في الساعة السابعة تماماً من أحد أيام الشتاء، طرق باب المنزل، والأولاد يستعدون للذهاب إلى المدرسة. فهرع الأولاد إليّ يخبرونني بأن امرأة تبكي على الباب وتسأل عني شخصياً. فخرجت إليها مستغرباً فزعاً، فإذا بها تقول لي: إن زوجي يصلي وراءك في صلاة الفجر، ومع هذا فهو يريد من ابنه أن يطلق زوجته، وهي أم لثلاثة أطفال، أتعرف لماذا؟ فقلت: لا، قالت: بسبب خلافه مع أبيها. فقلت: وهل الطلاق يملكه الابن أم الأب؟ فقالت: إن زوجها أب متسلط ظالم، فقد طرد زوجة ابنه من البيت لتذهب إلى بيت أهلها مكسورة الخاطر مطرودة، لأنه يريد إذلال أهلها والانتقام منهم، واحتجز الأولاد عنده في البيت، ومنعهم من رؤية أمهم، وأصر على ابنه الذي لا حول له ولا قوة من أن يطلق زوجته.. وعلاوة على ذلك فإن الأولاد صغار، وهم بحاجة إلى رعاية لصيقة من أمهم، وهم في بكاء مستمر وخاصة الولد الصغير الذي لا يجاوز سنه سنتين!!.

فقلت: وكم مضى على حجز الأولاد وطرد الأم؟ قالت: أكثر من عشرين يوماً، والأولاد يبكون ويتضاغون عندي، وأنا لا أملك لهم شيئاً ولم أعد أتحمل خدمتهم، ولا أستطيع حتى أن أفتح الموضوع معه وإلا أطلق أنا الأخرى في هذه السن المتأخرة!! فأي صلاة وأي دين يرضى بهذا الجحيم الذي نعيش فيه؟؟. وقبل أن تغادر البيت أخذت عليّ العهود والمواثيق أن لا يخبر زوجها بقصة مجيئها وشكواها، وإلا فإنها ستلاقي عنده مصيرها المحتوم من الطرد والإهانة والطلاق..

الزوج مغلوب على أمره، والزوجة طردت قسراً لبيت أهلها، والأولاد صغار وهم بأمس الحاجة إلى رعاية وعطف وحنان أمهم، والجدة المسنة لم تعد قادرة على تربية الأولاد ورعايتهم، والجد ظالم بطاش، لا يراجع ولا يناقش حتى ولو كان على الباطل.. إنها حقاً مأساة تعيشها تلك الأسرة.

استشرت أحد الأخوة المصلين ممن يلوذ بصحبة لذلك الرجل، في أن نقوم بزيارة لبيته كانت قد تأجلت مراراً، فاتصل به وأخبره، فسر الرجل كثيراً ورحب بالزيارة.

وبينما نحن في ضيافة الرجل إذا بصوت الأولاد الصغار يبكون يريدون أمهم، فتظاهرنا بعدم معرفتنا بالخبر، وتساءلنا عن سبب بكائهم، وبدأنا نسحب منه خيوط الكلام ليخبرنا بنفسه عن قصته..

فقال إن أحفاده في زيارة لبيته، وهم مسرورون كثيراً عنده، وقال بأن أمهم قد اضطرت لزيارة بيت أهلها منذ مدة للقيام على تمريض أحد أبويها. عند ذلك حاولنا التدخل بقولنا: إن الأولاد صغار، وإن بكاءهم يقطع القلوب، وإن الولد لا يمكن أن يسعد بدون أبويه مهما قدم له من الأطعمة والأشربة، فهو بحاجة لغذاء روحي بعيداً عن كل لعبة أو نزهة يمكن أن تؤدى له، فلا يستغنى عن رعاية الأم مهما كانت الأسباب، وبإمكان الأم أن تقوم بواجباتها تجاه من تريد بدون أن تترك هذه المهمة المقدسة في العناية والاهتمام بأطفالها وصغارها..

وبالفعل بدأ قلبه يلين شيئاً فشيئاً، وهو يقول: هكذا ترون؟ هكذا تشيرون عليّ؟ ونحن نزيد من إصرارنا وتأكيدنا على ضرورة أن يعود الصغار إلى أمهم. والحمد لله فقد تمكنا بعد أقل من ساعة أن نقنع الرجل بأن يخلي سبيل الأولاد وتبرعنا بأن نذهب بهم إلى بيت جدهم الآخر لنوصلهم إلى أمهم..

ولكم أيها السادة أن تتخيلوا فرحة الأولاد وصياحهم عندما بدؤوا يبدلون ملابسهم استعداداً للقاء أمهم، أكبرهم كان في الصف الأول الابتدائي، وتليه ابنة في الخامسة من عمرها، ثم طفلاً صغيراً في الثانية من عمره..

في الحقيقة أيها الأخوة، فإنني لا أستطيع أن أصف شعوري في تلك اللحظات، إلا أنني لم أستطع أن أغالب دموعي، وهم يهمهمون بأنهم سيلقون أمهم بعد طول غياب، وعندما أتت الصغيرة وقد لبست على عجل ملابس قديمة، ولبست حذائها بالمقلوب وهي تطير من الفرح، فأين أمها لتصلح لها هندامها، وتعتني بلباسها ومظهرها؟ ولكم أن تتخيلوا الفرحة على وجوه الأولاد، وقد تعالت ضحكاتهم، وأنا أتخيل أن جدتهم من وراء الأبواب قد فرحت لفرحهم وسرت لسرورهم..

أخذنا الأولاد وانطلقنا بهم في طريق طويل نحو الجد الثاني، الذي استقبلنا أحسن استقبال، وسمعنا زغاريد الفرح تطلق من داخل البيت وبدأت دموع الفرح تنساب مع البكاء والضحك، وكأن البيت دبت فيه الحياة من جديد..

أما والد الأولاد، الابن البار بأبيه، فكان ممنوع عليه أن يحضر هذا المنظر المؤثر، وكان ممنوع عليه أن يحترم امرأته أو يحبها، بل من الواجب عليه أمام أبيه أن ينهرها ويشتمها بين الفينة والفينة ليسعد أباه وينال رضاه!!.

عَنِ ابْنِ عُمَرَ t قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ».[1] وإن تسلط الأزواج على زوجاتهم، وقيامهم باستغلال أبنائهم ظلماً وقهراً بحجة الرضا والغضب، كل ذلك سوف يحاسبون عليه يوم القيامة، ولا يظلم ربك أحداً.

ولقد حذر الرسول الكريم r من مغبة التسلط والجبروت على الآخرين حتى لا يكتب عند الله من الجبارين الذين تحرم عليهم رائحة الجنة. فقال عليه الصلاة والسلام: إن الرجل ليدرك بالحلم درجة الصائم القائم، وإن الرجل ليكتب جباراً وما يملك إلا أهل بيته. [2]

د. بشار القهوجي

[1] . أخرجه مسلم.

[2] . أخرجه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية والديلمي عن علي.