د. علي بانافع
شاهدت عبر الواتس ومن أصدقاء كثر سنابات الزميل والصديق الرحالة الباهر في المجد الضائع الأستاذ سلطان المرواني في آخر رحلاته إلى الفردوس المفقود الأندلس سابقا أسبانيا والبرتغال حاليا، وفيها نبرة حزن وألم دفين وعميق كعادته على ماضٍ تليد، فانبرى يرد على الاعتداءات والتخرصات ضد تاريخ العرب في الأندلس، بقدر ما ألقى في روعي من الشحنات الإيمانية والنفحات الروحانية الشيء الكثير، ما دفعني إلى ان امتطي صهوة قلمي لأشق غبار الكلمات، وعزائي في ذلك أن الله تعالى قد اقسم بالقلم ولم يقسم بالسيف، بل قرن قسمه بالدفاع عن نبي الحق وحبيب الخلق ﷺ في قوله تعالى: ﴿ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴾ [القلم: 1-2].
من مكة المكرمة وفي جوار البيت العتيق أُشاركه الإحساس بالحزن والألم والمرارة والفقد، إن في فقد الأوطان لغربة للغرباء، ولا شك أن هذه الألم يزداد وهذا الحزن يشتد أكثر وأكثر حينما أكون قد درست هذا التاريخ المشرق، ولمست فضله واستفدت من علمه وعلمائه وتاريخه وحضارته وفنونه، وإني كأحد أبناء التاريخ العربي الإسلامي ومن جملة تلاميذه المنتسبين إليه أقف اليوم معزيا متعزيا ومترجما ومترحما وقد عظم المصاب وعز فيه العزاء.
دلالة هذا الكلام هو رد صارخ واضح إلى الأصوات المطالبة بإلغاء تدريس التاريخ في المدارس والاستغناء عن أقسام التاريخ بالجامعات العربية، قد أفهم مطالبات بتطوير دراسة التاريخ وتدريسه فذلك حق مشروع ويجب الالتفاف له وبقوة، ولكن وقف تدريسه وإغلاق أقسامه الأكاديمية فتلك دعوة خاطئة نرى نتائجها جلية فيما انتهت إليه أحوالنا على امتداد العالمين العربي والإسلامي، من افتقار النخب العربية اليوم للرؤية الاستراتيجية، لو دَرس هؤلاء التاريخ لما كُنا اليوم يُقاتل بعضنا بعضاً ببأس شديد ونخدم رُغماً عن أُنوفنا وعلى عكس كل النوايا والتصريحات والشعارات نخدم مصالح ومخططات أعدائنا، لو دَرس هؤلاء فقط تاريخ الأندلس بكل تفاصيله المُشرفة والمُخزية وخاصة فترة دول الطوائف، دول منها الكبير والصغير ومنها القوي والضعيف، ومن أخطاءها أنها متناحرة متقاتلة أحدها يكيد للآخر كما إنها جميعا تستعين بالغرباء والأعداء ضد الآخر، كل دولة تخطط ضد الأخرى بوسائل عدة تريد أن تطيح بها وجميعها ضعفاء أمام العدو!! لأدركوا ببساطة مواقف وتحالفات ملوك طوائف الأندلس مع الأسبان النصارى ضد منافسيهم وجيرانهم من ممالك المسلمين كأننا أُمة بلا ذاكرة وبلا تاريخ وبلا حكمة.
المهم مما اعجبني في سنابات الرحالة أبو فهد، عندما وقف أمام تمثالين الأول لمحمد بن أسلم الغافقي والثاني لموسى بن ميمون القرطبي اليهودي، رده على ما يروجه الشعوبيون المُحْتَقِرُونَ للعرب: "أن العلماء المسلمين كانوا كلهم من غير العرب، وكل عالم ذي فن برع بلغة الضاد إلا ونسبوه لغير العرب"، وهذه مقولة خاطئة كاذبة فالحقيقة التاريخية أن غير العرب لا يشكلون إلا طيفًا من علماء الحضارة العربية الإسلامية، والباقي كلهم عرب أقحاح ممن عُرفت ودُونت أسماء قبائلهم وأنسابهم، ولو أردت أن أنشر قائمة كاملة لما استطعت احصاءهم ولكي لا اتهم بالانحياز وإن كان ذلك شرف لي، حرصت على أن أوجز فأذكر بعضا من علماء العرب الأندلسيين: فعالم المالكية في الأندلس أبو بكر بن العربي الإشبيلي المعافري اليماني، مؤسس علم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي الإشبيلي الأندلسي، الفلكي إبراهيم بن يحيى التجيبي الأندلسي المعروف بابن الزرقالة، الطبيب العالم بالفلاحة والصيدلة ابن مهند اللخمي الأندلسي، الرحالة الجغرافي والأديب ابن جُبير الكناني البلنسي الأندلسي، الفيلسوف ابن طفيل القيسي الأندلسي، المؤرخ الباحث ابن بشكوال الخزرجي الأنصاري الأندلسي، المؤرخ والفقيه إبراهيم بن محمد بن الحسين الأموي المالكي الأندلسي، المحدث والمؤرخ أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي الغرناطي الأندلسي، المهندس الفلكي ابن الصفار الغافقي الأندلسي، الفيلسوف ابن ماجة التجيبى السرقسطى الأندلسي، المؤرخ القاضي ابن صاعد التغلبي الأندلسي.
هذه القائمة البسيطة من أشهر علماء الحضارة الأندلسية العربية الإسلامية يعرفها الصغير قبل الكبير ممن عرفت أنساب قبائلهم، لكن المناهج الدراسية لا تذكر أنسابهم القبلية وتكتفي بما اشتهر من ألقابهم، علما أن هناك المئات من علماء العرب كانوا ينسبون بأسماء المدن التي هاجر إليها أجدادهم واستقروا فيها، لأن معظم العرب حينما كانوا يهاجرون خارج شبه جزيرة العرب كانوا يُنسبون إما للمدن التي هاجروا إليها أو إلى اسم أول جد لهم هاجر لتلك المدن اختصارا، والحقيقة التاريخية لولا العرب لما وُجد علماء الفرس والبربر والسريان والقوط واليهود وغيرهم، فحتى علماء المسلمين من غير العرب صاروا علماء بفضل العرب الذين كسروا الحدود بين الشعوب والأمم ووحدوا العلم من المشارق إلى المغارب، والأهم من ذلك أنهم كسروا الطبقية التي كانت عند الروم والفرس، فقد كان بإمكان العرب أيام عزهم وقوتهم ومجدهم أن يجعلو العلوم حكرا عليهم ويحرموا باقي الشعوب الخاضعة لحكمهم ويجعلوهم مجرد عبيد ومماليك للخدمات العامة كالعسكرة والحدادة والسقاية والفلاحة وباقي المهن كما كان يفعل الروم والفرس مع رعاياهم، لكن هؤلاء الحاقدون يحاولون الطعن والتحقير من مكانة العرب بنقطة هي تخدم العرب وتُعلي شأنهم فوجود علماء من غير العرب في الحضارة العربية الإسلامية يدل أن العرب فرضوا مبدأ المساواة التامة بين المسلمين وجعلوا الجميع متساوين في الحقوق والواجبات ولم يحرموهم من حق التعليم أوالبزوغ والبروز في العلوم.
أختم بمقولتين الأولى للمستشرق الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب": (ومن المؤسف أن لا نقتبس الشعوب النصرانية من المسلمين التسامح الذي هو آية اﻹحسان بين الأمم واحترام عقائد الآخرين وعدم فرض أي معتقد عليهم بالقوة). والثانية لمواطنه الفرنسي -أيضاً- أناتول فرانس في كتابه "الحياة الجميلة": (ليت القائد النصراني شارل مارتل قطعت يده ولم ينتصر على المسلمين في معركة بلاط الشهداء؟! ويعلل ذلك بأن هذه الهزيمة التي لحقت بالمسلمين كانت عائقا وسببا لتأخر دخول الحضارة والرقي والفن اﻹسلامي العظيم إلى همجية الفرنجة!! وقد استغرق العرب ليتقدموا 200 سنة فقط!! وهذا أمر يدعو إلى الذهول حقا!! بيننا احتاجت النصرانية إلى نحو من 1500 سنة لكي تنشئ ما يمكن أن يدعى حضارة؟! وفي اﻹسلام لم يول كل من العلم والدين ظهره للآخر، بل كان الدين باعثا على العلم، عكس الحضارة الغربية).
رحم الله الأستاذ الدكتور شوقي أبو خليل وهو القائل: دخلنا الأندلس بـ (لا إله إلا الله) وخرجنا منها بـ (أيها الساقي إليكَ المشتكى!!) فإلى الله المشتكى وهو المستعان وعليه التكلان وبه المستغاث ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.