قراءة نقدية لعرض " رقصة سماء " للطاهر عيسى بن العربي ضمن المسابقة الرسمية لأيام قرطاج المسرحية في دورتها الـ 25 والذي تم تقديمه يوم الأحد 24 نوفمبر 2024 بقاعة الفن الرابع .
تعد الصوفية واحدة من أعمق وأعقد التوجهات الروحية في التراث الإسلامي، وقد أضحت موضوعًا هامًا في الأدب والمسرح باعتبارها تجسيدًا للبحث عن الحقيقة الإلهية والتواصل الروحي مع الله. من بين الشخصيات الصوفية البارزة التي لفتت أنظار الأدباء والمبدعين، نجد شخصية شمس الدين التبريزي، الذي ارتبط اسمه بفكر وممارسات الصوفية العميقة وأثره الكبير على الشاعر الفارسي الكبير جلال الدين الرومي.
تناولت مسرحية " رقصة سماء " شخصية شمس الدين التبريزي، لنجد أن المسرح ليس فقط أداة للتسلية، بل وسيلة لفتح أفق التأمل في مفاهيم الروح والتجربة الإيمانية، حيث يُسائل العرض المسرحي المشاهد حول طبيعة العلاقة بين الإنسان والله، والروحانية، والإيمان، والتضحية. تركز المسرحية في كثير من الأحيان على الصراع الداخلي للشخصيات، خاصة شخصية شمس الدين التبريزي، الذي يُعرض في العديد من المشاهد كشخصية غير تقليدية، مليئة بالغرابة والدهشة، مما يعكس الجوانب الصوفية التي تتسم بالكشف عن الحقائق الغامضة.
شخصية شمس الدين التبريزي في المسرحية " رقصة سماء "
شمس الدين التبريزي يظهر في المسرحية كرمز للمُرشد الصوفي الذي لا يقبل بالطرق التقليدية في التعبد أو الإيمان. شخصيته تتميز بقدرتها على تحفيز الآخرين للخروج من قوقعة الوعي الديني التقليدي والتمرد على المظاهر الدينية المعتادة. في المسرحية، يظهر شمس في تعامله مع جلال الدين الرومي، محركًا له لاكتشاف ذاته وعلاقته بالله بعيدًا عن القوالب الجافة التي تفرضها المؤسسات الدينية.
علاقته مع الرومي تُصور على أنها علاقة من نوع خاص، تجاوزت الفهم السطحي للعلاقة بين المُرشد والمريد، لتصبح علاقة روحية تنقلب من خلال أفكار شمس المتجددة التي تدعو إلى المحبة والعشق الإلهي كسبيل للتواصل مع الله. هذا يفتح المجال أمام المشاهدين للتساؤل حول معنى العشق الصوفي الذي يتجاوز الكلمات والممارسات الدينية المعتادة ليصل إلى حالة من التوحد مع الإله.
"رقصة سماء" منجز فني بعمق روحي وأبعاد رمزية، تمثل تجربة فريدة تنقل المشاهد من العالم المادي إلى عوالم معنوية أعمق، حيث يتقاطع الفكر الروحي مع التعبير الفني. تميزت مسرحية رقصة سماء بكونها مساحة تجمع بين التأمل والدراما، مما يجعلها تجربة أدبية وفنية غنية.
المسرحية ترتكز على موضوعات ذات طابع روحي مثل البحث عن الحقيقة، التطهر النفسي، أو الرحلة الروحية للاتحاد بالمطلق (الله). الشخصيات عادة ما تكون رمزية، تجسد قيمًا أو مفاهيم روحية مثل "الحب"، "الإرادة"، أو "العرفان". هذه الموضوعات تتحدى الجمهور للتفكير بعمق في أسئلة الوجود ومعنى الحياة، مما يجعل المسرحية أكثر من مجرد عرض، بل تجربة تفاعلية على مستوى الروح والفكر.
إستأنس المخرج والمؤلف طاهر عيسى بن العربي في كتابة نص رقصة سماء من كتاب قواعد العشق الأربعون لإليف شفق.
إعتمد مؤلف مسرحية رقصة سماء في الكتابة على تقنية التقطيع السينمائي التي تستفيد من العناصر السينمائية في بناء المشهد وتقديم الحكاية بأسلوب ديناميكي وجذاب. هذه التقنية، المستوحاة من السينما، تضيف بعدًا بصريًا وزمنيًا إلى النص المسرحي، مما يساهم في زيادة التشويق .
يتم الانتقال من مشهد إلى آخر بنسق سريعة ومنظم، مما يعطي الإحساس بالحركة والتغير المستمر.
كما لاحظنا أن استخدام أماكن متعددة في النص المسرحي في وقت واحد أو بشكل متتالٍ، مما يشبه التنقل بين مواقع التصوير في الأفلام.
تأثير الإضاءة والصوت في عرض رقصة سماء :
تم استخدام الإضاءة والمؤثرات الصوتية بشكل يعزز من الإحساس لدى الممثل والمتفرج، مثل التغيير المفاجئ في الإضاءة للإشارة إلى تغيير المشهد.
ديناميكية السرد :
تجعل أحداث المسرحية أكثر حركية من خلال التنقل السريع بين الأحداث والمشاهد.
توسيع نطاق الزمكان:
يمكن تقديم أحداث في أزمنة وأماكن مختلفة بدون التقيد بمسرح ثابت وهذا ما أعتمده مؤلف ومخرج مسرحية رقصة سماء .
كذلك أحالنا العمل إلى تعميق التجربة البصرية ولكن بواقعية المسرح الحية.
الرمزية الصوفية في المسرحية :
تتسم المسرحية باستخدام الرمزية الصوفية لتجسيد الصراع بين الظاهر والباطن. حيث تُظهر الشخصيات الصوفية في المسرحية كما لو أنهم غرباء عن المجتمع الذي يعيشون فيه، ويواجهون تحديات كبيرة من أجل أن يحافظوا على نقاء تجربتهم الروحية بعيدًا عن الضغوط الاجتماعية. هذه الرمزية تمثل البحث المستمر عن الحقيقة، وهي أحد الأبعاد الرئيسية في الفكر الصوفي الذي لا يقيم حسابًا للمظاهر الدنيوية.
في المسرحية، يتحول "شمس الدين التبريزي " إلى رمز للرفض الجذري للمجتمع الذي يعيش فيه، حيث يُظهر في تصرفاته وحواراته مع الرومي رفضًا للتصورات التقليدية عن الدين، مُدافعًا عن المبدأ الصوفي في البحث عن الحقيقة الداخلية التي تتجاوز حدود الكلمات والشعائر.
رغم تهافت منتجات الحضارة الغربية الحديثة في مرحلة السيولة لا تقوض خصوصيتنا وهويتنا وتماسكنا وحدنا وحسب، وإنما تقوض خصوصية وهوية وتماسك المجتمعات الغربية ذاتها، وتصورنا أن هذا القول بقدر ما هو توصيفيّ تحليليّ للنزعة أو الحالة ما بعد الحداثية، من حيث إن هذه الأخيرة تقدم الاختلاف على الهوية والتشظي على الوحدة على جميع الأصعدة ، إلّا أنه أيضا تضليليّ من حيث إيمان الأطروحات ما بعد الحداثية بالخصوصية في إطار الاختلاف، أو بتعبير فوكو: "اليوتوبيا غير المتجانسة"، كذلك بتعبير ديلوز: "التدمير الطريف، كما يتضح هذا في حملتهم على "حقوق الإنسان"، باعتبارها إيديولوجيا تنميطية شموليّة، لا تؤمن بالتنوع، فضلا عن مقت أطروحاتهم للأنساق الكليانية الشمولية ودعوتهم للتفكير في حكايات أو سرديات صغرى والعمل على اليومي والجزئي. كما يقول: "يتصور البعض أن ما بعد الحداثة بإصرارها أن كل شئ خاضع للصيرورة وأن الواقع تعددي، هي أيديولوجيا ثورية تعددية. لكن ما لا يدركه هؤلاء أن ما بعد الحداثة هي دعوة للتسوية لا للمساواة، وأن تعدديتها هي إنكار للمعيارية ولأي نظم من أي نوع، وينطبق على هذه الفقرة ما ينطبق على سابقتها، فبقدر ما هي دقيقة في كون ما بعد الحداثة غير معيارية، لأن المعيارية لها بعد أخلاقي موضوعي أو الأخلاقية لها بعد معياري وما بعد الحداثة لا معيارية لا أخلاقية، بقدر ما هي مضللة من حيث إن ما بعد الحداثة لا هي دعوة مساواة ولا دعوة تسوية، طالما تحدثنا في المستوى الثقافي وخصوصا في المسرح كفن، وهذا الاستنتاج نتاج ما قدمه لنا مؤلف ومخرج عرض " رقصة سماء " .
التأثير الفني للمسرحية :
تناولت مسرحية رقصة سماء " شخصية شمس الدين التبريزي لتثير في المشاهد العديد من التساؤلات حول مسألة الإيمان والبحث عن الحقيقة. وهي لا تُعرض فقط كقصة تاريخية أو دينية، بل كدعوة للتفكير في معنى الروحانية في العالم المعاصر، حيث الصراع بين التقليد والروحانية لا يزال قائمًا.
من خلال لغة المسرح وجمالياته، لا تكتفي المسرحية بتقديم قصة درامية عن شمس الدين التبريزي، بل تسعى إلى تقديم تأملات عميقة في الروح الإنسانية وعلاقتها بالتصوف، مما يجعلها بمثابة دعوة للتأمل والتفكير في معاني الحب والعشق الإلهي والبحث عن الذات في عالم متشابك بالظواهر.
شكرا لكل فريق عمل مسرحية " رقصة سماء " وعلى رأسهم مؤلف ومخرج العمل طاهر عيسى بن العربي .
بقلم : سلمان سعداوي