[بل أنتظركِ لأحيا]
حظيت رواية أحلام مستغانمي الجديدة بتغطية إعلامية واسعة، وانتظرها جموع القرّاء بشغف تجسّد في معرض الشارقة للكتاب، حيث اضطرت المبدعة الجزائرية وإدارة المعرض لتمديد حفل البيع بالتوقيع إلى منتصف الليل. وليس هذا مستبعدا بالنظر إلى الشهرة التي حظيت بها صاحبة رائعة “ذاكرة الجسد” والرواج الذي بلغته أعمالها الإبداعية بدءا بالثلاثية “ذاكرة الجسد – فوضى الحواس – عابر سرير” وكذا “نسيان كوم”، وبشكل أقل مجموع مقالاتها “قلوبهم معنا وقنابلهم علينا” ومجموعتها “الكتابة في لحظة عُري”.
“الأسود يليق بكِ” تناولت حكاية شابة جزائرية من منطقة مروانة بباتنة (الشرق الجزائري) زاولت مهنة التدريس في زمن العشرية الحمراء، ثم توجهت نحو الغناء. اضطرت وأمَّها لمغادرة الجزائر بعد مقتل والدها المغنّي على يد مجموعة إرهابية، ثم مقتل أخيها “علاء” الذي استفاد من تدابير المصالحة الوطنية ليُغتال على أيدي الإرهابيين ذاتهم، فاستقرتا بسوريا، موطن أمها، وبدأت تصنع لنفسها اسما في عالم الغناء.
شدّت “هالة الوافي” انتباه رجل أعمال لبناني كبير أُعجب بها لما رآها في برنامج تلفزيوني فقرر الدخول إلى عالمها مستعملا كل فنون الإبهار.. واستدرجها لتقع في حبه، فاستودعته قلبها وهو المولع بالسفر بين المدن كما النساء. وبين بيروت وباريس وفيينا نُسجت قصة حبّ مضطرم انتهت بقطيعة صادمة، تشبث فيها الرجل بغروره، وتشبثت هي بكبريائها، فمضى كل في سبيله. واختصرت “هالة” تلك العاصفة التي ضربتهما، اجتماعا وافتراقا، بقولها: “أنا امرأة من أنغام وأنت رجل من أرقام.. وليس بإمكان لون أن يجمعنا” (298)
لم تتخلص أحلام من تأثير “نسيان كوم” الكتابية، فهي توجه خطابها كروائية إلى النساء كما فعلت من قبلُ، وتجعل المرأة ضحية “استذئاب” الرجال وهَوَسِهم الشديد بالسطوة والامتلاك
حملت الرواية في طياتها نقدا للعشرية الحمراء والقتلة الذين يسفكون دماء البشر “باسم الله”، كما انتقدت النظام الذي تاجر بالوطن هو الآخر، ووزّع على القتلة صكوك غفران تحت عنوان “المصالحة الوطنية”. “أدرك (علاء) متأخرا أن اللعبة أكبر مما تبدو. كان المتحكمون يضخّمون بعبع الملتحين، يغتالون صغارهم، ويحمون كبارهم الأكثر تطرّفا. يحتاجونهم رداء أحمر، يلوحون به للشعب حين ينزل غاضبا كثور هائج في ساحة كوريدا، فيهجم على الرداء وينسى أن عدوّا قد يخفي عدوا آخر. فهو يرى الرداء ولا يرى “الماتادور” الممسك بالرداء، وفي يده اليمنى السهام التي سيطعن بها الثور، وفي اليسرى الغنائم التي سطا عليها. الخيار إذًا بين قتلة يُزايدون عليك في الدين، وبذريعته يُجرّدونك من حرّيّتك.. وآخرين مزايدين عليك في الوطنية، يهبُّون لنجدتك، فيحمونك مقابل نهب خزينتك” (70).
لم تتخلص أحلام من تأثير “نسيان كوم” الكتابية، فهي توجه خطابها كروائية إلى النساء كما فعلت من قبلُ، وتجعل المرأة ضحية “استذئاب” الرجال وهَوَسِهم الشديد بالسطوة والامتلاك. لم تعتدل كفتا الميزان إلا على يدي “عز الدين”.. الدبلوماسي الجزائري الذي كسب بطيبته واحتوائه لبنت بلده ما جعلها تتخطى عقدة الانكسار أمام رجل الأعمال اللبناني. هل تريد أحلام أن تقول لنا شيئا هنا؟ هي أدرى! أوَلم تقل في (ص323): “الفنّ كما الإبداع، هو في نواته الأولى بذرة انتقام”؟
حافظت الرواية على نفس العلاقة باللغة كما في الثلاثية.. ذاك الأسلوب الشعري الأخّاذ الذي يُضفي على الرواية هالة تملأ الفجوات التي يتركها الأسلوب السردي، وهو هنا بدا مُرتبكا، متقطّعا، كما الأسلوب الحواري المتكلّف الذي يضعنا في قبالة شخصيتين تكشفان بأن ملهمهما واحد، وهذا لم يشدّني إلى قراءة الرواية “على نفس”، كما يُقال!
في الكتاب أيضا ارتباك زمني ظاهر، وهذا واضح في أعمال أحلام مستغانمي الروائية، فالقارئ يجد صعوبة في تحديد الزمن المرجعي للرواية
في الكتاب أيضا ارتباك زمني ظاهر، وهذا واضح في أعمال أحلام مستغانمي الروائية، فالقارئ يجد صعوبة في تحديد الزمن المرجعي للرواية، هل هو 2012 كما يشي بذلك توقيع أحلام في نهاية الرواية، وكما تدل عليه الإشارات الضمنية المتعلقة بالربيع العربي، أم هو ما بين 2003 و2004، تاريخ الغزو الأمريكي للعراق وما تلاه من انفجار العنف في بلاد ما بين النهرين. الأكيد أن الرواية تتحدث ضمن الإطار الثاني [غزو العراق، إشارة ضمنية إلى مقتل الفنانة “ذكرى” (نوفمبر 2003)] لكنّ إشارات الربيع العربي تجعل سنة 2012 حاضرة بقوة في مخيال القارئ. وأحيانا أخرى يشعر القارئ أن الرواية تعالج فترة زمنية أقدم، فهل يعقل أن يتذرع شخص من الطبقة المتوسطة بعدم امتلاك هاتف نقال في 2003 لأسعار الهواتف المرتفعة (حوار هالة مع ابنة خالتها نجلاء)!
هناك أيضا عدم تناسق في تصوير مسيرة البطلة “هالة”، فهي ابنة 27 عاما، قضت 5 سنوات منها في التدريس بالجزائر، ولم يكن لها سوابق في تعلم الغناء سوى ما أخذته عن والدها المغني، ثم استوطنت سوريا وتحولت في “رمشة عين” إلى فنانة لها حضورها في المشهد الفني وشاشات التلفزيون! والكاتبة تصف بلوغ امرأة سن الرشد في عامها السابع عشر بالأمر “الباكر”! “قبل عيد ميلادها السابع عشر بأيام رحل جدّها أحمد. بلغت سنّ الرشد باكرًا” (63).
هذه الارتباك الزمني في تأطير الرواية ليس غريبا على أحلام، ففي “ذاكرة الجسد” على سبيل المثال طفت على السطح تناقضات زمنية غريبة. تختم أحلام روايتها بالآتي “باريس، تموز (جويلية) 1988″، (ويستحيل أن تكون كتبتها حينئذ) في حين أنّ أحداث الرواية نفسها تمتد إلى ما بعد شهر أكتوبر 1988، تاريخ الربيع العربي الجزائري ومقتل “حسان” شقيق البطل “خالد” برصاصة طائشة أثناء مواجهة قوات الأمن للاحتجاجات، وهذه الحادثة كانت سبب مغادرة “خالد” لفرنسا واستقراره في الجزائر بصفة نهائية. وأشار التوقيع إلى أن الرواية كُتبت في باريس، غير أن بداية الرواية تكشف أن الكتابة المنظّمة بدأت في “قسنطينة”، وأن البطل لم يدون سوى مسوّدة بباريس “ولكنني أصمت.. وأجمع مسوّدات هذا الكتاب المبعثرة في حقيبة، رؤوس أقلام.. ورؤوس أحلام”. وفي بداية “الذاكرة” عن هذه الكتابات ذاتها “بعضها مسودات قديمة، وأخرى أوراق بيضاء تنتظر منذ أيام بعض الكلمات فقط.. كي تدب فيها الحياة، وتتحول من ورق إلى أيام”. فأين كُتبت الرواية، في باريس (كما في التوقيع بآخرها) أم في قسنطينة (كما في أول الرواية)؟ ولم أرّخت أحلام للرواية في شهر يوليو في حين أن الرواية امتدت إلى أكتوبر على أقل تقدير؟
في الرواية معان إنسانية جميلة، وقصة ممتعة، وعبارات آسرة.. وإن كان التحول في الرواية نحو النهاية سريعا صادما.. لم يكن في مستوى الصورة التي رسمتها الروائية لرجل الأعمال، وبدا كأنه نوع من استعجال نهايتها وفكّ الارتباط بها. كما أن الروائية لم تستطع أن تنفذ إلى عمق “الفن الغنائي” كما فعلت قبلُ مع الرسم في “ذاكرة الجسد” والتصوير في “عابر سرير”، فهل كان الاشتغال على هذه الرواية من حيث المصادر أقلّ؟ شخصيا أظن أنها كُتبت على عجل، وفي فترتين متباعدتين على الأقل.
“الأسود يليق بكِ” يكشف مرة أخرى طبيعة أسلوب أحلام مستغانمي الجميل، ويرد – مرة أخرى – على المشككين في قدرتها على كتابة نص إبداعي، فكل كتاباتها تحوي روحا متميزة لا يمكن أن تنبعث من سوى “أحلام”.
عبارات استوقفتني:
- قل لي ماذا تعزف أقل لك من أنت (64)
- أدرك (علاء) متأخرا أن اللعبة أكبر مما تبدو كان المتحكمون يضخّمون بعبع الملتحين، يغتالون صغارهم، ويحمون كبارهم الأكثر تطرّفا. يحتاجونهم رداء أحمر، يلوحون به للشعب حين ينزل غاضبا كثور هائج في ساحة كوريدا، فيهجم على الرداء وينسى أن عدوّا قد يخفي عدوا آخر. فهو يرى الرداء ولا يرى “الماتادور” الممسك بالرداء، وفي يده اليمنى السهام التي سيطعن بها الثور، وفي اليسرى الغنائم التي سطا عليها. الخيار إذًا بين قتلة يُزايدون عليك في الدين، وبذريعته يُجرّدونك من حرّيّتك.. وآخرين مزايدين عليك في الوطنية، يهبون لنجدتك، فيحمونك مقابل نهب خزينتك” (70).
- يُسلّيه تأمل النساء، في تذبذب مواقفهن، وغباء تصرفهن أمام الإشارات المزورة للحب! (72)
- كان يكفي أن تُؤنّث المأساة، وتضاف إليها توابل الإسلام والإرهاب، والتقاليد العربية، لتكون قد خطت خطواتها الأولى نحو الشهرة! (73)
- فمن يُغنّي قد هزم خوفه.. إنه إنسان حُر!! (76)
- أليس الغناء في النهاية هو دموع الروح؟ (77)
- الكلّ أدرك فحوى الرسالة: كُن صامتا.. أو ميّتا (79)
- كل حكم يصنع وحوشه، ويربي كلابه السمينة التي تطارد الفريسة نيابة عنه.. وتحرس الحقيقة باغتيال الحق (79)
- فالخوف من الموت.. موتٌ قد يمتدّ مدى الحياة (103)
- الأعمى يرى بأذنيه، ولا يحتاج عينيه إلا للبكاء (109)
- إن الأسرار هي ما يساعدنا على العيش. كم يخسر من لا سرّ له! (129)
- الحياة أجمل من أن تُعلني الحرب عليها، حاربي أعداءها (134)
- الحب سطوٌ مشروع.. لا علاقة شرعية (138)
- هو لم يهبْها قُبلة.. وهبها شفتيها، فما كان لها قبله من شفتين (142)
- كانت حماة الورعة التقية، تدفن ثلاثين ألف قتيل في بضعة أيام، بعضهم دفن الوديعة في جنح الظلام. كان ثمّة زحمة موت، لذا لم يحظ الراحلون بدمع كثير. وحدهم الموتى كانوا يمشون في جنازات بعضهم (194)
- الثراء الحقيقي لا يحتاج إلى إشهار الذهب. لا يعنيه إبهار أحد. لذا وحدهم الأثرياء يعرفون بنظرة، قيمة أشياء لا بريق لها (207)
- بل أنتظركِ لأحيا (209)
- سعادته الآن في التوفيق بين حياتين متوازيتين، عليهما ألا تلتقيا، ويحتاج إليهما معا ليحيا (210)
- المال لا يجلب لنا السعادة لكن يسمح لنا أن نعيش تعاستنا برفاهية (239)
- فنحن نكبر أمام العالم، كي يكون لنا الحق أن نضعُف أمام شخص واحد (280)
- هذا الرجل لن أكسبه إلا بالخسارة (281)
- أنا امرأة من أنغام وأنت رجل من أرقام.. وليس بإمكان لون أن يجمعنا (298)
- لكأنه يحمي نفسه من الحب بأذية من يُحبّ (302)
- كلما شفيت من عبوديتها، عانت من وعكة حُرّيتها (303)
- كنا نريد وطنا نموت من أجله، وصار لنا وطن نموت على يده (321)
- لننجو من طاغية، نستنجد دوما بمُحتلّ، فيستنجد بدوره بقُطّاع طرق التاريخ ويسلّمهم الوطن (322)
- الفنّ كما الإبداع، هو في نواته الأولى بذرة انتقام (323)