هذه القصّة ليست عنّي أنا حياة أو موت إنّها عن واحد آخر مثلنا و لكنّه أيضا مثلكم.

حصلت هذه القصّة منذ زمن بعيد..كانت المرّة الأولى التي التقيت فيها المسمّى بجاك فروست...

ماذا ؟ أنتم لا تعرفون من هو جاك فروست ؟!

لا! لا! أنا  متأكّدة أنّكم جميعا تعرفونه بطريقة ما أو بأخرى..أنتم فقط لا تعلمون إسمه.

ماذا ؟! أنتم لا تعلمون بوجوده أصلا..ما بال أبناء هذه الأيّام ؟!

أتذكر تلك المرّات عندما كنت طفلا..عندما تنهض من فراشك الدّافئ في صبيحة أحد أيّام فصل الشّتاء إثر سماعك لصفير الرّياح وسط سكون العالم في ذلك الوقت من اليوم (و ربّما إن ركّزت قليلا وسط كلّ ذلك الصّفير ستستطيع سماع صوت ضحكات ولد شقيّ) ثمّ تنظر من نافذة غرفتك لتجد ندف الثّلج ملتصقا بالزّجاج.

ألم تتساءل يوما عن من الذي فعل ذلك ؟

نعم، إنّه هو ! و لا تقلق..ما أخبرك به والدك(تك) أو معلّمك(تك) بأنّ ندف الثّلج يتكوّن نتيجة تراكم البلّورات في كتل هواء مفرطة التشبّع عن طريق التحامها مع قطرات الماء السّحابية فائقة البرودة التي تتجمد وتتراكم بشكل بلّوري هو صحيح أيضا لكن حاول أن تنسى هذا الأمر لبعض الوقت، حسنا ؟

و الآن دعنا من كلّ هاته التفاصيل و لنبدأ هذه القصّة.


أظنّ أنّ أغلبكم يعلم أنّ هيئة صديقتي الأمّ الطّبيعة تتغيّر خلال كلّ فصل من فصول السّنة ففي الرّبيع تكون إمرأة شابّة شديدة الجمال، في الصّيف تصبح إمرأة أكبر قليلا في السّن محاولة الإحتفاظ ببعض جمال الرّبيع بعينيها الواسعتين التي تتحوّلان تتدريجيّا من الأخضر إلى البرتقاليّ و شعرها الفحميّ النّاعم الممتدّ حتّى خصرها الذي تبيضّ بعض من خصلاته، في الخريف تصبح عجوزا بشعر أبيض بالكامل، أمّا في الشّتاء فهي تعود إلى هيئة فتاة صغيرة محتفظة بشعرها الأبيض مع أعين زرقاء و إبتسامة خجولة مرتسمة على وجهها الشّاحب.

في ذلك الوقت من السّنة، حين توشك صديقتي على التحوّل إلى هيئة الفتاة الصّغيرة تطلب مساعدتي لأحلّ مكانها لبعض الوقت تفاديا لأيّ مشكلة قد تحدث خلال تغيّر هيأتها فعلى عكس بقيّة تحوّلاتها التي تتغيّر تدريجيّا ، هذا التحوّل يحتاج لبعض الوقت حيث تضع نفسها داخل شرنقة حريريّة موضوعة في قلب شجرة عملاقة في الغابة العظيمة و تغرق في نوم عميق، و مدّة هذا السّبات تختلف من سنة إلى أخرى فأحيانا يحتاج الأمر ساعة أو إثنتين و  في أحيان أخرى يصل الأمر إلى شهر بأكمله.

في تلك المرّة و قبل أن تذهب الأمّ الطّبيعة إلى سباتها أخبرتني بأمر غريب قائلة:

-" منذ نهاية الشّتاء الماضي بدأت أشعر بهالة كيان جديد يعيش داخل هذه الغابة لكنّني لم أستطع العثور عليه و لو لمرّة واحدة."

فابتسمتُ مجيبة إيّاها:

-" و ماذا في ذلك ؟ يولد كيان جديد خلال كلّ ثانية تمرّ، قد يكون حيوانا أو إنسانا أو حتّى بذرة سقطت من إحدى الأشجار."

-"لا، أنا لا أقصد ذلك، أنا أعني كيانا..مثلنا."

لا يمكنني وصف ما أحسست به في تلك اللّحظة، كأنّ صاعقة قد مرّت من خلف رقبتي تاركة تنمّلا يسري في كلّ أنحاء جسدي ثمّ أضفت غير قادرة على إيقاف تردّد شفتيّ :

-"م-ما..ما الذي تقولينه ؟..كيان..ج-جديد..هذا مستحيل."

-" عليّ الذّهاب الآن..."

-"ماذا تفعلين ؟! أستتركينني وحدي مع هذا ال.."

-" ماذا، أجابتني و قد إرتسمت على وجهها العجوز إبتسامة ساخرة، هل أنت خائفة ؟"

-" أنا ؟..لا..لا..مستحيل."

و قبل أن أدرك ذلك وجدتها قد قطعت نصف الطّريق إلى الشجرة العملاقة تاركة إيّاي وحيدة وسط الغابة و قد بدأ الثّلج بالتّساقط في صمت حاطّا على الأرض ببطء و نعومة.

***

مرّت عدّة أيّام على سُبات الأمّ الطّبيعة دون أيّة مشاكل تُذكر..أو أيّ إشارة على وجود ذلك الكيان الجديد في الجوار لكنّ أمره ظلّ يشغل تفكيري طوال الوقت.

" من الذي كان سيتوقّع هذا الأمر ؟، قُلت في نفسي هامّة بالجلوس على غُصن شجرة عملاق انحنى نحو الأرض بسلاسة، بعد كلّ هذه القرون..يظهر واحد جديد"

حلّ اللّيل و ظهر القمر على شكل قرص فضّي مكتمل يعكس ضوءه الأبيض على سطح الثّلج. فجأة بدأت بسماع صوت تحرّك في الأرجاء فجُلت بناظري باحثة عن مصدر الحركة لكنّني لم أجد شيئا سوى غصن مكسور على الأرض بالقرب من شجرة قريبة منّي.

إقتربت من تلك الشّجرة لأجد شيئا غريبا على جذعها، لقد إنتشرت عليه طبقة من الصّقيع على شكل نقوش جميلة و فريدة لم يسبق لي رؤيتها من قبل.

" من هناك ؟، صرخت قائلة، أنا أعلم بوجودك..هيّا أظهر نفسك أمامي الآن !"

ظللت أترقّب خروجه لعدّة ثوان دون سماع أو رؤية أيّ شيء آخر عدى صفير رياح الشّتاء فقرّرت العودة إلى مكاني و الجلوس و إثر إستدارتي وجدته واقفا أمامي قائلا بنبرة صوت تمزج بين الهدوء و العفويّة : "أهلا  !".

كان ولدا ذا شعر أبيض بياض الثّلج، ناعم و منسدل على جبينه و على أعينه النّابعة بلون أزرق زُمرّدي جميل، حاملا لعصا طويلة منحنية في قمّتها.

-" مرحبا سيّدتي !، قال جاك مادّا يده لمصافحتي، أنا أدعى جاك..أنا آسف هل فاجأتك؟"

- "لا بأس، أجبته غير قادرة على إخفاء إبتسامتي ثمّ صافحته ، أنا بخير."

" يبدو أنّه طيّب، قلت في نفسي، هيئته شبيهة بالبشر الشّباب..حتّى أنّه يمتلك حسّ المرح الخاصّ بهم"

طفا فتى الصّقيع في الهواء محدثا حوله نسمات من ندف الثّلج، محدّقا فيّ في صمت مع إبتسامة تعلو محيّاه ثمّ بدأ بالدّوران حولي قائلا:

-" ما اسمك ؟"

- " حياة"

- " لا يمكنني أن أصف لك مدى فرحتي بلقائك..أخيرا هناك من يستطيع رؤيتي"

- " هذا لأنّني مثلك"

- " مثلي ؟ هل هذا يعني أنّ هناك آخرون مثلنا ؟"

- " نعم"

- " هذا رائع ! "، صرخ جاك محلّقا في الهواء تاركا وراءه رياحا بيضاء ثمّ عاد إليّ قائلا :

- " متى يمكنني مقابلتهم ؟"

- " أنا-آ- أنا لا أعلم لكنّني أظنّ أنّ ذلك سيكون قريبا جدّا" ثمّ أضفت قائلة في نفسي : " أنا لا أذكر أيّ مرّة إستطعنا فيها أن نجتمع في مكان واحد"

- " لقد كنت أراقبك منذ مدّة..لقد كنتِ رفقة امرأة عجوز لكنّها اختفت داخل الغابة"

- " أنت تقصد الأمّ الطبيعة..لا تقلق إنّها ستعود قري..."

قاطعني شعور بالألم للحظات إثر صوت إنفجار عال آت من مكان قريب جاعلا الطّيور النّائمة تنهض من أعشاشها في آن واحد بينما صرخ جاك قائلا : " ما هذا ؟" منطلقا نحو مصدر الصّوت فاستوقفته قائلة :

- "إلى أين أنت ذاهب ؟ ماذا ستفعل ؟"

- " عليّ أن أعرف ماذا يحدث هناك" ثمّ أكمل طريقه متجاوزا الأشجار بسرعة هائلة.

" عليّ إيقافه، قلت في نفسيّ لاحقة به، هذا الصّوت هو بالتّأكيد صوت طلق نار خاصّ ببندقيّة صيّاد ما..جاك لا يعلم على الأرجح حقيقة البشر بعد."

عندما وصلت إلى هناك وجدت غزالا ميّتا على الثّلج، جاك راكع على الأرض محدّقا في الحيوان بوجه مرتبك بينما لا يزال صيّادان واقفين هناك بالقرب منهما غير قادرين على التوقّف من الضّحك ثمّ أثنى أحدهما على الآخر على تصويبه الجيّد بينما بدأ وجه فتى الصّقيع بالغرق في غضب لا ينتهي.

بدأتُ بالإقتراب منه ببطء و قبل أن تلامس يدي كتفه حلّت عاصفة ثلجيّة حوله ممّا جعل الصيّادين يصرخان متراجعين إلى الوراء ثمّ إختفت العاصفة و ظهر جاك مقتربا بخطوات ثابتة منهما فأمسك برقبة أحدهما و بدأ يرفعه عاليا بينما بدأت الدّموع تنهمر من عينيه قائلا بصوت مختنق : "لماذا ؟ لماذا ؟ لماذا ؟"

فجأة صرخ الرّجل الآخر حيث بدأنا نظهر لهما قائلا : "م-م-ما هذااااا ؟!" و انطلق هاربا.

" لقد أصبحا يستطيعان رؤيتنا الآن، قلت في نفسي، عليّ  إيقافه قبل أن تزداد المشكلة تعقيدا"

إنتقلتُ آنيّا بالقرب منهم و وضعت يدي على ذراع جاك قائلة :

- " أتركه يا جاك..دعني أشرح لك ما حدث إنّهم..."

- " ماذا ستشرحين لي ؟، قاطعني ناظرا نحوي بأعين يملؤها الحقد و الألم، إنّهم قتلة ! هؤلاء البشر اللّعينون قتلة"

- " أعلم ذلك..أرجوك أنزله..أنا أعدك بأنّي سأشرح لك كلّ شيء..أنا أترجّاك"

و قبل أن أدرك ذلك عمّت المكان هالة مظلمة و ظهرت يد قاذفة جاك عشرات الأمتار إلى الوراء ليرتطم هذا الأخير بجذع شجرة و تسقط عليه أطنان من الثلج. صاحب تلك اليد كان موت و قبل أن يزداد فزع الرّجل مرّر موت يده أمام وجه ذلك البشريّ فغطّ في نوم عميق على الفور ثمّ قام بنقله آنيّا إلى مكان آخر بفرقعة من إصبعيه.

- " ماذا تفعلين ؟!، صرخ موت في وجهي، أتتركينه يفعل ما يحلو له بالبشر ؟ "

في تلك اللّحظة لم أستطع إجابته و ظللت غارقة في الصّمت فقط بينما أكمل كلامه متقدّما نحو جاك :

- " لقد كاد يقتل ذلك الرّجل..ما فعله يعدّ خطئا كبيرا و أنتِ ظللتِ تشاهدين ما يحدث دون حراك..ماذا تدعين هذا ؟ هيّا تكلّمي !"

نهض جاك من تحت الثّلج محدّقا في موت صارخا:

- " من تكون يا هذا ؟"

- " أنا ؟"، ردّ موت ثمّ أضاف مخرجا أداته السّوداء العملاقة : " أنا من سيوقف لعبك الطّفوليّ هذا"

إنطلق كلاهما في آن واحد بسرعة هائلة و تصادمت عصا جاك بأداة موت محدثة رجّة عمّت المكان بأكمله و عندها أدركتُ أنّني لن أستطيع إيقاف معركتهما المحتومة.

ظلّت أداة كلّ واحد منهما ترتجّ ملتصقة بالأخرى بينما نظرات كلّ واحد منهما تخترق الآخر في صمت ثمّ قفزا إلى الخلف في آن واحد.

- " إبتعد عن طريقي يا هذا !، صرخ جاك، عليهما أن يدفعا ثمن فعلتهما..أنا..أنا سأجعلهما ين.."

- " صمتا !، قاطعه موت، ما فعلته منذ قليل يعدّ خرقا للقوانين"

- " ماذا عن الذي فعلاه بذلك الكائن ؟ ألا يعدّ خرقا للقوانين كذلك ؟"

- "  ذلك أمر مختلف"

- " كيف يعدّ أمرا مختلفا ؟! هيّا أخبرني ! هل مجرّد كونك أقوى من الآخرين يجعلك تفعل بهم ما شئت ؟"

و قبل أن يستطيع موت أن يجيبه لوّح فتى الصّقيع بعصاه صانعا العشرات من الأوتاد الجليديّة الطافية في الفضاء و بحركة واحدة إنطلقت جميعها في آن واحد ليصدّها موت بضربة واحدة من أداته ثمّ قام بالإختفاء وسط الظّلام و الظّهور من خلف جاك مسدّدا ضربة على قفاه جعلته يركع على الأرض فورا و أجابه بعدها قائلا :

- " إنّها دورة الحياة.. كلّ كائن يعيش ليكون في خدمة الكائن الأعلى منه مرتبة في نظام الطّبيعة و ذلك كي تستطيع الحياة التقدّم إلى الأمام..البشر في قمّة ذلك النظام لذا بقيّة الكائنات ستكون في الأسفل لخدمتهم..تقبّل ذلك !"

- "ماذا ؟، ردّ جاك مسقطا عصاه غارسا يديه في الثّلج، هل هذا يعني أنّ البشر سيموتون إن لم يستعملوا الكائنات الأدنى منهم مرتبة في ذلك النّظام"

- " نعم، تدخّلتُ ملامسة كتف جاك فروست، لا يمكننا العبث بذلك النّظام و إلّا فإنّه سينهار بأكمله و ستتوقّف الحياة..أنا آسفة يا جاك"

عندها أدركت أنّ هناك دموعا تتساقط من أعينه في صمت متحوّلة إلى ندف الثلج قبل وصولها إلى الأرض.

في تلك اللّيلة، ظلّ جاك يحدّق في ذلك الكائن الميّت الممدّد على الأرض الثّلجيّة في صمت بينما نلت أنا المزيد من التّوبيخ من قِبل موت بسبب عدم تصرّفي في الوقت المناسب. في ذلك الوقت، لم أكن أستمع إلى توبيخه، كنت أفكّر في أمر واحد فقط محدّقة في فتى الصّقيع الغارق في حزنه الشّديد قائلة في نفسي: " ماذا لو شهد جاك على مقتل بشريّ من قِبل بشريّ آخر ؟..كائن يقتل كائنا آخر من نفس رتبته في نظام الطّبيعة دون تحقيق أيّ هدف يستحقّ أن يقال عنه منطقيّ..ما الذي كان سيفعله ؟..من واجبي أن أعلّم جاك مثل هذه الأمور برويّة و غيرها من الأمور عن هذا العالم الفظيع الجميل..عليّ أن أجعله يعلم أنّ مثل هذه التّدخلات ممنوعة"

" ذلك الولد يمتلك مؤهلات مذهلة لكن عليكِ أن تعتني به و تجعليه يعلم كلّ شيء عن هذا العالم في أقرب وقت ممكن قبل أن يشهد مواقف أكثر وحشيّة من هذه و يفعل أمرا يهدّد إستقرار النّظام"، هذا ما قاله لي موت قبل أن يرحل.

فور حلول الفجر، أتتنا الأمّ الطّبيعة في هيئتها الجديدة متفاجئة بجاك فروست و خاصّة شكله الشّبيه لها قائلة:

- " إذا هذا هو الجديد..ما باله ؟ هل حدث أمر ما أثناء غيابي ؟"

- " صدّقيني..أنت لا تمتلكين أدنى فكرة" ، أجبتها متّئكة على أقرب جذع شجرة محدّقة في السّماء الرّماديّة و أخبرتها بكلّ ما حدث أمّا البقيّة قصّة أخرى سأحكيها لكم في يوم ما. "


-النّهاية-