Image title

          دون أي إنذار أصبحَت كل حركاتي بحساب وعليَّ أن أحسب، لم يعد بوسعي أن أفعل ما أريد، فكل من حولي ينظرون إلي نظرةً لم أعهدها..

لم أكن أظنُ أنني سأكونُ قدوةً لأحدٍ قبل أولادي على الأقل، ظننتُ أن الأمر بعيدٌ، فأين ومتى سأتزوج وثم أنجبُ طفلاً ويكبرُ هذا الطفل ثم ينظرُ إليَّ على أني قدوته.


       اليوم هو أول يوم لي في العمل، جاء المديرُ الجديد! جاء المديرُ الجديد!.. بدأت هذه الكلمة تترددُ عبر الصفوف وبين الطلاب، والجميع يختلسُ النظر إلى المكتب ليراني، تمنيتُ لو أنيّ أستطيع أن أرى نفسي كيف أبدو كمدير

يا للسخف...


         قيام..!،  -صاحت الأنسة وأنا أدخل إلى الصف- شعرتُ عندها بعظم العبء الذي حملته، لم يقم لي أحد بهذا الشكل من قبل، كان شعوراً سيئاً بكل ما تحملُ المشاعر من معاني، عرفت عندها لم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يقوموا عند دخوله تعظيماً له وتذكرت الحديث الذي قال فيه: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم).

جمدتُ للحظةٍ ثم قلتُ لهم: جلوس.

كان الجمالُ يعمُ كل شيء، براءةٌ لم أعهدها خلال أربع سنين عشتها قبل في الغربة، لم أر فيها إلا المصالح تطفو فوق كل شيء، لا ينظر إليك أحدهم إلا بنظارة الربح والخسارة، ماذا سأستفيدُ منك أو ما الذي ستسلبني إياه، أما في عالم الأطفال هذا غير موجود أو ربما ليس بهذا الشكل البشع الذي كنتُ أعيشُه، عالمُهم له أبعادٌ أخرى وزوايا كانت قد دُفنتْ في دفاترِ مذكراتي وخيالاتي البالية، لم أعتقد ولو للحظة أنيّ سأفتحها وأعود لها ذات يوم.


أنا اليوم قدوة لثمانين طالباً ودون إنذار ولكن كيف؟

كيف سأكون قدوة؟

كيف سأقولُ لطلابي أن فرقعة مفاصلِ الأصابع عادةٌ سيئةٌ وأنا أفعلها؟.

كيف سأقنعُ طالبي أن لا يميل بالكرسي إلى الوراء وأن يُبقي الكرسي على أربعة قوائم كي لا يقع وأنا دائماً ما أفعلها ودون وعيٍ مني؟.

كيف أقول لطالبي عليك أن تجيب المؤذن عندما تسمع الأذان وبعده عليك أن تقول دعاء الوسيلة وأنا بالكاد أقوله.

كيف أذكره بأن عليه أن يذكر اسم الله على كل ما يأكل وأنا لا أذكر أن أقول بسم الله إلا بعد أن أشبع هذا إذا تذكرت.

كيف؟.

وهناك بعض الأخطاء لستُ أفعلها ولكن كيف سأكون قدوة وأنصحهم بالابتعاد عنها؟، فمثلاً.

كيف سأُعلمُ طلابي الذين آخذهم إلى صلاة الجمعة كل أسبوع أن الكلام في أثناء الخطبة ممنوع ويذهب الثواب، وهو يرى معظم الناس حوله يتحدثون أثناء الخطبة؟.

كيف سأوصل لطالباتي أنّ إطالة الأظافر مكروهةٌ، وهن يرين كل يوم أنستهن التي غدت يداها كيديِّ لبوةٍ زُرعتْ أظافرها بعنق شادنٍ بريٍ فطلتْ أظافرها من دمه وجاءت إلى المدرسة دون أن تزيله؟


بعض أمور الحياة أصعبُ حتى من أن نتصورها بشكل مثالي.

حقٌّ يقال: المثاليةُ وهم...

الكمال لله وحده ولكن هذا لا يعني أن أترك أخطائي كما هي.

 

       وفي زمن قياسي كسرتُ حاجز الخوف وأزلتُه تماماً بيني وبين طلابي فقط الحبّ. الحبّ ملأ كلَّ الفراغات بيننا، تعال أحدثك عن الحب: ففي ثاني يوم لي في العمل تأتيني وردةٌ من إحدى طالباتي الصغار، قدمتْ لي الوردة وقالت: هذه لكَ يا أستاذ. لوهلةٍ شعرتُ أنَّ الدنيا مُلِئَتْ حباً وسلاماً ونسيتُ كل الحرب التي عشتها والغربة التي قضيتها، قبلتها وشعرت بحنين ما بعده حنين. وفي ذات اليوم أعطتني إحدى الآنسات عصاً، أمسكتها بأصبعين فقط، شعرتُ وكأنني أمسكتُ إحدى أفاعي موسى وسحرة فرعون بيدي، نظرت إليها وإلى الأنسة، شعرَتْ الأنسةُ باستغرابي وبسرعةٍ قلتُ للأنسة: للأسف فأنا لا أجيد استخدام العصا. رميتُ العصا من يدي ومضيتُ. دعك من الخرافات وأقوال الجدات فالعصا لم تخلق من الجنة بل هي من النار قطعاً.

لكَ نصيحةٌ عندي: استعد من اليوم ليومٍ ستكون فيه قدوةً لمن ترعى فكما قال الصادق المصدوق (كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته)، فالقدوةُ ثقلٌ وعبءٌ نحملُه دون إرادةٍ منّا وعلينا أن نكون له أهلاً ونكونَ بحقٍ قدوةً لمن يقتدي بنا.

#فبهداهم_اقتده.

نائل عقيل