بعد حادثة جاك فروست إنتقلت أخبار وجود واحد جديد منّا في جميع أصقاع العالم لكن حتّى بعد مرور ثلاثة أشهر لم نجتمع لمناقشة هذا الموضوع المهمّ لذلك قرّرتُ في تلك الفترة رفقة الأمّ الطّبيعة -التي بدأت هيأتها بالتغيّر إلى هيئة إمرأة شابّة بشعر أسود مع إقتراب الرّبيع- تعليم جاك عن ماهيّتنا، عن هذا العالم و خاصّة عن البشر بينما ظلّ موت يراقبنا من بعيد.
كنتُ أنا و صديقتي جالستين قرب الشّجرة العملاقة بينما كان فتى الصّقيع يلعب مع بقيّة الحيوانات و فور رؤيتي لإبتسامته لمعت في ذهني ذكريات قد مرّت عليها عدّة قرون فارتسمت على وجهي إبتسامة جعلت الأمّ الطّبيعة تسألني عن ذلك فأجبتها قائلة:
-"أتعلمين؟ إنّه يذكّرني بنفسي عندما خطوتُ أولى خطواتي في هذا العالم..أذكر ذلك اليوم كما لو أنّه حدث بالأمس..كنت وحيدة في الغابة العظيمة حين وجدني موت.."
-" إنتظري، قاطعتني قائلة، هل قلتِ أنّ موت كان موجودا قبلك؟!"
-" نعم..لماذا يتفاجأ الجميع عندما أخبرهم بهذا ؟"
-" أعني..أليس من المنطقي أن تكوني أنتِ موجودة قبله ؟"
-" لا لا بالعكس..المنطق يقول أنّ العدم وُجد قبل الوجود نفسه لذلك فالموت موجود قبل الحياة."
-" هذا أمر غريب حقّا ؟"
-" كفانا من الفلسفة و دعيني أُكمل ما بدأته..عليّ الإعتراف بأنّه عندما وجدني موت كُنت خائفة منه بعض الشّيء بردائه الأسود المتماهي مع ظلام الغابة و نظراته الحادّة تلك..لكن فور سماعي لصوته أحسست بنوع من الطّمأنينة..لقد قام بتربيتي و جعلي ما أنا عليه الآن لكن عندما أصبحت لي عدّة مسؤوليّات بدأنا نبتعد عن بعضنا حتّى كدنا نصبح غرباء."
-" أنا حقّا لا يمكنني تصديق ما أسمعه الآن..موت هو من إعتنى بحياة لكن إن فكّرت قليلا بالأمر فذلك يفسّر صراخه في وجهك في المرّة السّابقة..إنّه يعتبرك فردا من..ماذا يسمّيها البشر ؟ ماذا كانت تلك الكلمة ؟ لقد نسيت .."
-" أتقصدين كلمة 'عائلة' ؟"
-" نعم ! هذه هي الكلمة التي أبحث عنها"
فجأة قاطعنا صوت نعيق غربان في المكان ممّا جعل الحيوانات تهرب بعيدا تاركة جاك وحيدا ثمّ ظهرت هي، ربّما قد يعرفها بعضكم بمشعوذة الغابة و ربّما قد سمع بعضكم بأفعالها الوحشيّة تجاه البشر و خاصّة الأشرار منهم، لكن يبقى إسمها الأكثر شهرة هو باباياغا. هي تتّحذ شكل إمرأة تجاوزت الأربعينات من عمرها بشعر أسود طويل مجعّد و وجه أبيض شاحب يزيد من أعينها الصّفراء الغارقة في ظلام محجريها رعبا.
اقتربت المشعوذة من فتى الصّقيع ببطء ملامسة ذقنه بأصبعها ذات الأظافر السّوداء و الطّويلة قائلة بصوت يحمل بعضا من البحّة و كثيرا من الرصّانة:
-" إذن أنت هو الجديد.."
-" من تكونين يا هذه ؟"
-" أنت لا تعرف من أكون..ألم تخبرك صديقتاك عنّي"، أجابته مظهرة إبتسامة سخرية خفيفة ثمّ التفتت إليّ مكملة:
-" أنا باباياغا"
-" ما الذي تريدين منّا يا هذه ؟"، ردّت الأمّ الطّبيعة بوجه محتقن.
-" هه..أنت تبدين في غاية اللّطف عندما تبدئين بالتحوّل بين هيئة الشّتاء و الرّبيع."
-" لقد سألتك سؤالا لذا أنا أنتظر إجابة هنا"
-" حسنا حسنا لم كلّ هذا الغضب على ذلك الوجه الجميل...لقد شاهدت ما حدث عبر أعين غرباني لكنّني أردت أن أشهد رؤية "الجديد" شخصيّا..هذا هو كلّ ما في الأمر"
-" ها قد رأيته الآن..يمكنك الآن أن ترحلي"
-" ما الذي تفعلينه ؟"، نهرتُ صديقتي بصوت منخفض،"هي لم تفعل أيّ شيء لتستحقّ هذه المعاملة".
-" صدّقيني يا حياة إنّها تستحقّ أسوء من ذلك بكثير..أينما تحلّ هي تحلّ معها الكوارث..إنّها نذ.."
قبل أن تكمل جملتها تلك كان نعيق الغربان يزداد بقوّة بينما بدأت عينا باباياغا تلتمعان باللّون الأصفر ثمّ قالت بعضلات وجه متقلّصة:
-" إنّه..قادم"
نظر جاك حوله ليجد كلّا من حياة و الأمّ الطّبيعة ترتجفان و قد إتّسعت عيناهما فصرخ قائلا:
-" من ؟..من الذي تتحدّثون عنه ؟"
-" الكثولو، أجبته قائلة، جاك مهما فعلت..إيّاك أن تفعل أيّ شيء متهوّر أسمعتني ؟ عدني بذلك الآن"
-"حسنا..حسنا أنا أعدك لكن ما كلّ هذا ال... "
و قبل أن يكمل فتى الصّقيع جملته أحسّ بحضور بارد كأنّ أوزانا وُضعت على رقبته. حاول رفع رأسه ببطء ليجد وحشا أخضر عملاق غطّى السّماء بأكملها، محطّما مع كلّ خطوة يخطوها عشرات الأشجار بسيقانه الشّبيهة بسيقان الفِيَلة، شكل رأسه شبيه بجسد أخطبوط، يحمل أجنحة تنّين على ظهره مع أعين حمراء قانية و زئير يصمّ الآذان.
-" ما..هذا ال..، قال جاك غير قادر على إكمال جملته، كيف يمكن لهذا أن يكون حقيقيّا ؟"
بدأت إحدى مجسّات وجه الكثولو بالتحرّك متقدّمة نحو جاك الذي شُلّ كلّ جزء من جسده بسبب الخوف ثمّ بدأ ذلك المجسّ بمحاولة إكتشاف وجه الفتى دون لمسه، كان باطن ذلك المجسّ يبدو ورديّ اللّون و دبقا بشكل مقزّز و قبل أن يدرك الجميع ذلك اختفى الوحش العملاق فجأة ثمّ بدؤوا بسماع خطوات من وراء الشّجيرات المحطّمة و المكسورة ليظهر أمامهم ولد أقصر قليلا من جاك بشعر أسود طويل على شكل ظفائر بنهايات خضراء و بشرة نحاسيّة مع أعين ذات قزحيّة حمراء.
اقترب الولد من فتى الصّقيع في صمت ثمّ مدّ يده مصافحا بابتسامة مشرقة قائلا بنبرة صوت غير متوقّعة و مناسبة لهيأته الجديدة:
-" مرحبا أيّها الجديد أنا الكثولو، أظنّهم يسمّونك جاك أليس كذلك ؟"
لم يستطع أيّ أحد تصديق ما يرونه أمامهم، ذلك الوحش المخيف الذي غطّى عالمهم قبل قليل -و الذي قيل عنه أنّه أقدم كيان وُجد بينهم- غيّر هيأته إلى هيئة ولد لطيف و جاء لمصافحة جاك بابتسامة.
-" آ..أنا..أنا أظنّ ذلك"، أجابه فتى الصّقيع محدّقا في كلّ تفاصيل ذلك الجسد الصّغير الواقف أمامه.
-" أظنّك أنت حياة أليس كذلك ؟"، قال الكثولو لي أنا غير قادرة الإجابة سوى بالإيماء برأسي إلى الأعلى و الأسفل ثمّ التفت إلى البقيّة مكملا :
-" و أنتما الأمّ الطّبيعة و باباياغا، أنظروا إلى أنفسكم لقد كبرتم جميعا"
-" أنظر إلى نفسك أوّلا، غمغمت باباياغا، أكبرنا سنّا يأتي في هيئة ولد"
-" ما الذي تفعلينه ؟"، همست الأمّ الطّبيعة لاكزة باباياغا.
-" ماذا ؟ هل ما قلته كان خاطئا"
-" أوه ! أين ذلك الشقيّ موت ؟"
-" موت شقيّ ؟ أظنّ أنّ العجوز صار يُخرّف"، ردّت مشعوذة الغابة غير قادرة على إخفاء السّخرية.
-" إن لم تخرسي حالا فإنّني أقسم أنّني سأقيّدك بجذور الشجرة العظيمة تحت الأرض إلى الأبد"، ردّت الأمّ الطّبيعة.
-" إنّه ليس هنا، رددت قائلة، ربّما هو في مهمّة أو يراقبنا من بعيد"
-" هه إنطوائيّ و غامض كعادته، قال الكثولو، أين الباقون ؟ هل أتيتُ باكرا أم ماذا ؟"
-" ربّما سيأتون، ردّت حياة، قريبا"
-" إذن دعوني أجلس قليلا، قال الكثولو متّجها نحو جذع شجرة قريب منه، لا يمكنني الوقوف لوقت طويل..و الآن يا ذا الشّعر الأبيض تعال إجلس بقربي و أخبرني عن نفسك"
-" ما الذي سأخبرك به ؟ أنا لم أعش طويلا لأعرف ما أكونه حتّى أخبر أحدا آخر عن نفسي"، أجابه جاك فروست جالسا بقربه.
-" لا تقلق هناك دائما قصّة..أتعلم أنا لم أزر هذا المكان منذ ظهور البشر على الأرض"
-" ماذا ؟ هذا لا يصدّق !، قاطعه الفتى و قد اتّسعت عيناه، أنت حقّا عجوز !"
عندها صفعتُ جبهتي بقوّة بينما ضحكت باباياغا مضيفة :
-" لقد بدأت أحبّ هذا الفتى"
-" لقد كنت مختبئا طوال الوقت في أعماق البحر"، ردّ الكثولو.
-" ها ؟ ما هو البحر ؟"
ضحك الكثولو ثمّ أجابه مبتسما :
-" البحر..إنّه مكان واسع جدّا..جميل و مخيف بعض الشيء"
-" سأزوره في وقت ما "
-" عليك فعل ذلك إنّه مكان يستحقّ أن تشاهده بأمّ عينيك"
-" لماذا كنت مختبئا هناك ؟ هل أخافك البشر"
-" لا لقد أردت أن أترك لهم اليابسة كمساحة شخصيّة بعيدا عن عالمنا نحن"
-" لقد أخبرتني حياة أنّ البشر رغم ضعفهم إستطاعوا فعل أشياء لا يمكن تصديقها"
-" نعم ما قالته لك حياة صحيح بالفعل..البشر كائنة مذهلة بالفعل..إنّهم يجعلونك تدرك أنّ المستحيل مجرّد وهم..طوال هذا الوقت كنت أراقبهم من داخل أحلامهم مصغيا إلى أفكارهم، مخاوفهم و حتّى مشاعرهم و دعني أخيرك شيئا ما..إنّه لا يتوقّفون عن إبهاري في كلّ يوم"
-" لكن هناك أمر ما لا يزال يقلقني عنهم طوال هذا الوقت"، قال فتى الصّقيع محدّقا في الأرض بيأس.
-" ماهو ؟ أخبرني"
-" إنّهم..إنّهم يفعلون أشياء مريعة"
-" أنا أعلم جيّدا ما الذي تتحدّث عنه، أجابه ملامسا طرف ظفيرته، البشر كائنات معقّدة لا يمكنك أن تصنّفها بين الأبيض و الأسود..إنّهم تدرّج بين اللّونين..بعضهم يميل إلى الأسود و الآخر إلى الأبيض"
-" لا تلمهم على فعل ما يفعلونه، ردّت باباياغا، الخوف هو ما يجعلهم يفعلون ذلك..تلك غريزتهم الأولى"
-" كان هذا..كان هذا قولا ناضجا منك !"، قالت الأمّ الطّبيعة بصوت فرِح.
-" و كان هذا تعليقا طفوليّا منك"، قالت المشعوذة العجوز بابتسامة عريضة.
- " هه هاتان الفتاتان لا تتوقّفان عن الشّجار و لو للحظة واحدة"، قال الكثولو ثمّ أكمل هامّا بالوقوف :
-" لا تقلق يا جاك مع مرور الوقت ستتشكّل الحقيقة داخلك..فقط فلتعطي الأمر بعض الوقت فقط و سترى..أمّا الآن عليّ أن أعود إلى مكاني..آه لقد كبرت كثيرا..أراك قريبا يا فتى الصّقيع..لقد سررت كثيرا بمعرفتك"
بدأ الكثولو بالمشي معيدا نفسه إلى هيأته القديمة متلاشيا في الفضاء بلمح البصر.
- " أنا أيضا عليّ الذّهاب الآن"، قالت باباياغا متحوّلة إلى سرب من الغربان محلّقة بعيدا في السّماء.
***
عاد جاك إلى اللّعب رفقة بقيّة الحيوانات بينما عُدت أنا و الأمّ الطّبيعة إلى الجلوس أسفل جذع الشّجرة العملاقة.
-" من كان ليصدّق أنّهم سيأتون بعد كلّ هذه السّنوات، قالت صديقتي، الكثولو نفسه لم يحضر عندما ظهرت أنا، ربّما جاك حقّا مميّز بطريقة ما"
-" ربّما"، أجبتها.
" آه الرّبيع سيحلّ قريبا، قالت الأمّ بنيرة إستياء ملامسة بساط الثّلج، سأعود إلى العمل من جديد"
-" لا تقلقي، أجبتها مربّتة على رأسها، إن وجدت بعض الوقت سأساعدك كعادتي"
-" على أيّ مكان ستُفتح البوّابة أوّلا يا ترى ؟"
-" أنا أتوقّع أنّها ستكون مدينة تيقاسلا"
-" ما رأيك لو أحضرنا جاك معنا ؟ ربّما ستفيدنا قدراته"
-" أنت تعلمين أنّه يصنع الثّلج، إنّه لا يزيله"
-" أنت لن تعلمي ما لم تجرّبي ذلك صحيح"
***
وقفنا نحن الثّلاثة : أنا, الأمّ الطّبيعة و جاك فروست أمام فتحة عملاقة في جذع الشّجرة العظيمة منتظرين إنفتاح البوّابة نحو عالم البشر.
-" هل يقوم أحدكما يتذكيري عن كيفيّة عمل البوّابة ؟ رجاءً"، قال فتى الصّقيع.
-" رائع..جاك بدأ ينسى مجدّدا، ردّت الأمّ في إستياء، لقد أخبرناك أنّ هذا المكان يدعى ب"الغابة العظيمة" و هو المكان الذي نشأت فيه جميع الكيانات التي تشبهنا"
-" الغابة العظيمة هي بُعد منفصل عن عالم البشر"، أكملتُ ملاعبة شعر جاك الأبيض.
-" إنتظري لحظة، قاطعني الفتى، إذن كيف إلتقينا في المرّة السّابقة بأولائك البشريّين"
-" هذا البعد يسمّى ب"البعد الجيبيّ" أيّ أنّه ينفتح نحو عالم البشر في بعض الأوقات من عدّة أماكن مختلفة في عالمهم"
-" و عادة ما تكون هذه الأماكن هي غابات شبيهة بهذه الغابة كي تتماهى داخل عالمهم و لا تحدث مشاكل لا لزوم لها، ردّت الأمّ الطّبيعة، هل فهمت يا جاك ؟"
-" نعم، لكن بقي لديّ سؤال واحد فقط، ردّ جاك، لماذا نحتاج أن ندخل من هذه البوّابة ؟ يمكننا أن نخرج من هذه الغابة و سنجد أنفسنا في عالم البشر"
-" إن قمنا بذلك النّوع من الخروج فإنّ بقاءنا هناك لفترة سيتسبّب بمشاكل فيزيائيّة لعالم البشر لكن إن دخلنا عبر البوّابة فسنضمن عدم وجود مشاكل لهذا العالم أكثر ممّا هي عليه، هل إنتهت أسئلتك يا جاك ؟ أيمكننا الذّهاب الآن ؟"
-" حسنا حسنا، ذكّراني ما الذي سنفعله هناك ؟"
-" أنا سأقوم بجلب الرّبيع و أنت ستحاول مساعدتي في فعل ذلك, حياة سترى إن كانت لديها مهام و ستلحق بنا في ما بعد، هل يمكننا الذّهاب الآن ؟"
-" أجل بالتّأكيد !"
-" لا تقم بأيّ فعل متهوّر، أسمعتني ؟ "
-" هذا سيكون ممتعا !"
دخلنا عبر البوّابة لنجد أنفسنا داخل غابة في مدينة "تيقاسلا"، حلّقت عاليا لإنجاز مهمّاتي بينما ودّعني كلّ منهما متمشّيين نحو قلب الغابة لبدأ عمليّة جلب الرّبيع.
***
بين فروع الغابة المتشابكة، كان هناك من يراقبهما في صمت، هيأته شبيهة بموت لكن بأعين فضيّة تثير الرّعب. "أخيرا ظهرت في هذا العالم أيّها "الجديد"..لقد عدنا للمتعة ثانية يا موت"، قال بصوت ذي نبرة واثقة تحمل بحّة تثير القشعريرة.