◘ قال المسعودي:
«وكتبُ الجاحظ - مع انحرافِه المشهور - تجلو صَدأَ الأذهانِ، وتكشِف واضحَ البرهان؛ لأنه نظمَها أحسنَ نظمٍ، ورصفهَا أحسنَ رصفٍ، وكَساها من كلامه أجزلَ لفظ».
                                                                            مروج الذهب (4 / 223) دار الكتب العلمية- بيروت

◘ قال أبو هلال العسكري:
وأنا أقول: الصمتُ يورثُ الحبسةَ والحصرَ، وإن اللسانَ كلما قُلّبَ وأديرَ بالقول كان أطلقَ له.
أخبرني بعض أصحابنا قال: ناطقتُ فتىً من بعض أهل القرى، فوجدته ذليقَ اللسان، فقلت له: من أين لك هذه الذلاقة؟ قال: كنت أعمِدُ كل يوم إلى خمسين ورقةً من كتب الجاحظ، فأقرأها برفعِ صوتٍ، فلم أجرِ على ذلك مدةً حتى صرتُ إلى ما تَرى.
                                                                            «ديوان المعاني» (1 / 150) دار الجيل - بيروت

◘ وقال في «الحث على طلب العلم»:

 وحُكي لي عن بعض المشايخ أنه قال: رأيتُ في بعض قرى النبط فتىً فصيحَ اللهجة، حسَنَ البيان، فسألته عن سببِ فصاحته مع لُـكْنةِ أهلِ جلدته، فقال: كنت أعمِد في كلِّ يوم إلى خمسين ورقةً من كتب الجاحظ، فأرفع بها صوتي في قراءتها، فما مَـرّ لي إلا زمانٌ قصير حتى صرتُ إلى ما تَرى.
                                                          «الحث على طلب العلم والاجتهاد في جمعه» (ص: 72) - المكتب الإسلامي 

◘ وقال الجاحظ في رسالته في المعلِّمين:

[ومن قرأ كتب البلغاء، وتصفّح دواوين الحكماء، ليستفيدَ المعاني، فهو على سبيلِ صواب،
ومن نظر فيها ليستفيد الألفاظ فهو على سبيل الخطأ.

والخسران ها هنا في وزن الرّبح هناك؛ لأنّ من كانت غايته انتزاع الألفاظ حمله الحرص عليها، والاستهتار بها إلى أن يستعملها قبل وقتها، ويضعها في غير مكانها.
ولذلك قال بعض الشّعراء لصاحبه: أنا أشعر منك! قال صاحبه: ولم ذاك؟ قال: لأنّي أقول البيت وأخاه، وأنت تقول البيت وابن عمّه.
وإنّما هي رياضة وسياسة، والرفيق: مصلح وآخر مفسد. ولا بدّ من هدان وطبيعة مناسبة.

وسماع الألفاظ ضارّ ونافع.
فالوجه النافع: أن يدور في مسامعه، ويغبّ في قلبه، ويختمر في صدره، فإذا طال مكثها تناكحت ثم تلاقحت فكانت نتيجتها أكرم نتيجة، وثمرتها أطيب ثمرة؛ لأنّها حينئذ تخرج غير مسترقة ولا مختلسة ولا مغتصبة، ولا دالّة على فقر؛ إذ لم يكن القصد إلى شيء بعينه، والاعتماد عليه دون غيره. وبين الشيء إذا عشّش في الصّدر ثم باض، ثم فرّخ ثم نهض، وبين أن يكون الخاطر مختارا، واللفظ اعتسافا واغتصابا، فرق بيّن.

ومتى اتّكل صاحب البلاغة على الهوينَى والوكال، وعلى السّرقة والاحتيال، لم ينل طائلا، وشقّ عليه النزوع، واستولى عليه الهوان، واستهلكه سوء العادة.

والوجه الضارّ: أن يتحفّظ ألفاظا بعينها من كتاب بعينه، أو من لفظ رجل، ثم يريد أن يعدّ لتلك الألفاظ قسمها من المعاني، فهذا لا يكون إلا بخيلا فقيرا، وحائفا سروقا، ولا يكون إلّا مستكرها لألفاظه، متكلّفا لمعانيه، مضطرب التأليف منقطع النظام.
فإذا مرّ كلامه بنقّاد الألفاظ وجهابذة المعاني استخفّوا عقله، وبهرجوا علمه.

ثم اعلم أنّ الاستكراهَ في كل شيء سَمِج، وحيث ما وقع فهو مذموم، وهو في الطّرف أسمج، وفي البلاغة أقبح. وما أحسن حاله ما دامت الألفاظ مسموعةً من فمه، مسرودةً في نفسه، ولم تكن مخلّدةً في كتبه.
وخير الكتب ما إذا أعدت النّظر فيه زادك في حسنه، وأوقفك على حدّه.] اهـ
                 رسائل الجاحظ - الفصول المختارة من كتب الجاحظ (2 / 32-33) - دار الكتب العلمية 1434هـ - 2013م