لطالما كنت غير عابئة بعواقب اختياراتي في أغلب الأوقات، أختار ما أراه مناسبًا أو انحيازًا لوجهة نظر ما، وأحيانًا لأثبت لنفسي وللآخرين قدرتي على الاختيار فحسب، ومن نتائج ذلك أنني قلما أشعر بالندم، لأنني لا أؤمن بفوات الفرص، فاتت لأنها لم تكن لي ولم أكن لها فحسب، وأؤمن تمامًا أن "ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك"، بل إنني أتجاوز أحيانًا الحدود المنطقية لقلة الشعور بالندم بأن أبرر لنفسي الأخطاء بحجة أنني لا ينبغي أن أنشغل بالخطأ ذاته وبنتائجه، بل ينبغي أن أنشغل بما تعلمته منه فحسب. وأخيرًا فإن اقتباسي الفني المفضل من مشهد من سلسلة أفلام "قراصنة الكاريبي" حين يقول جوني ديب على لسان القرصان جاك سبارو - المعروف بشخصيته غير المبالية ومتدنية الخلق كذلك - ردًا على حثَه لاغتنام اللحظة المناسبة لاختيار الفعل الأصوب، "أحب تلك اللحظات، أحب أن ألوح لها مودعًا بينما تنقضي"، دلالة على انعدام مبالاته بفوات مثل تلك اللحظة الفارقة التي يتحرى الإنسان فيها الأفعال الأخلاقية وينحاز لها. ومنعًا لسوء الفهم، فإنني لا أدَعي التماهي مع تدنيه الأخلاقي، ولكنني أتفهم تمامًا قلة ندمه على فوات الفرص فحسب.
أسوق إليك أيَها القارئ تلك المقدمة لأبرهن على قلة اكتراثي بفكرة الندم، وعلى ميلي العقلي والنفسي إلى تخطي الأحداث والمواقف والفرص الضائعة والقفز إلى اللحظة التالية التي قد لا تضيع والتي قد أستطيع انتهازها. أستفيض في تبيان هذا الجانب مني لأنني في الحقيقة أريد أن أحدثك عن المرة الوحيدة التي شعرت فيها بالندم الحقيقي، ذلك الندم الذي يجعل الإنسان يعض أصابعه ويستعيد اللحظة التي مرت والتي كان ينبغي أن يقتنصها مرات ومرات في كل يوم وكل ليلة، تلك اللحظة في صباح يوم من عام 2012، حين سنحت الفرصة - كما لم تسنح من قبل ولا من بعد - لزيارة غزة في محاولة لرفع الحصار عنها إبان الحرب الصغيرة التي لم تستمر أكثر من ثمانية أيام مع عدد من الوفود الطبية ومع عدد ضخم من النشطاء والفاعلين السياسيين حينها، كان التحرك في الصباح الباكر وكنت نسقت مع عدد من المنظمين لأتحرك معهم في الحافلة التي أعدوها من ضمن حافلات عدة اشتملت عليها تلك القافلة، ثم قررت يومها صباحًا أو ليلتها مساء أنني لن أذهب معهم.
أحاول أن أكون أمينة مع نفسي ومعك أيها القارئ، فلن أزعم أن السبب وراء قرار انسحابي كان قهريًا، أو أنني واجهت مشكلة ما استدعت بقائي في القاهرة، لا أتذكر السبب تحديدًا في الحقيقة لأنه كان تافهًا على الأرجح، ربما مجرد حالة عابرة من الاكتئاب دعتني إلى المكوث في البيت، وربما لم أرغب في الاستيقاظ مبكرًا لأتمكن من اللحاق بالقافلة، وربما لم أرد الدخول في اشتباك مع أمي لأقنعها بضرورة الذهاب، حقًا لا أتذكر، ولكنني مع ذلك قررت بصورة واعية تمامًا أن أقعد عن الذهاب والمشاركة.
ومن الأمانة كذلك أن أخبر نفسي وأخبرك أنني لم أندم حينها ولا حتى بعدها بسنوات قليلة، فبعد عامين قامت حرب أخرى، وإن لم تكن ظروفها مواتية مثلما كان الوضع في 2012، ولكنني كنت حينها تقوقعت تمامًا ولم أتابع حتى ما حدث ولم أعلم كم يومًا امتدت تلك الحرب إلا بعد سنوات منها ولم أهتم مطلقًا، كنت أسير كالموتى الأحياء، بل إنني بدأت في ذلك العام استخدام هاشتاج #زومبي_ومكملين الذي كنت أكتب فيه وحدي وأقرنه بعدد لا بأس به من كتاباتي على فيسبوك، ولم تكن ثمة فرصة تُقتنص حينها في جميع الأحوال، ولكن لم أدرك الندم إلا في عام 2021، متأخرة جدًا كما ترى، أردت حينها الذهاب إلى غزة ولكن لم يكن ذلك ممكنًا، لم يعد ذلك ممكنًا، أغلقت كل السبل ووصدت جميع الأبواب والنوافذ، حوصرت القاهرة كما حوصرت غزة، فبدأت أسترجع الماضي وأفكر بالتمني وأسأل نفسي إن كان ثمة باب فُتح لكسر هذا الحصار المزدوج من قبل، ويالهول تلك اللحظة التي تذكرت فيها كم كان الباب مفتوحًا يومًا ما، وكم كنت مغفلة وغبية وساذجة وعمياء بحيث لم أقتنص الفرصة وأعبر سريعًا من ذلك الباب ولو ليوم، وندمت لأول مرة في حياتي ندم لم يفارقني حتى الآن، ورغم أنني أمضيت عامين كاملين أحاول تناسيه، ولكنه ألقى بظلاله القاتمة وتملكني تمامًا في خريف العام الماضي ولم يعد بالإمكان تناسيه أو تجنبه الآن، "تو ليت" يا عزيزتي كما يقول الأمريكيون.
"لماذا كان الندم من نصيب غزة تحديدًا؟" قد تسألني أيها القارئ العزيز، ولأنني وعدتك بالصراحة منذ البداية للأسف، سأنتهز هذه الفرصة لأوضح أنني لم أزر الكثير من المدن العربية، وأنني كشخص لم يزر دمشق أو بيروت من قبل فلا بد أنك تظن أنني أشعر بندم مماثل على تفويت هاتين الفرصتين كذلك، ورغم اعترافي بحزني على تفويت زيارتهما في الماضي، لكنني لا أشعر أن الفرصة غير مواتية في المستقبل لزيارتهما، ولأكون أكثر أمانة، لا أشعر بندم مماثل على فوات تلك الفرص. صارحتك منذ البداية بطبيعتي، إنني عادة لا أندم ولا أتوقف كثيرًا عند الفرص الضائعة، ولكن غزة ليست كمثل سائر المدن في جميع الأحوال، في نظري على الأقل. تسألني لماذا؟ أود أن أجيبك بعجرفة "إن لم تكن تعرف فما الفائدة من إخبارك؟" ولكنني لن أفعل.
هل تذكر السويس في حرب الاستنزاف؟ المدينة الباسلة، هكذا أطلقنا عليها، مدينة وقف أهلها بالحلل والشباشب في وجه طائرات حربية وقنابل، لم تكن أساطير تُحكى لترميز أهل المدينة، كانت حقيقة شهد بها عدد لا بأس به من أهلها ومن غيرهم، ووثقت المخرجة المصرية الراحلة عطيات الأبنودي قوة وصلابة إحدى سيدات هذه المدينة في الوثائقي القصير "الأحلام الممكنة" الذي انتشر منه مقطع قصير فور اندلاع الطوفان، تذكيرًا للمصريين ببأسهم الماضي - كما ترى يا عزيزي القارئ، لا انفكاك بين السويس وغزة ومصر وفلسطين وهنا وهناك – وتحديدًا حين عبَرت عن حنقها الشديد من جبن الإسرائيلي الذي قالت إنها لو رأته وجهًا لوجه لقضمت رقبته، تلك فلاحة مصرية تسكن منزلًا أرضيًا وتربي الأبناء وتخبز في فرن طيني، وهكذا كان بأسها وصدقها رغم العدوان والحصار ورغم اضطرارها للنزوح في نهاية الأمر.
غزة هي سويسنا الآن، وأكثر، ففيها نرى بأسنا الراحل وكرامتنا الضائعة واستمساكنا الأول بالأرض ودفاعنا القديم عن الشرف، ذهبت المدن العربية وبقيت غزة، مات أهل المدن جميعهم وبقي أهل غزة، لتجد رأسك تؤرجحك بين أسئلة لا حصر لها، لماذا غزة؟ وأين ذهبت السويس والاسماعيلية والقاهرة؟ وأين ذهبت دمشق وحمص وبغداد والبصرة؟ وكيف بقيت غزة؟ وكيف تمحى الآن على مرأى ومسمع من أهل تلك المدن جميعًا؟ ولا نملك لها حراكًا، بل لا نملك حتى الكلمة!
قل عني إنني أؤمن بالخرافات أيها القارئ العزيز، ولكن كما نقول عن مصر إن من يشرب من نيلها لا بد أن يعود إليها محبًا وعاشقًا يروم شرب المزيد، فإنني آمنت أن من يستنشق هواء غزة لا بد أن تنبت الكرامة المهزومة بداخله من جديد، وتسري في دمائه الحميَة، ويحيى موات قلبه، ويستعيد بأسه وأمله وصدقه وشرفه من جديد. ألا ترى الوفود الطبية التي ما تكاد تغادر أرضها حتى تبحث عن سبيل كي تعود إليها مجددًا لتعيش أيامًا تحت القصف والحصار والمآسي التي لا نهاية لها في الأفق؟ تزعم فتاة غزيَة أعرفها أنها رائحة الأرض، وأزعم أنا التي لم أزرها أنها رائحة الهواء، ونعلم جميعًا أنها غزة ذاتها!
لذلك يا عزيزي تزداد نغزات الندم كلما مرت السنوات ولا تقل، الندم الوحيد الذي أتمسك به ويتمسك بي، لأنني معه لا حاجة بي للبحث عن الأحلام التي كانت ممكنة وأصبحت ضائعة، ولا حاجة بي للبحث في صفحات الماضي لأتذكر من أنا ومن نحن ومن كنا وكيف أصبحنا. تلك المدينة الأقرب إلينا مكانًا، وإلى قلوبنا مكانة، حيث استودعنا أحلامنا وآمالنا وشرفنا وشجاعتنا ونضالنا الأزلي، تلك التي يخشى جميع مالكي المدن المحيطة بها منها لعلمهم بأن منها البداية ولن تكون لها ولنا نهاية بعدها!