د. علي بانافع
في القرن الثامن الهجري وبعد سقوط بغداد، وانتشار المغول كحكام ضعف الحس الديني في بلاد الإسلام، وبدأ التصوف يظهر ويُقَدَّر ويعطى مكانة أكبر من مكانة العلم، خاصة عند الحكام من أمثال: المغول والمماليك وحتى الترك العثمانيين، هذا التصوف الذي قام على المدائح والتغني بحب النبي وآله عَلَيْهم الصلاة والسلام، أصابه نمط من أنماط الغلو والتطرف، فبدأ يتخبط بين الغلو في البشر والتقديس، واختلطت العصمة الشيعية لآل البيت بكلامهم ومدائحهم، وجنح بعضهم وانحرف، وأخذ ينتقص بعض الصحابة رضي الله عنهم، وهكذا كانوا مدخلا للتشيع في العراق وإيران وفي غيرها من البلاد، أخشى أن يعيد التاريخ نفسه ويتكرر في بلداننا، خاصة بعد موجة التطرف التي عمت -عن قصد وغير قصد- في بلداننا العربية، وقرار صُناع الدراما التاريخية عندنا التمكين من جديد للتصوف كحل للتطرف.
الحقيقة أن تأثير الصورة أقوى وأجدى وأنفع من تأثير الكتاب؛ لذا لابد من أعمال درامية فنية وصور وأفلام وثائقية لبيان التاريخ الإسلامي، لكن هذا غير متوفر للمؤرخين الجادين، في الماضي قُدمت أفلام ومسلسلات أغراضها تجارية وفنية؛ لذلك لم يكون لها مراعاة لصحة الحدث من عدمه، ولا يهمني أن يكون هناك حشو لأحداث لم تحدث إذ قد يقتضيها السيناريو والإخراج الفني -حسب مذهبهم الفني- لكن تغيير الحوادث التاريخية وتشويهها لأهداف يرتضيها المخرج والكاتب فهذا غير مقبول، فالجيل الحالي بدأ يقرأ التاريخ من خلال المسلسلات والأفلام وهذه مشكلة يجب أن تُعالج!!
فقد شَوَهَ المخرج فيلم صلاح الدين الأيوبي -زمان جمال عبد الناصر- قضية فتح القدس وكذبوا على التاريخ لأهداف ناصرية، وكان ما أخرجته الدراما السورية بعد ذلك أحسن منه بكثير، ثم ظهر المسلسل التاريخي التركي قيامة أرطغرل، وهو يُؤرخ لأحداث ولادة الدولة العثمانية، والمسلسل طويل ومليء بأغلاط لا يحتاجه الكاتب أو المخرج، اللذين حاولا تلميع صورة ابن عربي الصوفي المغالي في عقيدة وحدة الوجود؛ بل أرجع بعض انتصارات أرطغرل إلى شيء من كرامات ابن عربي، فلم التركيز على ابن عربي وهي كذبة ما لها مستند تاريخي، فما ضرهم لو أنه أخرج رجلاً صوفياً يوجهه، وما ضرهم لو خرج رجل مغولي بدل نويان المغولي الذي إنما ذُكر في التاريخ عند فتح بغداد وليس قبلها، وما ضرهم لو قتل سعد الدين غير أرطغرل، وما ضرهم لو عاشت حليمة والدة عثمان إلى خلافة ابنه عثمان، لقد بدلوا التاريخ وغيروه من غير من حاجة لذلك، بسبب رغبة الكاتب والمخرج!!
والآن مسلسل "ممالك النار" الذي يُروج له الآن، ويجسد فترة انتقالية بانهيار دولة المماليك البرجية بمصر، وسيطرة العثمانيين عليها بعد معركة الريدانية، الجدير بالنظر في هذا الاهتمام بالتاريخ هو الشغف بالسجال التاريخي، وليس البحث عن الحقيقة التاريخية المطلقة، فلا تنتظر من المسلسل أن يقول الحقيقة، على قدر ما تنتظر رؤية المؤلف أو المخرج في الحدث التاريخي -كما مر بنا- فالحقيقة أو الرواية التاريخية المنقولة على وجه اليقين نادرة وعزيزة عند هؤلاء، وأغلب الدراما التاريخية عبارة عن مبالغات وأكاذيب افتراها مؤلفيها وكاتبيها ومخرجيها، وقس على هذا الكثير من الأعمال الفنية التاريخية الكاذبة الهزيلة، فلماذا يعلمون أبناءنا تاريخاً مُختلقاً مُلفقاً، وأنهم خُلقوا ليأكلوا ويتمتعوا تمتع الأنعام، بل خُلقوا لأمر عظيم وخطب جلل، المفروض أن نعلمهم من نحن، وما تاريخنا وأننا أصحاب قضية، وأنه ما ضاع حق وراءه مطالب، وأن نعلمهم أن الشمس لم تَغَرُبْ بل كُسِفَتْ وتُوشك أن تُشرق من جديد بإذن الله ..