قرأت منشوراً للصحفي الأستاذ بلال فضل على فيسبوك يتحدث فيه عن لعبة فريدة ومحببة إلى قلبي، لعبة اختيار أغنية واحدة لمطربك أو مطربتك المفضلة، وكيف أنه يراها لعبة سخيفة ورغم ذلك نحبها جميعاً، وأتفق معه في محبة اللعبة ولا أتفق معه في اعتبارها سخيفة - فاللعبة التي أعتبرها سخيفة بالفعل هي لعبة المفاضلة بين فيروز وأم كلثوم أو بين عبد الحليم وفريد الأطرش، أشعر بثقل في القلب والعقل والوجدان حين أجدني مضطرة لهذه اللعبة في جمع من الناس، وأحياناً تبدأ هذه اللعبة على سبيل المناكفة والرغبة في الحديث عن الطرب ولا يكون الغرض الحقيقي منها هو الممايزة بين المطربين، ولكن في الغالب يتحزب الناس حتى لمطربيهم المفضلين، ويالبؤس هؤلاء الذين تركوا التحزب والمنافحة في شؤون الدين والعلم والسياسة ليمارسوها بأمان في أبواب الفن والطرب، ورضوا من دنيا الفن بمطرب أوحد لا يسمعون سواه ويحرمون أنفسهم من التنوع والثراء الّذين منحهما الله لنا – وحيث أنه لعبها في المنشور المذكور، شعرت بعد قراءته مرتين أنني أود أن ألعبها كذلك، ولأن كتابته تزامنت مع عيد مولد السيدة فيروز – أو لأجلها كانت في أول الأمر- سيدة الجنوب والقلوب كما أحب أن أسميها، وحيث أنني كنت – وما أزال – أمر بمرحلة كلثومية طويلة، ومر وقت طويل منذ استمعت إلى فيروز، قررت التوجّه إليها بقلبي وشغّلت مقطع طويل به عدة أغانٍ متتابعة لها واستمعت بانتباه لأغنية تلو الأخرى، وإذا بفيروز تتفجر في داخلي، واستطعت ببساطة أن ألعب اللعبة كما لعبها الأستاذ بلال، وحددت أغنية كل مرحلة في حياتي بسهولة، كنت أعرف الإجابة مسبقاً وإن لم تكن حاضرة في ذهني، ومع تسلل صوتها الساحر إلى أذنيّ استعدت الذاكرة.
أول وعيي بها كانت قصة لأمي تحكي لي كيف أن جدتي أيقظتها مرة على صوتها قادماً من الراديو يقول "أعطني الناي وغني" وكيف أن أمي في تلك الهلاوس بين الصحو والنوم ظنت أنها تستمع إلى الملائكة تغني، حتى أفاقت وعرفت أن الملاك يُدعى فيروز، وكيف وقعت في حبها وحب أغنيتها تلك، ولذا كانت أولى أغنياتها التي أسمعها وأحبها بالتبعية لحب أمي وجدتي لها، ولكنني كطفلة لم أفهم كلماتها ولم يرتبط قلبي بلحنها الدسم، ولكن وجداني ارتبط بحكاية أمي وأحببتها لأجل أمي.
واكتشفت لاحقاً وبعد طول تنقل بين أشكال الطرب – عربيّها وأجنبيّها، غربيّها وشرقيّها – أنني شرقية الهوى، ولكنني لم أعلم ذلك عن نفسي حين كنت طالبة في المرحلة الثانوية، ولأن الامتحانات تنجح دوماً في جذب المرء بعيداً عنها لاستكشاف أنواع مختلفة من الفنون، فكنت أنهي مواسم كاملة من مسلسلات لم أكن لأشاهدها لولا أن وجدت فيها المهرب الوحيد من الكتب الدراسية، وكنت أستمع إلى جميع الأغنيات التي لم أكن لأستمع إليها طواعية في أيام الدراسة المعتادة حتى، وفي ليلة طويلة قررت أن أستذكر دروسي على صوت فيروز، ولم أكن أحب لها حينها الكثير من الأغنيات، رغم غرامي بصوتها، ولكنني لم أمانع في تشغيلها في الخلفية بينما ينشغل عقلي بالدروس – أو هكذا أقنعت نفسي – وعكفت أدرس وأسمع من دون اكتراث، فباغتتني "سلملي عليه" وكأنها أيقظتني من الواقع، أيّ جمال هذا وأيّ عذوبة تلك؟ كيف لم أستمع إليها من قبل، بل كيف لم أعرف أن لفيروز هذه الأغنية؟ "سلملي عليه، وقلّه إني بسلم عليه، بوسلي عينيه، وقلّه إني ببوس عينيه"، مزيج من عذوبة الكلمات وحنانها وخفة اللحن المغرق في شرقيته، لم أسمع لفيروز ألحاناً مثلها من قبل، فتركت الكتب وظللت أستمع إليها طوال الليل، ولم أكن أفهم جميع الكلمات لاختلاف اللهجات كالعادة، ولم أبالي، وقعت تحت سطوة السحر بكامل إرادتي، ولا فكاك، وظللت أسمعها لسنوات، جاهلةً أن ما جذبني إليها ذلك الانجذاب كان لحنها الشرقي الدافيء.
ثم مرت سنوات، واختبرت الدنيا، واختبرت معايشة الحلم واختبرت ضياعه، وفي سنوات الهزيمة الأولى وجدتني "أنا وشادي"، وكأن الزمن خبأها لي عمداً ولم يكشفها إلا في وقتها، يقول البعض أن شادي كان مقاتلاً، ربما، ولكن "أنا صرت أكبر وشادي بعده صغير عم يلعب ع التلج"، لم يكن شادي في نظري سوى الحلم المنهوب، وكنت في تلك الأيام بدأت أدرك مدى تأثير الألحان على مشاعري، وكان ذلك اللحن الغربي ينشر البرودة بين ضلوعي وحول قلبي حين أستمع إليه، ويثقلني بشعور من الاغتراب لا أنسب منه في تلك الأيام، ثم تكرر فيروز ختاماً وبصوت يخلو من المشاعر "ع التلج" فأغرق تماماً في غربتي، وأشعر وكأن قدماً ثلجية لا مبالية تسحق الحلم وتدفنه داخل الثلج، وأراني أقف وحيدة ومنعزلة عمّا حولي ومن حولي. أستمع إليها مئات المرات، وفي كل مرة ينتابني الشعور ذاته، وفي كل مرة تسحقني "ع التلج" الأخيرة إلى عمق أكبر تحت أكوام الثلوج.
ثم أتت سنوات التقوقع واعتقاد أن ثمة ما يدعى النجاة الفردية، وحينها احتلت "البوسطة" العرش وتربعت عليه، تلك الصور الحية لرحلة تبدو واقعية وشاقة كما تبدو حالمة وحيوية، لحن لا تكاد تميز فيه شرقيته من لمساته الغربية الفائحة، يقفز وتقفز معه الكلمات ويتحرك صوت فيروز بينهما بخفة غير مسبوقة، "تذكرتك يا عليا واتذكرت عيونك"، ثمة إشباع مباشر لغروري الشخصي حين أسمع فيروز تذكر اسمي حلواً هكذا، ثم تتبعها "يخرب بيت عيونك يا عليا، يا عليا شو حلوين"، أود لو أراها لأرد لها المجاملة وأخبرها بأنها الحلوة وصوتها الحلو ورب الكعبة، ولكن لم يكن حبي لتلك القطعة الفنية التاحفة مربوطاً بغروري الشخصي فحسب، ولكنها في رأيي من أبدع ما غنت سيدة القلوب، وتكاد الكلمات تتجسد في صور أمامك حين تستمع إليها، ويكاد صوت فيروز ذاته يتجسد، "واحد عم ياكل خس وواحد عم ياكل تين"، أكاد أقرقش الخس، ثم يتبدل الطعم في فمي إلى التين، يتحرك فمي وكأنني ألوك التين، "نيالهن ما أفضى بالهن ركاب تنورين"، أسمع الأصوات المحيطة وأشاهد الركاب بعيني وكل منهم منصرف إلى شأنه في تناغم غير مقصود، وكأن اللحن ناتج نهائي من التحام أصواتهم، أصوات لوكهم الطعام وأصوات عراك ذلك "البشعة مرته" معه، وأصواتهم جميعاً وأنا معهم ونحن "ساعة نهدّي له الباب وساعة نهدّي الركاب"، ثم تعود فيروز وتخاطب مباشرة غروري وافتتاني بنفسي، "وحياتك كان بيتركها تطلع وحدها ع تنورين، لو بيشوف عيونك يا عليا يا عليا، يا عليا شو حلوين"، وأصدقها، ليس لأنني أعلم عن عيناي ذلك السحر، ولكن لأن صوتها أكد لي ذلك التأثير، تلك تحفة فنية – لا أسميها أغنية – أكررها فلا أمل منها، ولا أكاد أقبل سماع اسمي مجرداً من همزته إلا منها، ولا مجال لتخطي هذا القدر المذهل من الجمال والخفة والإبداع إلى ما سواها، لا تكاد تنافسها في عذوبتها سوى "سلملي عليه" أحياناً، بحسب المزاج.
ولكن كما ذكرت آنفاً، ليست فيروز مطربة القلوب فحسب، ولكنها سيدة الجنوب كذلك، وهنا تكمن أزليتها، لن تغرب شمس فيروز بوفاتها مطلقاً، لأنها أتت لتبقى في قلوب جميع المؤمنين بالجنوب وبالصمود وبعودة الحق المغتصب، انحازت إلى ناسها وعروبتها وإلى زهرة مدائننا، ولم تفرط في رمزيتها مطلقاً، ولن تفلح أموال العالم كله في ظني في إقناعها بالتخلى عن موقعها الجنوبي الأثير، فحين تستمع إلى "إسوارة العروس" وتسمعها تقول بحنين وقوة في آن معاً "رسايل الغياب مكتوبة بالسهر، وانت بالعز مكتوب يا تراب الجنوب، وبتولع حروب وبتنطفي حروب، وبتضلك حبيبي يا تراب الجنوب"، تعرف تماماً - رغم بشريتها الظاهرة – أنها الجنوب نفسه، تلك التي رفضت ترك بلادها، ولم يتغير موقفها بتغير سمت المقاومة وشكلها، وظل العدو واحداً في نظرها مهما تعقدت الأمور ومهما تكالبت الخطوب علينا وعليها، تلك التي تصر أننا "سنرجع يوماً إلى حينا"، وتكرر دوماً أن "الغضب الساطع آت وأنا كلي إيمان" و أنه سيهزم وجه القوة حتماً، تعرف فيروز كما يعرف كل عربي شريف أن القوة ليست حليفتنا، وتعرف كذلك كما يعرف كل عربي شريف أننا سنهزم وجه تلك القوة الغاشمة، تعرفنا فيروز أكثر منّا أحياناً، بل نتعلق بأستار صوتها كلما شعرنا بالاغتراب لنجد أنفسنا من جديد، نحن جنوبيون وإلى الجنوب ننتمي، وإنا من فيروز وفيروز منا.