساتنا الثقافية ، التي هي ملكنا جميعا . لن نسمح أن تدار هذه الهياكل بمنطق الولاءات والمصالح الشخصية ، ولا أن يتحول المبدعون إلى مجرد أدوات في لعبة يحركها من يبحثون عن المجد السريع أو النفوذ الفارغ.
لكن ، وسط كل هذا الصخب ، لا يزال هناك أمل. المسرح هو فن المقاومة ، وهو الساحة التي تنتصر فيها الحقيقة حتى في أشد لحظات الظلم . إنقاذ المشهد يبدأ من إرادة جماعية لتغيير الواقع ، من تفعيل قوانين عادلة تضمن الشفافية في إدارة الهياكل الثقافية ، ومن ضخ تمويل مستدام يتجاوز منطق الإعانات الشكلية، مع التركيز على البنية التحتية التي طالها الإهمال.
علينا أن نعيد النظر في كل التفاصيل ، من البرمجة التي يجب أن تكون مرآة لتنوعنا وثرائنا الثقافي ، إلى دعم المسارح الجهوية ، تلك التي تشكل العمود الفقري للإبداع التونسي. نحن بحاجة إلى رؤية تعيد للمسرح وهجه ، وتجعل منه أداة للتغيير والتنوير.
في النهاية ، ربما تكون الدورة الخامسة والعشرون قد كشفت الكثير من العيوب، لكنها أيضا تذكير بأن المسرح مهما اشتدت أزماته، يظل منارة أمل . لأن الفن هو المعركة التي لا تهزم والصوت الذي لا يسكت ، والروح التي تنتصر على الرداءة مهما طال زمنها. علينا أن نتعلم من أخطائنا ، ونعود لنقف من جديد أكثر قوة وإصرارا على أن يكون المسرح كما أراده رواده الأوائل فضاء للحرية والكرامة .
شكرا لمن اجتهد بصدق والف مبروك لكل الأصدقاء المتوجين .
بقلم المسرحي زين عبيدي .