يحظى هذا الكتاب بأهمية كبيرة – في تقديري – بسبب أمور عدة:
– اكتشاف طريقة جميلة للسرد الروائي أبدع فيها ميلان كونديرا عبر رحلة تكسر الطوق الزمني لمسار الأحداث، في حركة دائرية تبدأ ثم تسير قُدما ثم ترجع إلى الوراء، وبشكل مُتقن يفتح الباب أمام فهم بعض الأحداث بأثر رجعي.
– الفلسفة القوية التي ضمنها الروائي الكبير روايته هذه، وهي تحمل تصوراته الفكرية بصفته اشتراكيا متمردا على الطوق الذي ضربته الأيديولوجيا الشيوعية، في قالب وجودي يقرأ الإيمان والحياة والحب والعلاقات البشرية بطريقة مغايرة للمألوف.
– ترسيخ قناعة الإدانة لكل مذهب ديني أو فلسفي أو سياسي يفرض تصوراته على الناس بطريقة شمولية تلجأ إلى الإرهاب ومصادرة الحريات وتكميم الأفواه، حيث يمسخ الطغيان البشر ويحوّلهم إلى أدوات يستخدمها الجلاد، ويعيش المجتمع بوجوه متعددة قاسمها المشترك هو الانسلاخ من معاني الإنسانية دفاعا عن المذهب أو اتقاء لشر المخالفين. وأستحضر هنا نصا نفيسا لابن خلدون ذكره في “مقدّمة” تاريخه: “ومن كان مُربَّاه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم، سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخُبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره، خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلّمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقاً، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن، وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله، وصار عيالاً على غيره في ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها، فارتكس وعاد في أسفل السافلين. وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف، واعْتَبِرْهُ في كل من يُملك أمره عليه، ولا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به. وتجد ذلك فيهم استقراء”.
وهذه بعض المقتطفات التي لفت انتباهي واستوقفتني أثناء القراءة: [كائن لا تُحتمل خفّته، ترجمة: ماري طوق، ط.المركز الثقافي العربي، ط2/ 1998]:
“لا يمكن للإنسان أبدا أن يُدرك ماذا عليه أن يفعل، لأنه لا يملك إلا حياة واحدة، لا يسَعُه مقارنتها بحيوات سابقة ولا إصلاحها في حيوات لاحقة” (9)
“لو لم تُخرج ابنة فرعون سلّة موسى الطفل من الماء لَمَا كان العهد القديم ولا كانت معه حضارتنا! في بداية أساطير كثيرة هناك أحدٌ ما يُنقذ طفلا لقيطا. لو لم يلتقط بوليب أوديب الطفل لما استطاع سوفوكل أن يكتب أجمل مسرحياته التراجيدية” (11)
“كان يرغب فيهنّ إنما كان يخاف منهنّ. بين الخوف والحب وجب عليه أن يجد تسوية ما، تسوية سماها “الصداقة الجنسية”” (12)
“النوم المشترك هو جسم الجريمة للحب” (13)
“أن نُحبّ أحدا شفقةً به فهذا يعني أننا لا نُحبه حقًّا” (20)
“إن البطل البيتهوفيني ربّاع يرفع أثقالا ميتافيزيقية” (32)
“كانت تُحاول أن ترى روحها من خلال جسدها. لذلك كانت تنظر مرارا إلى نفسها في المرآة” (36)
“للصدفة وحدها مثل هذا السحر، لا الضرورة. وكي يكون حبنا غير قابل للنسيان، يجب أن تجتمع الصدف من اللحظة الأولى مثلما اجتمعت العصافير فوق كتفي القديس فرنسيس الأسيزي” (43)
“ذلك الذي يسقط يقول: “انتشلني”! (53)
“ارتُكبت جميع الجرائم السابقة في الإمبراطورية الروسية في حمى ظلمة من الكتمان. فنُفيَ نصفُ مليون من سكان “لتوانيا” وقُتل مئات الآلاف من البولونيين وصُفّي التتر في “كريميه”، كل هذه الجرائم بقيت في الذاكرة من دون صور تُقيم الدليل على وقوعها، فبقيتْ إذاً كشيء مُتعذّر إثباته وسيتمُّ إظهارها عاجلا أم آجلا وكأنها محضُ اختلاق” (58)
“كلُّنا ضعفاء في مواجهة قوة أعظم منّا” (64)
“لقد أوجد كلاهما، بالتناوب، جحيما للآخر، حتى ولو كانا مُتحابّين” (66)
“إن الخيانة الأولى لا يمكن إصلاحها وهي تثير عن طريق النتائج المتوالدة خيانات أخرى حيث تبعدنا كل واحدة منها أكثر فأكثر عن نقطة الخيانة الأولى” (80)
“كان الجدال يدور حول معرفة ما إذا كان يُفترض بهم أن يحملوا اللاح لمقاتلة الروس أم لا. من البديهي أن الجميع كان يُطالب هنا، في حمى الهجرة، بوجوب القتال. ولكن سابينا اعترضت قائلة: “عودا إذًا! وقاتلوا!” (83)
“كان فرانز يشعر أن حياته كانت غير حقيقية بين أوراق الكتب” (87)
“ما صادفتْهُ في هذه الكنيسة على غير موعد لم يكن الله بل الجمال” (97)
“فرانز قوي ولكن قوته موجهة فقط نحو الخارج. أما مع الناس الذين يعيش بينهم، مع أولئك الذين يُحبهم فهو ضعيف. ضعف فرانز يسمّى الطيبة” (98)
“العيش في الحقيقة”.. إنها عبارة استعملها كافكا في يومياته أو في إحدى رسائله. لم يعد فرانز يتذكر أين بالضبط. ولكن هذه العبارة تسحره. فما معنى أن نعيش في الحقيقة؟ ثمة تعريف سلبي سهل: معناه ألّا نكذب وألا نخفي وألا نكتم. وهو، مُذ تعرّف إلى سابينا، يعيش في الكذب” (99)
أما فرانز فهو متأكد أن أصل جميع أنواع الكذب يكمن في الفل بين الحياة الخاصة والحياة العامة: حين يكون المرء شخصا في حياته الخاصة وشخصا آخر في حياته العامة. فالعيش في الحقيقة، بالنسبة لفرانز، هو إلغاء الفال بين الخاص والعام” (99)
“الحبّ صراع؟ ليست لي أدتى رغبة في القتال” (108)
“يمكن لنا أن نخون أهلا وزوجا وحبا ووطنا، لكن ما الذي يتبقى حين لا يعود هناك أهل لنخونهم أو زوج أو حب أو وطن؟” (108)
“فالقبور في باريس عميقة قد ما هي البيوت عالية” (109)
“وحدها الأسئلة الساذجة هي الأسئلة الهامة فعلا. تلك الأسئلة التي تبقى دون جواب. إن سؤالا دون جواب حاجز لا طرقات بعده. وبطريوقة أخرى: الأسئلة التي تبقى دون جواب هي التي تشير إلى حدود الإمكانات الإنسانية، وهي التي ترسم حدود وجودنا” (120)
“لكي نتحاشى العذاب نلجأ في أكثر الأحيان إلى المستقبل. فنتصور أن ثمة فاصلا ما على حلبة الزمن يتوقف بعد العذاب الحالي عن أن يكون موجودا” (143)
“وعلاقات الحب هي مثل الإمبراطوريات، ما أن يختفي المبدأ الذي بُنيت على أساسه حتى تختفي معه أيضا” (147)
“هؤلاء الذين يعتقدون أن الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية في فقط من اختراع مجرمين، فإنهم يغفلون حقيقة أساسية: الأنظمة المجرمة لم يُنشئها أناس مجرمون وإنما أناس متحمسون ومُقتنعون بأنهم وجدوا الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى الجنة. فأخذوا يدافعون ببسالة عن هذا الطريق، ومن أجل هذا قاموا بإعدام الكثيرين. ثم، فيما بعد، أصبح جليا وواضحا أكثر من النهار، أن الجنة ليست موجودة وأن المتحمسين كانوا إذا مجرد سفاحين” (152)
“وكان يُفكّر أن السؤال الأساسي ليس: هل كانوا عارفين؟ بل: هل هم أبرياء لأنهم غيرُ عارفين؟ إن غبيا جالسا على العرش، أهو منزه عن كل مسؤولية فقط لأنه غبي؟” (152)
“لكم نحنُ ضعفاء أمام المديح!” (160)
“الحب يبدأ في اللحظة التي تُسجّل فيها امرأة دخولها في ذاكرتنا الشّعرية من خلال عبارة” (183)
“من الأفكار ما يُشبه جريمة اعتداء” (192)
“الأفكار أيضا يُمكنها أن تُنقذ حياة” (192)
“فشخصيات روايتي هي إمكاناتي الشخصية التي لم تتحقق. هذا ما يدفعني لأن أحبّهم كلهم ولأن أرتعب منهم في الوقت نفسه. ذلك أن كل واحد منهم عبر حدودا ليس في مستطاعي سوى الالتفاف حولها. وهذه الحدود التي عبروها (والتي بعدها تنتهي “أناي”) هي ما يشدّني إليهم. لأن في هذا الجانب الآخر وحده يبدأ السّر الذي تسبر غوره الرواية. فالرواية ليست اعترافا ذاتيا للكاتب، وإنما تنقيبٌ عمّا تصيره الحياة الإنسانية في الفخّ الذي يسمى العالم” (196)
“الحبّ هو تلك الرغبة في إيجاد النصف الآخر المفقود من أنفسنا” (213)
“اللعنة والنعمة، السعادة والشقاء، لا أحد أحس مثله فعلا إلى أي حد هذه التناقضات قابلة للتبادل فيما بينها، وإلى أي حد ضيقة هي الحافة التي تفصل بين قطبي الوجود البشري” (216)
“فلنحفظ هذا جيدا: كانت اللذة موجودة في الجنة لا الإثارة” (218)
“حين يتكلم القلب لا يعود لائقا أن يُصدر العقل اعتراضات. ففي مملكة “الكيتش” تسود دكتاتورية القلب” (221)
“قام بهذه الرحلة ليُقنع نفسه أن الحقيقة شيء أكثر من الحلم، شيء أفضل بكثير من الحلم!” (241)
“وحفر على شاهدة القبر تحت اسم أبيه الكتابة التالية: “أراد مملكة الله على الأرض”.
كان يعرف جيدا أن والده لم يكن ليستعمل هذه الكلمات مطلقا. ولكنه كان متأكدا من أن الكتابة تُعبّر بدقة كما كان يريد أبوه. ففملكة الله تعني العدالة، وتوماس كان متعطشا إلى عالم تسوده العدالة” (244)
“الطيبة الحقيقية للإنسان لا يمكن أن تظهر في كل نقائها وحريتها إلا حيال هؤلاء الذين لا يمثّلون أية قوة. فالامتحان الأخلاقي للإنسانية (الامتحان الأكثر جذرية والذي يقع في مستوى أكثر عمقا بحيث أنه يخفى عن أبصارنا) هو في تلك العلاقات التي تقيمها مع من هم تحت رحمتها، أي الحيوانات. وهنا بالذات يكمن الإخفاق الجوهري للإنسان، الإخفاق الذي تنتج عنه كل الإخفاقات الأخرى” (255)
“المقارنة بين كارينين وآدم تجعلني أفكّر بأن الإنسان في الجنة لم يكن قد صار إنسانا بعد. وبطريقة أصح، لم يكن الإنسان قد قُذف بعدُ إلى مدار الإنسان” (261)
“الحنين إلى الجنة إذًا هو رغبة الإنسان في ألّا يكون إنسانا” (261)
“ولكن تجدر الإشارة خصوصا إلى هذا الأمر: لا يمكن لأي إنسان أن يُقدّم للآخر قربان الحب البريء. وحده الحيوان يستطيع ذلك لأنه لم يُطرد من الجنة.. الحبّ بين الإنسان والكلب حبّ بريء، حبّ دون صراع ودون مشاهد ممزّقة ودون تطوّر” (263)
“الوقت الإنساني لا يسير في شكل دائري بل يتقدم في خط مستقيم. من هنا، لا يمكن للإنسان أن يكون سعيدا لأن السعادة رغبة في التكرار” (263)
“كيف تُمكن معرفة متى يصير العذاب غير مُجدٍ؟ وكيف نحدد اللحظة التي لا تعود الحياة فيها جديرة بأن تُعاش؟” (264)
“آه! أي هول! نحلم مسبقا بموت من نُحبّهم” (266)
“الهلع صدم، لحظة عمى كلّيّ. الهلع مجرّد من أي مسحة جمال. لا نرى خلاله إلا النور المُبهر للحدث المجهول الذي ننتظره. وخلافا لذلك، الحزن يفترض مسبقا أننا نعرفه” (269 – 270)
“إنها لتعزية لا تُقدّر بأن نشعر بأننا أحرار وأن لا رسالة لدينا” (278)
“هاقد وصلتْ إلى مبتغاها: كانت قد رغبت دائما في أن يصير عجوزا” (278)
“كان الحزن هو القالب والسعادة هي المُحتوى، والسعادة تملأ مساحة الحزن” (279)