تعالى:( كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ)[الأعراف:٢]
1
وبينا أتلوالقرآن استوقفتني هذه الآية كما تستوقفني غيرهابطبيعة الحال. ولما كان ذلك كذلك قلت في نفسي:ولعله استيقاف من الله لعبده لأشرع بيانا لها ولأبدا تطوافا حولها مستمدا منه تعالى التوفيق.
وذلك أنه من اللافت استهلال كثرة كاثرة من سورالقرآن المجيد بلفظ الكتاب معرفاتارة ونكرة تارة أخرى بعد الحروف المقطعة وهذا بلا ريب اتقان وبيان، وإحكام وإعظام للكتاب، ومنزل الكتاب، والموحى إليه الكتاب، وجبريل الملك الموكل بوحي الكتاب، فتلكم منظومة انتظم الكتاب بها، فحق له أن ينال قسط بيان!
واستهلال سورة من القرآن بلفظ الكتاب استشرافا بعظمته وتيمنا ببركته وتبركا بتلاوته. وهو بكل لجدير! فإنه تعالى منزله قال عنه:( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ)[الحجر:87 ]فبانت عظمته! وقال عنه أيضا:(كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)[ص:29]فأشرقت بركته! واستنهاض الهمم لبيانه حق واجب ودين لازم.
ولئن كان لاريب تألفه من حروف العرب المعهودة بنظم فريد وبيان مجيد أعجزبلغاءها وأفحم فصحاءها فلربما كان ذلكم من سر مجيئه بعد تيكم الحروف المقطعةإمعانا في التحدي واستغراقا في الإعجاز. فهاتوا من مثله سورة! أو آية! لواستطعتم إلى ذلكم سبيلا، فإنه من حروف عهدتموها،ومن ألفاظ كتبتموها!
وما أمكن أحد تأليف بعض منه!فإن له ظلالا وارفة وآفاقا واسعة بلغت من الحسن المبلغ الجميل وتسامت سموه آفاق الآفاق فكان كتاب الله متألقا متفردا! على بعض نظمه من غيره تعالى مستعصيا.حتى لكأنك تراه قد خضعت له الأعناق وذلت له الرقاب. وأي بون ينصب لواء المقارنة؟! بل أي زعم يعقد زمام المفاضلة؟!
وبلغ من منزلته أن أُسمي كتاب الله!قال الله (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَوَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُور)[ص:َ29] فأسند الكتاب إليه تعالى فمنه نزل وإليه يعود. وهو إسناد تشريف بلغ بالكتاب غايته، وهو كذلكم إسناد تعظيم كشف به إحاطته. لأنه تعالى(بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ)[فصلت:54].
وبلغت بالكتاب منزلة وأبانت له مكانة أنه(فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ)[الواقعة:78 ] فهوكتاب نقرؤه من كتاب مكنون عند باريه، محفوظ من لدن تاليه تعالى. قال الله:( ذَٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ)[آل عمران:58 ]ولأديب أن يسبح،ولأريب أن يصدح،في آفاق(مكنون)ليدرك فروقا بين لفظي(محفوظ) (و(مكنون)! من حيث أنا نقول محفوظا إذا كان غير عزيزفإنه يحفظ بالعين، وهو ظاهر للناس.ونقول مكنوناإذا كان شريفا عزيزا لا يكتفى بالصون والحفظ بالعين بل يستر[التفسيرالكبير:الفخرالرازي].
وهواختيارالله.وحسبنا!.
وكتابه تعالى منتظم في آيات!وحسبنا أنها آيات مفعمات بالآيات. فكله آيات وظلال وارفات وكتاب غيره تعالى منثور في جمل وعبارات حوت أم لم تحو من آيات وهي آيات لاكأية آيات لأنها آيات الله(تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)[البقرة:252 ]محكمات مفصلات(كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ)ممن؟!(مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِير)[هود:1]!.
وقوله تعالى(كتاب) يشير إلى انتظامه كتابا مؤتلفا منسقا محكما متقنا لاجمع شتات ولادخيلة تأليف بشري أو جمع محمدي! كما قد قالوا مفترين(وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)[الفرقان:5 ] ولو كان منه كذلكم إدعاء لظهر فيه عوج مما لايخلو منه عمل بشري.ذلك أنا نتلوه (قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)[الزمر:28 ].
ومهما يكن من أمر فهو(كتاب).وحسبه ذلك.ولكن القوم يكابرون.إذ إنه لم يخرج عن عداد ما أنزل الله تعالى من كتب سابقة عليه آمن القوم بها من مثل توراة حرفت أو إنجيل بدل. إذن ماضيركم لو آمنتم به وكان لكم شرف المسارعة إلى ذلك؟وتعلمون أنه ليس بدعا من قول، وبلغ من يقينكم ذلك إنصاتكم له استراقا؟!
وورود(كتاب)على وجه التنكير موضعه هذا عهدا. كما عهد نزول غيره من(كتاب).أو تعظيما له كما عهد ذلك عن العرب أيضا. وكلاهما(العهدية والتعظيم) كاشفان عن شرف الكتاب وأهميته في نهوض القوم به وبلوغهم السؤدد والقيادة والرئاسة. وهم مستغنون به أيما استغناء لوأرادوا!.
وتنكير(كتاب)كما يشيع في الآية الكريمة جوا من موجبات العظمة اللائقة به كونه(كتاب الله) فإنها لتشيع فيه وصفه بها أيضا. لتأتلف معاني التعظيم أصلا ووصفا ليصدق عليه قوله تعالى(وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ)[الحجر:87 ]
والعظيم متبوع. فما بال قومي اتخذوه مهجورا حكما به وتحاكما إليه؟!
وتنكير(كتاب)موح باستجماعه معاني البلاغة والبيان والفصاحة حتى ليكاد كل ذلك ليأسر القلوب أسرا وحتى لا يمكن أن يصدر عن بشر! وهو ما أعجزالناس في القديم وفي الحديث.ومن حيث نزوله على محمد الأميِ وماعرف عنه علم بالكتابة! الصادق وماعهد منه إلا صدق! إذ كيف له استجماع إبانته وأني له استحضار بلاغته مالم يكن من الله تعالى مؤيدا؟!
ومجيئ(كتاب)منونا غاية في البيان وغاية في الحسن وغاية في الجمال وغاية في التعظيم! لما عهد عن العرب تعظيم بتنوين وتعظيم بتنكيرمعا. وحيثما كان الأمركذلكم ندرك سرا من أسرار مجيئه نكرة تقبل التنوين لتكون دلالة التعظيم مركبة.ف(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)[الفرقان:1].
وتنوين(كتاب) مقصود رباني وإتقان إلهي. ذلك أنه يهب الكلام جرسا ويكسبه إيقاعا ليأخذ بتلابيب قارئه وليأسر لب تاليه!وإنه ليمكن للكلام تمكينا. وزيادته بحرف النون عوضا عنه حتى لكأنك تشعر بزيادة معان نظيره وحتى لكأنك لقائل: وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى. و(...هَٰذَا الْقُرْآنُ...)[الأنعام:19]و(قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُوَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)[الإسراء:88 ].
وبان إذن سر اختيار(كتاب) نكرة لامعرفة لتؤدي النكرة دورا لم تكن لتؤديه كلمة(الكتاب) معرفة مع أدائها لدورها المنوط بها حين اختيارالله تعالى لها في موضعها أيضا حتى لايمكن للنكرة أن تقوم ببيان ما أبانته المعرفة في مكانها وما استحضرته من كنوز في مظانها!(لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ)[يونس:64]. سبحانه!.
وذكر الكتاب في القرآن استهلالا، أوتبركا به؛ تعبدا وقراءة واستشفاء وحكما به وتحاكما إليه. قال الله تعالى(كتاب أنزلناه إليك مبارك...)[ص:٢٤] فالكتاب كله مبارك. وقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم(تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَاحَسْرَةٌ ولا يستطيعها الْبَطَلة)[رواه الإمام أحمد].والبقرة بعض القرآن وهي بركة.فمابالنا بالقرآن كله؟.
وسواء أكان(كتاب)خبرا لمبتدأ محذوف تقديره (هو) أو (ذلك) أو أنه مبتدأ خبره هوجملة(أنزل إليك) أو أنه موصوف بها أو غيره؛ فذلكم يبقي على تأثيره في التصويرالبياني لما يشيعه في الجو من ظلال وارفة تنبئ عن أهميته وبركته أيما اعتمد عليه نحويا ليبقى هو القرآن بايقاعه وأدائه وجرسه ولفتاته المعهودة.
وجملة(كتاب أنزل) تشكل لوحة تصويرية جميلة مستقلة بذاتها وكأنما يكتسي الكون به هدوءا وسكونا، وكأنما ينزل بأمر عظيم. وهو بلاشك كذلك-عظيم- لأنه(كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِالْحَمِيدِ)[إبراهيم:1 ].وإنزاله دال على علوه كما أنه دال على علو منزله تعالى علو ربوبية وألوهية وقهر وغلبة وسلطان.
وكونه(أنزل)مبنيا للمجهول لدلالة الحس والمعنى ألامنزل له سواه تعالى.وهو تفردعجيب نلمحه من دلالات هذا القرآن. وحق للجن أن قالت(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا)[الجن:1]ومن تفرده أيضا تيكم الطلاقة في القدرة ألا يجول بخاطر أحد منزل للقرآن سواه سبحانه. كما أن فيه من التعظيم له تعالى مايليق بسلطانه القديم.
وحين الكلام حول كون الكتاب(القرآن)منزلا نستصحب معنا الملك جبريل عليه السلام أمين الوحي. على أنه لايذكر كثيرا أيضاً للعلم به. كما نستحضر وحدة مصدرالتلقي كونه من الله تعالى وحده. فهو(يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير)[الملك:14].وما ضل قوم إلا حين اتخذوا مصادرللتلقي معه أو من دونه تعالى.
