وقفات حول قوله تعالى(وقفات حول قوله تعالى(أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ۞ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ۞ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ)[الواقعة68-70].

2

وقد جاءت آيات كثر في كتاب الله تعالى ربنا الرحمن سبحانه مصدرة باستفهام، ومنه هذه الآية الكريمة من سورة الواقعة. ذلك لأن الله تعالى أراد أن يلفت أنظار عباده إلى نعمه عليهم فجاءت بطريق الاستفهام حثا للقلوب على التفاعل معها، كما أنه تقرير بهذه النعم التترى ليحول التذكر بها أبدا عن مقارفة ذنب، أو ارتكاب خطيئة، إذ كان من مقتضى الإنعام، وكان من لوازم الإيمان بالمنعم ألا يبارز بإثم، أو أن يبارى بمعصية، حياء منه تعالى، إذ كيف يرد على منعم بعصيان، وإذ كيف يسوغ فطرة أن يبارز بذنب، والأصل أن رد فضل الإنعام إنما لايكون إلابإفراده تعالى بواجب الشكر له تعالى. وليس يكون شكرإلا بعبادته وحده لاشريك له، وليس يكون شكر إلا باعتراف بفضله أن أنعم، وإلا بصرف ما أنعم به على وجه يرضيه.

وأبان لك هالة ما أقول أن قوما يصرفون ما به أنعم عليهم في معصيته تعالى، ألم تر كيف أن الله تعالى خلق لنا أعينا لنزداد بصيرة بالنظر بها والاعتباربها أيضا في ملكوته، وما أودعه في كونه من باهرات الآيات على جميل صنعه؟!

وإذا كان الاستفهام يفيد معنى التقرير بأن نعتقد أنها نعمه، وبأنا نزايل كل ريب في ذلكم، إلا أن ذلك الاستفهام أيضا يتضمن توبيخا لمن بارزالله تعالى بإسناد فضله إلى غيره، كما في قوله تعالى(وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا)[مريم:88]. وكما في قوله تعالى(وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ۚ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)[الجاثية:24].

غير أن الاستفهام وحده كان كافيا لذلكم تقرير، كما أنه وحده كان كافيا لذلكم توبيخ، إلا أن الله تعالى ربنا الرحمن سبحانه أتي بحرف الفاء بعد همزة الاستفهام إمعانا في ذلكم توبيخ، لعلمه تعالى السابق أن فئاما كثر سوف يحيدون عن جادة الطريق وسواء السبيل! وهو من بلاغة الكتاب الباهرة التي تأخذ بالعقول والألباب إلى حيث يكون التأمل؛ فتأمل!

ودلك على بلاغته مجيئ لفظ الماء معرفة. ذلك أنه ذلك الماء الذي ترونه وتعرفونه وتعهدونه! وأنه ذلكم الماء الذي تشربون، فإنا لم نحك لكم أساطير بعيدة عما تراه أعينكم، أو أننا نسوق إليكم ما ليس تشربونه عمركم كله، ولم تمر عليكم لحظة واحدة أن ماء طلبتموه إلا وجدتموه! أفلا أستحق أن أكون مشكورا أبدا، كما أني أنزلت إليكم الماء الذي تشربون أبدا؟! وتأمل أخي القاريء اللبيب!

وقد تضافرت آيات الله تعالى المنظورة، وقد استفاضت آياته سبحانه المتلوة أن الماء ينزل من السماء. وأن السماء تارة تذكر باسمها (السماء)أو أن تذكر باسم (المزن) كما في آيتنا محل البيان، أو أن تذكر باسم (المعصرات) على قول بعض أهل تفسير كلام الله تعالى، كما أخرج الطبري رحمه الله قال: حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قوله: ( وَأَنـزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ ) قال: من السماء.

هذا؛ وإن كانت أقوال أهل تفسير كلام الله تعالى قد جاءت على ثلاثة أقوال، ما بين قائل بأن المقصود بالمعصرات هوالسحاب، وبين قائل بأن المعني بها هو الرياح، وما بين قائل إنها السماء. وذلكم تفصيله في موضع آخر.

وإنما أردت من ذلكم بيان أن ذكر السماء بألفاظ عديدة يعد من شرفها وعلوها وسموها. دلك على ذلك أن عظمة الاسم إنما تبين  ضمن ما تبين به من كثرة أسمائه. وإن لم يكن لها إلا ذلكم اسم (السماء)لكفاها علوا وسموا وارتفاعا.

ودلك على ذلك أنا نراها كذلكم رأي العين، ولايماري في ذلكم من أحد، وذلك من النظر المعتبر في آيات الله تعالى المنظورة، فصارت مسلمة لا حاجة لبرهان عليها، وذلكم أدعى في الإثبات، وهو أيضا أقوم في الاستدلال.

والكلام عن السماء له شأن آخر في موضع آخر.

وانظر كيف قال الله تعالى ربنا الرحمن(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ۞ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ۞ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الحج:63-65]. ليبين لنا أن الماء لشربنا كما أنه أيضا لزرعنا! وهو من جميل الإنعام علينا كيما نشكره أبدا، وكيما نعبده وحده أبدا كذلك. وانظر إلى جميل صنعه، وأنك ترى كيف أنه سبحانه سخر لنا أجمعين كل ما في الأرض، ومنه  الفلك التي تجري في البحر بأمره وحده سبحانه، ولايشاركه في ذلكم تسيير من أحد!

أفلا يكون ذلكم الرب الرحيم مستحقا وحده أن يعبده خلقه؟! وأن يكون ذلكم الإله القدير وحده هو من تصرف إليه القلوب استمطارا لرحماته وجلبا لهداياته؟  

وانظر إلى القدرة المطلقة من كل قيد في إفراده تعالى بالمشيئة المطلقة أيضا، ذلك لأنه سبحانه رب العالمين. وكونه مشيئتة مطلقة يمكن ان تحمل معنى الملك والجبروت والسلطان والحكم والتشريع، إلا أنها مشيئة رحيمية بالعباد كل العباد، وإلا فأنت ترى عبادا لايرعوون حين يعصون، وقد كفل لهم سبحانه رزقهم. وإنك لترى بأم عينيك قوما كفروا به، وتراهم هم أنفسهم يرفلون بنعمه، ولم يحجبها عنهم بلاء منه وانتقاما رحمة منه وفضلا! لكنه الله تعالى الرحمن الرحيم الذي قال(وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)[النحل:61].

ومن مشيئته تعالى المطلقة تلك أن لو شاء جعل الماء ملحا أجاجا لفعل، بحيث يكون غير نافع لهم مع وجوده!

ذلكم وأن معنى إعجازيا آخر ينبع من بين كلمات الله تعالى ربنا الرحمن. مقتضاه أنه كان يمكن ألا ينزل الماء لو كان ملحا أجاجا، ولكنه ينزله إن شاء أن ينزله ليبقى أمام أعينكم لا تنتفعون به، وذلكم أوقع في الإيلام، وأدعى لداعية التشفي في الخلق الضعاف! ولكنه الله الرؤف الرحيم، لم يشأ عدما لعبيده وإن بارزوه! - سبحانه - ،ولم يشأ انتقاما منهم ولو عصوه!- سبحانه - ولم يشأ سبحانه تعنيتا لهم رغم ظلمهم! لأنه أيضا (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ)[النحل:7].

 وكان من مقتضى قدرته أن يجعله بمشيئته غير نافع لكم. وهذا استدلال بأنه قادر على نقض ما في الماء من الصلاحية للنفع بعد وجود صورة المائية فيه. وهو كما قلت إمعان في العنت والتشفي، ومحال على الله تعالى أن يكون كذلكم، أو قريبا منه لأنه(اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ)[الشورى:19]. 

ودلك على إعجاز قرآني كريم آخر ما جاء به لفظ(جَعَلْنَاهُ) ليحمل معنى الصيرورة من حال إلى حال. دليلا على عظيم قدرته تعالى ونفاذها في آن، ودليلا آخر على أنه تعالى لايعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض كما قال تعالى(أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ٱلْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوٓاْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعْجِزَهُۥ مِن شَىْءٍۢ فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِى ٱلْأَرْضِ ۚ إِنَّهُۥ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا)[فاطر:44).

وكما أسلفت فقد كان يمكن ألا ينزله من أساس، لكنه أنزله عذبا فراتا، ولم يشأ سبحانه أن يجعله ملحا أجاجا عنتا منه سبحانه، لخروج ذلكم كما سلف عن اقتضاء الرحمة، وخروج ذلكم عن سبيل اللطف، وبعده عن مضامين الرأفة، واستحالته على مقتضى الربوبية الرحيمية الحانية.

وكان من سبيل أن يثمر ذلكم فضل شكرا له تعالى. ومن شكره ألا يعبد سواه، وألا يشرك به أحد معه أو من دونه قولا وفعلا متلازمين، وحكما بأمره وحده، لأن ذلكم من مقتضى أنه (وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ)[الرعد:41].

وكان من مقتضى شكره تعالى اعتراف بإنعامه، كما أنه من مقتضى ذلكم أيضا ألا تصرف نعمه إلا في مراضيه سبحانه، ولايبارز بنعمه بعصيانه بها، ذلكم لأنه قادر بقدرة لاحد لها وقدير بقدرة لا قيد عليها. دلك على هذه القدرة قوله تعالى(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ)[الملك:30].وهو فرض يمكن أن يكون حال حصوله هلاكا للبشرية كلها وسائر ما دبت فيه حياة! وهنا يمكن القول بأنه إعلان عام للحرب! ممن؟ من الله تعالى الذي قال(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا)[فاطر:44]. لأن ذلكم من مقتضى ضمائر نزعت منها المروءة، كما أن ذلك من دلالات تجرد من قيم(وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ)[الزمر:67].

وقد دل العقل السليم والمنطق الرشيد أن صاحب كل ذي نعمة قد امتن بها له حق الاعتراف بها، وأن الإنعام بها راجع إليه، كما دل أيضا على أنه من جميل ذلكم الاعتراف أن يرد بها جميل، وأن تقابل بمنحة. لكن الله تعالى لأنه الغني لم يرد فضلا، ولم يشأ منحة من أحد، لغناه المطلق، ولكنه أراد فقط ألا يعبد في كونه الذي خلقه أحد سواه! وفضل عبادة العبيد له راجع إليهم هم أنفسهم، وليس يعود نفع عليه تعالى، لأنه كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)[فاطر:15].